عقد اجتماع مطول ضمن أروقة وزارتي الخارجية والدفاع الأمريكيين، وبحضور ممثل عن البيت الأبيض والسي أي أيه، قبل مرحلة التدخل المباشر في سوريا عام 2014م وكانت للأخيرة حضور ملفت، على خلفية نشاطاتها في سوريا منذ بداية الأحداث، وتدخلها غير المباشر لتغيير المسيرة السياسية حسب مصالحها الإستراتيجية في الشرق الأوسط.
ففي إحدى الحوارات، قدم أحد الذين قضوا قرابة سنتين ضمن الحوادث، رؤية حول مستقبل سوريا، وما يتوجب عليهم فعله، ونبه على أنهم لا يملكون حتى اللحظة استراتيجية واضحة حول ما سيكون عليه وضعهم عند التدخل العسكري، بعد فشلهم الاستخباراتي والسياسي في دمشق، وغياب الأصدقاء الذين سيعتمدون عليهم؟ في الوقت الذي تملك فيه المنظمات التكفيرية (داعش والنصرة ومجموعات القاعدة، والتي تحكمت في قيادة المعارضة السورية) إستراتيجية واضحة وصارخة، مبنية على إيمانهم بمحاربتنا ككفار، وإقامة الدولة الإسلامية، دستورها كتابهم، أي القرآن، وعلينا ألا ننسى أن البيئة الثقافية-الاقتصادية خصبة لتقبلهم كأسياد لإقامة نظام إسلامي-سياسي راديكالي في المنطقة، مع ذلك سندخل وسنحاربهم، وهدفنا القضاء عليهم، بدون وضوح رؤية. هل علينا أن نجازف قبل تحديدنا للقوة المحلية التي يؤتمن عليهم والذين يجب أن يتعاملوا معنا بمصداقية، فهل ونحن بهذه الحالة ومع الخسارة التي منينا بها في عام 2012م سنعيد تركيبة علاقاتنا مع القوى السورية، من هم هؤلاء وإلى أي مدى سندعمهم وسنتعمق علاقاتنا معهم؟
وعلى أثرها قدم اقتراح، متشعب الأبعاد، باهظ التكاليف، من أهم نقاطها: نشر قرابة مئة وخمسين ألف جندي وخبير وموظفي شركات ومنظمات إنسانية تابعة لهم، لبناء نظام ديمقراطي، ونشر ثقافة عصرية تقف في وجه المفاهيم التكفيرية والإسلام الراديكالي.
رفضت الفكرة من قبل الوزارتين، لضخامة التكاليف المتوقعة بالنسبة للمنطقة، والتي ستتجاوز سويات أهميتها لمصالح أمريكا، إلى جانب ما ستكون عليه ردة فعل الدول الإقليمية. وكرد فعل وبلا مسؤولية طرح البديل، على أن تسحق المدن (ذكر أسم الرقة كمثال) التي تسيطر عليها القوى التكفيرية، فكانت ردة الفعل من المسؤولين عنيفا، تم تلطيف الحوار، بطرح البديل الأخر، وهو أن يستمر الصراع ضد المنظمات، بالشراكة مع القوة التي ستعتمد عليها، بحيث لن تتمكن تلك المنظمات من الهيمنة على المنطقة، حتى ولو ظلت كخلايا نائمة لكن دون مستوى التأثير على الأمن الداخلي للدول الأوروبية وأمريكا.
توافقت الآراء حول القوى الكوردية كبديل بمصداقية عالية، بعد الفشل الذريع لمحاولتين واسعتي الأبعاد مع القوى العربية، عسكريا، والتي كانت تتضمن بناء معسكرات تدريب وتجنيد المهجرين السوريين، مع ورواتب مغرية، وتخصيص قرابة نصف مليار دولار سنويا من ميزانية وزارة الدفاع، وكان عراب الحالتين مع قوى المعارضة العربية وزير الدفاع الأمريكي الحالي، وللأسف وبدون معظم المصاريف السابقة تم التحالف مع الكورد، في مرحلة كانوا بأمس الحاجة إلى الدعم الأمريكي، من تمدد داعش المتسارع، في المنطقتين الكورديتين، وبقوة أربع فرق عسكرية عراقية حديثة التقنيات ودبابات فوج الملبية السورية التي سلمتها لهم بدون مواجهة، إلى التهديدات التركية الإيرانية وأدواتهما المستمرة، وتخلي روسيا عنهم.
تنفس الكورد الصعداء مع التحالف الأمريكي دون شروط مسبقة أو طلب أية مساعدات ثقافية أو سياسية أو اقتصادية، وعلى أسسها أستمرت العلاقة إلى اليوم، ومع الزمن ازدادت الحاجة الكوردية إلى قوى التحالف بدون شروط، على خلفية الصراع الكوردي الداخلي وتصاعد تدخل القوى الإقليمية ومحاولاتهم القضاء على المكتسبات التي حصلوا عليها بعد انتصارهم على داعش عسكريا.
