انصدمت المخابرات المركزية الأمريكية من عملية تفجير مبنى الأمن القومي السوري بتاريخ 18 تمّوز 2012، والذي نتج عنه مقتل وزير الدفاع داود راجحة، ونائبه آصف شوكت، ورئيس خلية إدارة الأزمة حسن تركماني، وهشام بختيار رئيس مكتب الأمن القومي في حزب البعث السوري (أعلن عن وفاته بعد يومين متأثرًا بجراحه) وإصابة وزير الداخلية محمد، ولم تنتبه المعارضة السورية ومعظم المحللين السياسيين على إنها أمام مواجهة روسية-إيرانية للمخطط الأمريكي (سي آي أيه تحديداً) وإحباط لعملية البديل عن نظام بشار الأسد، والذي بدأ منذ سفر السفير الأمريكي إلى حماة في بداية الثورة، والمتوقع أن يكون البديل مرحلة بدائية لخلق نظام يخدم مصالحها، وبتسريب ما، حصلت المخابرات الإسرائيلية على المعلومات، ولقناعتها بأن البديل لن يخدم مصالحهم مثلما يفعله نظام بشار الأسد، بل وبعض مستشاريهم أكدوا أنه حتى ولو تم التغيير فسيكون مؤقتا والقادم سيكون من المنظمات الإسلامية التكفيرية السنية، وعلى أسسها سربت المعلومات للمخابرات الروسية، وتم التخطيط مع القوى الإيرانية العاملة في سوريا لإزالة العناصر التي اعتمدت عليهم المخابرات المركزية الأمريكية، فجاءت عملية التفجير ضربة لمخطط الـ سي آي أيه الذي كانت قد صرفت عليه الملايين، وجندت له العديد من عناصرها البارعين بقضايا الشرق الأوسط. وللتغطية تم إتهام قوى المعارضة التكفيرية، التي أكلت الطعم وخرجت ببيانات على أنها وراء عملية التفجير، ونوه بعضهم على أنها كانت عملية تسميم طعام عناصر الخلية المجتمعة.
أستمرت المخابرات المركزية بالبحث عن البدائل، فشلت ولمرات عدة، فجميع الضباط الذين انشقوا كانوا دون المستوى، ولم تكن لهم الشعبية الكافية، كما وأن معظم قوى المعارضة المسلحة الوطنية تحولت إلى قوى إسلامية تكفيرية، درجتها روسيا ضمن قائمة الإرهاب ولم تعترض عليها أمريكا وإسرائيل، ولم يبقى أي مركز أو أهمية للمعارضة الوطنية السلمية، تسلطت عليها قطر وتركيا؛ وسخرتها لمصالحها بعدما وضعتها تحت هيمنة المنظمات المتطرفة، واستخدمتهم ليس لإسقاط النظام الإجرامي بل لمحاربة الكورد، وعلى أثرها عقدت تركيا صفقات تبادل مع النظام وإيران وروسيا، فاضطرت أمريكا التحول من التركيز على المعارضة العربية إلى القوى الكوردية ومواجهة تركيا والقوى الإقليمية الأخرى، أحيانا بشكل مباشر، وأخرى بدبلوماسية مرنة، إلى أن تنازل ترمب عن الخطة وكاد أن يلغيها كليا لكنه رضخ للمعارضة الداخلية من وزارتي الخارجية والدفاع.
وفي هذه المرحلة المتسارعة من التحولات السياسية والعسكرية في المنطقة، برزت غرائب الكورد، عرضوا ذاتهم كأصدق الشعوب في تطبيق الإيديولوجيات والنظريات السياسية الطوباوية، وفي تبني الثقافات الدينية الراديكالية منها، إلى حد التضحية بالذات من أجل تطبيقها بكل سلبياتها. فخلال عقد من الزمن تناوبت على امتلاك القوى الكوردية وحراكه، القوتين الكبيرتين الروسية والأمريكية وتحالفوا معهم دون شروط وعقود، استخدموهم كأدوات، ليقدموا خدمات بمصداقية نادرة، وهو ما تم عند مواجهة داعش ومحاربتها لإزالتها بشروط أمريكية.
