احداث تافهة عاصرتها
أنها كانت المتنفس والفسحة الوحيدة لنا من العمل والتعب طيلة ايام السنة، اذ كنا نحضر قبلها اكبر كمية من العلف للحيوانات لتبقى في الزريبة طيلة ايام الصوم الثلاث بالاضافة ليوم الجمعة والذي يكون فيه العيد و وداع فترة الاستراحة تلك. الايام الثلاثة للصيام نقضيها في لعب ” الكه ورك” و” الكه اب” اضافة الى الالعاب التقليدية الاخرى كالـ”جه لو ” و” الجقاني”…الخ من الالعاب والتي غالباً ماكان يراهن فيه بعض النقود لزيادة الحماسة لحين ساعة الفطور مع غروب الشمس._هكذا روت لي جدتي ذكرياتها عن الصيام في ايامها_
العادة اعلاه استمرت مع الايزيديين رغم تخلص معظمهم من مواشيهم وتحول اغلب افراد العوائل الزراعية الى جنود في الحروب الكثيرة لهذه البلاد او اصحاب مهن حكومية بسيطة، كذلك حل لعب الورق والدمينو والطاولة محل تلك اللعب القديمة، ورغم ان معظم المجتمع لديه بطالة مقنعة، الا ان ايام الصوم هذه كانت تزيد من كسل الاغلبية العظمى لدرجة تصبح معظم المجمعات القسرية الايزيدية عبارة عن ساحات مفتوحة للعب القمار، وكان يظهر هذا بوضوح عند ” الاسواق العصرية” والكازينو وقرب جدران المدارس، والتي تكون غالبا هذه البنايات في وسط كل المجمعات وبتصميم وتنسيق متشابه.
كانت الشرطة المحلية تدخل بين الحين والاخر لتفريق المتجمهرين والقاء القبض على بعض الافراد بشكل عشوائي وتوقيفهم لساعات في بناية المخفر لكون القمار الجماعي دون ترخيص فعلٌ ممنوع.
كان المقامرين ” الاكثر حرصاً على سمعتهم ” يلعبون في بيوت ودكاكين مخصصة لهذه الايام ، والطريف في هذا المجتمع ان المشاجرات والمسبات واللعن والقسم الكاذب في هذه الايام المقدسة و التي كانت تطلق بسبب المراهنات والخسارات اكبر بكثير من الايام الاعتيادية الاخرى!.
حاول بعض وجهاء العشائر في بداية التسعينات من القرن الماضي بأصلاح بعض السلبيات الموجودة في ايام الصوم وجعل الشباب والمراهقين يبتعدون عن القمار بأقتراحهم جلب ” الطبل والزرنة” الى ساحات المجمع لكي “يدبك” الصائمون لحين الفطور! وكادت العملية ان تنجح، الا ان المقامرين ادخلوا خلسة بعض لعب خفة اليد و”اللكاوة” في وسط تلك الدبكات ومن ثم شيئاً فشيئاً تسلل الورق مرة اخرى الى الساحات وكأن شيء لم يتغير.
في ايام الصوم من شتاء سنة 1996 جربنا حضنا نحن الاصدقاء الثلاث( انا ونزار ونوزت) في الذهاب لمجمع خانصور في ضيافة بيت خالي والتوجه بعد الافطار مباشراً لدكانة (خدر كالو) والذي رحب بنا واستضافنا على اكمل وجه ودعانا الى الغرفة الجانبية للاعبي الورق والتي تقدم لزبائنها بالاضافة الى الجرزات والفواكة الشتوية المتوفرة قنينة بيرة محلية ” لؤلؤة” بين استراحة واخرى.
كان نزار اكبرنا واكثرنا ادعاءاً بفهمه لـلعبة الورق(21) الشهيرة، وكنا نموله بين جولة واخرى بما لدينا من مال الى فجر اليوم التالي لنخرج من الدكانة مرهقين متعبين تتبعنا رائحة دخان السكائر ولندرك بعد الخروج باننا لا نملك ثمن اجرة سيارة العودة الى سنجار بعدما ان خسرنا ما يقارب (20) الف دينار وهو مبلغ كبير بالنسبة لنا حينذاك !. بحثنا عن سائق شهم يوصلنا للمنزل لندفع له الاجرة مع بقشيشٍ محترم حتى لا يكشف سر خسارتنا تلك .هذه القصة وبتفاصيل ادق حكيناها لصديقنا الخبير بشؤؤن الخسارة في هكذا ايام ( ماهر كرابيت) والذي سرد لنا بدوره عن خساراته المتكررة في ايام الصوم الايزيدي اذ قال: كنت اتحضر قبل هذه المناسبة بأسابيع وانا المسيحي التي لا تعني لي هذه الطقوس بشيئاً سوى صحبة الاصدقاء والجيران واجرب حظي كل مرة في احدى المجمعات التي لم ازرها وحال خسارتي هناك اتجنب زيارة ذلك المجمع في السنة التالية تجنباُ للفال السيء وهكذا دواليك، وكانت اهم حيلي التي استعملتها هو تعلمي للعبة البوكر في بغداد ، والفكرة التي راودتني حينها بأن انقل اللعبة الى سنجار، وبما ان اللاعبين هنا مبتدئين على فهم قواعد هذه اللعبة فهذه فرصتي للكسب، وبالفعل جمعتُ كل من لديه الرغبة في تعلم اللعبة والمقامرة الحديثة وحب الخسارة دون منطق، جمعتهم على تلة “برج وكه لاهي” وافهمتهم اللعبة وتفاصيلها وكسبتٌ مبلغاً محترماُ في اليوم الاول ومبلغاُ اقل في اليوم الثاني…ثم ينفجر ماهر كعادته ضاحكاً وهو يكمل قصته: رجعت للبيت في اليوم الثالث وقد خسرته ما كسبته في اليومين الاوليين واصبحتُ مديوناً لجورج وغازي فيصل ببعض المال!.
_وماذا فعلت في السنة التالية يا ماهر؟ّ!
_ اخترت مجمعاً جديداُ لأجرب حظي هناك…اظنه مجمع تل قصب.
_ وكيف جرت الامور معك حينها؟!
_اعطيتُ بقشيشاً جيداً للسائق الذي اوصلني ! .