محمد علي الشبيبي
كشكول سجين
المربي الراحل علي الشبيبي وابنه محمد علي الشبيبي في وسط ساحة سجن الحلة عام 1964
بين مخطوطات الوالد -المربي والمناضل علي محمد الشبيبي- طيب الله ثراه مخطوطته (كشكول سجين)، وقد كتب لها مقدمة أثناء وجوده في السجن (1964-1965). وبعد نيله الحرية وتمتعه بها لكنه عانى من المضايقات الأمنية والفشل في العودة لممارسة وظيفته كمعلم، مما أضاف له وللعائلة متاعب نفسية واقتصادية شاقة. وخلال مراجعته لكتاباته السابقة في السجن ومنها “كشكول سجين”، أضافه لمقدمة الكشكول ما أطلق عليه “الخاتمة”. في هذه المقدمة والتي كتبها المربي الراحل وهو في السجن تعكس قوة إيمانه بالمستقبل، ونظرته الموضوعية لحالة السجناء وتفهمه لأمزجتهم وطباعهم وما أصابها من تغيرات وتناقضات.
وإحياء ووفاءً لذكرى الوالد واستجابة لرغبته وجدت من المناسب نشر “مقدمة” الكشكول مع “الخاتمة”، وربما نشر مستقبلا ما هو مناسب ومفيد فيما دونه في هذا الكشكول./الناشر محمد علي الشبيبي.
المقدمة
ها هي السنة 1965 السنة الثانية ابتداءً من 22/1/1964 وقد دخلت السجن الى قلعة الوزيرية ثم القلعة الوسطى حيث نقلنا بعدها الى هذه القلعة –الجديدة- وذلك من 23/1/1965 ولأقضي بقية أيام محكوميتي التي ستنتهي في 21/8/1965 إن عشت الى ذلك اليوم. وان لم تتطور الأحداث، أحداث عراقي الحبيب، وأحداث بلادي العربية، التي لا تنفصل عن أحداث العالم كله.
أني شديد التفاؤل انها الى خير. فالصراع اليوم عالمي لا يخص أمة دون أمة، ولا قومية دون أخرى. والشعوب المجاهدة من أجل حريتها تسدد الضربة تلو الضربة الى الاستعمار، وهو يعاني حشرجة النزع، رغم ما يخيف الناس ويوهمهم انه مازال قوياً جباراً، بسبب ما اندلعت من فتن وانقسامات في المعسكر الاشتراكي من جهة، وتأرجح بعض الحكومات العربية بين درب الاشتراكية العلمية والتخبط في طريق تسمح لكل أعداء الاشتراكية أن يتغلغلوا في صفوفها، ويدفعوا الركب العربي الى متاهة وتيه دونه تيه بني إسرائيل. ولكن من يعرف منطق الحياة وإنها الى الأمام لا الى الوراء، الى الأحسن لا الى الأسوأ، الى الأصلح النافع يدرك جيداً ان فجر الحرية سيبزغ على البشرية لا محالة، وان الظلام سيزول الى الأبد. سيدرك هذا مثلما يدرك ان الضحايا والقرابين ستكون أضعاف ما قدمته البشرية خلال عمرها الطويل وهي تقطع الطريق التي بدأتها، منذ كانت عارية تصارع الطبيعة بكل قواها من عواصفها الثلجية، وهجيرها اللافح، وطوفان مياهها، ووحوشها الكاسرة، وحشراتها الفتاكة، وجراثيمها الخفية. حتى أنتهى بها المسير الى غزو الفضاء الخارجي، والسيطرة عليه، لتصل أخيراً الى احتلال القمر.
وبالنسبة لي لا يهمني –وأنا متأكد من هذه النتيجة- ان أشهد هذه الانتصارات أو أموت قبل ان أرى النور، بين بنيي وعائلتي، مادمت أعرف أن الموت حق ونهاية لكل ذي جسد، ولكل إنسان مشى مع المركب أو تخلف عنه.