لا شك، ولأسباب داخلية وإقليمية، لم يكن لهم خيار بديل، بل وظهور الأمريكيين كانت عملية إنقاذ كبرى، فإلى جانب حاجتهم إلى قوة عظمى تسندهم، في الفترة التي تخلت عنهم روسيا على خلفية حصولها على أداة أقوى وأهم وهي سلطة بشار الأسد، والتي تمت بعد عملية قتل خلية الأزمة، كانت الخلافات الداخلية تتصاعد والهجرة إلى الخارج تتفاقم، وداعش يمتد، وتركيا توجه بوصلة المعارضة السورية التكفيرية من محاربة النظام إلى محاربة الحراك الكوردي، فكان الحضور الأمريكي بكل أبعاده هبة، قدموا لهم كل الخدمات مقابل الحماية، بدونها ربما لما كانت للإدارة الذاتية وجودا اليوم، بل ولما كان للحرك الكوردي حضور يذكر على الساحتين السياسية والدبلوماسية حتى بين المعارضة السورية العربية الوطنية، ولربما لما كان ربع النسبة الديمغرافية الكوردية الحالية موجودة في المنطقة، ومناطق عفرين وسري كانيه خير مثال. ولربما كان الإقليم الفيدرالي الكوردستاني بحد ذاته اليوم شبه محافظات تتحكم بها القوى المركزية العراقية الشيعية.
خلال السنتين الماضيتين أعيدت الحوارات ضمن أروقة السياسيين الأمريكيين المختصين بالشرق الأوسط، حول ما قدمه عنصر المخابرات المركزية في اجتماع عام 2014م، وهناك من عرض مشاريع تنموية اقتصادية-ثقافية للمنطقة، وتم التركيز على الكوردية وحيث الوجود الأمريكي، لكن الصراع الداخلي واحدة من الإشكاليات التي يتم التوقف عندها، إلى جانب المعارضة التركية وقوى إقليمية أخرى، وهو ما يحثنا دائما المطالبة؛ التقليل من التآكل الداخلي، والتفاهم على بعض النقاط، والقول على أن طرف وحيد لذاته سوف لن ينجح في إقناع القوى الكبرى، على أن مصالحهم ستكون بأمان في حال رفعوا من سقف دعمهم من المستويات العسكرية إلى السياسية والثقافية والاقتصادية.
كما وأن تكرارنا على حث جميع الأطراف الكوردية، السياسية والثقافية، دون تفضيل طرف على أخر والتغاضي عن الخلافات الحزبية؛ أو الحكم على مجرياتها في المرحلة الحرجة هذه، نابع من أهمية الثقل الجماعي للحراك الكوردي؛ لإقناع قوى التحالف، أمريكا في المقدمة، على أن الانتصارات العسكرية آنية، والقوى التكفيرية والإسلام الراديكالي سيستمر في النمو، ولا بد من الإسهامات الاقتصادية والثقافية والسياسية الجدية وتقديم المساعدات لتطوير المنطقة الكوردية وتحسين ظروف المعيشة، إلى جانب التنبيه على الأقل باحتمالات الاعتراف بأجزاء كوردستان سياسيا، على الأقل فيدراليات ضمن الدول المحتلة لكوردستان.
ومن الأهمية أن يكون للحراك الكوردي معا، أتفاق على مشروع قومي-وطني مشترك، يتم عرضه بشكل دائم على المسؤولين الأمريكيين والأوربيين والروس المتواجدين في غربي كوردستان أو الوافدين إليها (هذا ما تفعله الدبلوماسية التركية بل وأردوغان دائما في كل حواراتهم مع الدول المعنية، يعرضون عليهم مطالبهم ضد الكورد دون خجل من التكرار) على أن عدم الاعتراف السياسي بغربي كوردستان، مع منطقة عفرين حصرا، كفيدرالية كوردستانية بجغرافية متواصلة، ضمن سوريا اتحادية سوف لن تتطور المنطقة وسوريا بشكل عام، وسيتزايد الخطر على الوجود الأمريكي سنة بعد أخرى، مع بقاء المنطقة متخلفة اقتصاديا وغير معترفة بها سياسيا، وتزايد الهجمات على قواعدهم في غربي كوردستان خير مثال، فالواقع الجاري هي البيئة الأكثر ملائمة لنمو الفكر المتطرف، وتصاعد الإسلام السياسي الراديكالي، وبالتالي ستكون المنطقة بؤرة واسعة لخروج الخلايا الإرهابية المتربصة بأمن الدول المعنية، وخاصة الأوروبية وأمريكا.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
12/10/2022م