وفي العودة إلى ما طرحه عضو السي أي أيه، نلاحظ أن المنظمات التكفيرية (داعش والقاعدة والنصرة) خسرت عسكريا ومعهم أحزاب الإخوان المسلمين سلطاتها، بعد صراع مرير وتضحيات جسام من قبل الكورد، لكنها تربح ثقافيا واجتماعيا، ولا تزال، مقارنة بالوجود الأمريكي والتي لا تزال متمسكة بالإستراتيجية الثانية، وإهمالها العرض الأول لعنصر المخابرات المركزية. يوما بعد أخر تمتد مفاهيم القوى الإسلامية التكفيرية، والراديكالي الإسلامي السياسي، وتتشعب ضمن معظم المجالات وخاصة الثقافية والاجتماعية.
الجميع يلاحظ أن المجتمع، بشكل عام وخاصة المكون العربي في المنطقة، يرفض يوما بعد أخر المفاهيم الحضارية، ويتقبل الأفكار الراديكالية وثقافة المنظمات التكفيرية (ونحن هنا لا نتحدث عن الإسلام كدين بل عن المنظمات التي تؤول النص لمصالحها وغاياتها ولسيادة سياسية) يمكن الحكم على هذا من خلال أبسط الأشياء، كلبس النساء، وحيث تزايد المحجبات حتى غير المتدينات، ونسبة الذين يؤمون الجوامع ويستمعون إلى الأئمة التكفيريين، والعامة الذين يحتشدون ويحتفلون بالمناسبات الدينية، كالتي تمت في مناسبة مولد الرسول، خاصة في السنوات الأخيرة، ومنها ما يجري في عاصمة إقليم كوردستان الفيدرالي، والتي لم يكن لها ظهور في السنوات السابقة لداعش، الإقليم الذي تضاعف فيه بناء المساجد أربع مرات خلال عشر سنوات، وجل خطبها تطفح بمفاهيم الإسلام السياسي-الراديكالي، وتزايد عدد نواب القوى الإسلامية في البرلمان، وهي ذاتها التي تدفع بالألاف من النساء على لبس الحجاب. إلى جانب المسيرات المناهضة بين شعوب المنطقة عامة، لكل ما ينشر ضد أوروبا وأمريكا واليهود من البعد الديني، بل وفي معظم دول الشرق الأوسط، كالتي تظهر بين فينة وأخرى في شمال كوردستان، أي التكفير والجهاد ضد الكفار وإسرائيل. وخير مثال على تمدد المنهجية المتطرفة التكفيرية، ما تم بحق الإيزيديين والمسيحيين في المنطقة والتي لا تزال مستمرة بأشكال مختلفة وهي أكثر من ظاهرة في منطقة عفرين-غربي كوردستان، المؤدية إلى تناقص عددهم من قرابة 25 ألف إلى أقل من ألف شخص، مع الاستيلاء الكامل على قراهم وممتلكاتهم وتدمير مراكز العبادة. كما ويتصاعد التمجيد بكل ما يصدر عن أنظمة الدول الإسلامية مهما كانت غارقة في الفساد والطغيان والدكتاتورية.
انتصرت أمريكا والدول الأوروبية في معظم ساحات المعارك لكنها خسرت في أيقاف المد الفكر الإسلام السياسي الراديكالي، وعجزت في تأمين الحماية لشعوبها. قضت على معظم قيادات التكفيريين، لكنها خسرت راحة شعوبها، وهنا لا نتحدث فقط عن موجات الهجرة، بل الأمان، إلى جانب غياب سهولة السفر والتنقل والرفاهية التي كانوا يتمتعون بها. حصرت أمريكا وأوروبا الدول والمنظمات الإسلامية وخاصة المتطرفة؛ اقتصاديا لكنها جاءت على حساب حركة مطاراتها وخطوط مواصلاتها البرية ومداخل دوائرها، هذا ما كان يتحدث فيه عنصر المخابرات المركزية، والتي يدركها معظم سياسييهم.
ظلت الأنظمة الشمولية الدكتاتورية كالأسد وإيران والطلبان وأردوغان مهيمنة، وانتصرت القوى الظلامية في نشر مفاهيمها، وبالمقابل خسرت الشعوب ثوراتها، مثلما خسرت المخابرات المركزية الأمريكية (سي أي أيه) في سوريا بدءً من تاريخ 18 تموز عام 2012م وحتى بداية التحالف مع القوى الكوردية، أي لحظة قصفهم لداعش في مدينة كوباني، وكانت هذه بداية إعادة اعتبار (المخابرات المركزية الأمريكية) لذاتها في سوريا عامة، وللكورد دور لا يستهان به، إن كانت في غربي كوردستان أو جنوبه، تدركه معظم القوى السياسية الأمريكية والأوروبية وروسيا، ولربما هذه واحدة من الأسباب التي جعلت القضية الكوردية من البنود الرئيسة في معظم المحافل المعنية بالدول المحتلة لكوردستان، رغم أن الحراك الكوردي- الكوردستاني لايزال دون المستوى في البعدين السياسي والدبلوماسي على الأقل.
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
12/10/2022م