ومذ حللت السجن حاولت أن أستفيد من إقامتي فيه لدراسة اللغة الانكليزية، وحال دون ذلك سوء وضعنا بسبب كثرة عددنا، وما ينتج عما يعانيه السجناء من مشاكل مادية وعائلية، من أزمات نفسية، وفورات تطغي على الجميع، وتلفهم في دوامتها، مجبرين على ذلك. لأن كل ما يحدث نتيجة تلك الفورات، ليس في صالح السجناء على الطلاق. فانهيار أعصاب كثيرين وانزلاقهم الى مهوى الخسة والذلة، قيامهم بمعارك ضد إخوانهم في المصيبة أبعد يوم خلاصهم جميعاً، وازداد في أثقال سلاسلهم. فوجدت نفسي عاجزاً عن الدرس بسبب ما أعاني من أمراضي، الروماتزم، الصداع النصفي، آلام المعدة.
ثم ما يحز في نفسي بقاء عائلتي بدون مدبر ولا معيل وموجه. فقد فصل أبني كفاح، وحكم على أبني محمد معي خمس سنين، وظل أبني همام في بغداد لا يقدر على غير أعالة نفسه، كي لا تنوشه أيدي الحاسدين والحاقدين من أجهزة أمنية وغيرها. وبقيت في فكر وألم من أجل سبع بنات وأمهن المريضة في بلد ليس لهن فيه –او ليس لي- قريب أو صديق، ولا مورد غير راتب التقاعد، الذي لم يحصلوا عليه إلا في تموز 1964[1]، وهو لا يكفي عيشهم. وهن جميعاً في مراحل الدراسة المختلفة. وإيجار الدار. وأنا في سجن الحلة وابني محمد في سجن نقرة السلمان. إن مرتبي ستة وأربعون دينارً فقط ثلثه للإيجار والكهرباء والماء، وديوننا تجاوزت المئتي دينار وقاربت الثلاثمائة.
خطر ببالي أن أضيف الى عمل المطالعة تهيئة دفتر أطلقت عليه أسم (كشكول سجين) أثبت فيه بعض ما أقتطفه، من المطالعات، او ما يعن لي من خواطر، أو ما أسمعه أو أختاره من طريف النكات، وروائع الشعر –الفصيح والشعبي- ، ولهذا السبب لم يكن على شكل تبويب أو تقسيم حسب الفصول. وقد تم لي هذا الذي يضمه الدفتر بين دفتيه. وعسى ان يفرج عنا فنتمتع بانتشاق عبير الحرية، فننتج ما ينير الدرب ويوضح السبيل ويخدم المجموع.
[وبعد أطلاق سراح المربي الراحل من السجن بسنتين تقريباً، راجع الراحل ما كتبه في -كشكول سجين- وكتب “الخاتمة” أدناه بتأريخ 3/4/1967 / الناشر محمد علي الشبيبي] :
الخاتمة
ذات يوم كنت أقرأ قصة “دوريت الصغيرة” للكاتب الكبير “شارلز ديكنز” ودهشت لهذه العبارة (ان السجين تبدأ مشاعره تلين نحو السجن بعد أن يخرج منه). وعجبت كيف يحن المرء لحجز حريته. بل كيف ينسى أياماً كان كل يوم فيها يعادل عاماً. فهو ثقيل الخطى كئيب الملامح. وكيف يرتاح لتذكر ذلك المكان الضيق الذي ما يكاد يحل فيه نزيل حتى يبدأ يشعر بأنفاسه تختنق، ومشاعره تتبدل. ويتحول بعد قليل الى إنسان يختلف تمام الاختلاف عما كان عليه قبل أن يلج باب السجن. فقد يكون قبل يومه ذاك رجلاً انبساطيا، طلق اللسان، كثير الحديث، كثير العلاقات والصلات بالناس. ولكنه في السجن ينقلب رأساً على عقب، فينكمش وينطوي على نفسه في زاوية كطير كسير الجناح، في نظراته استغراب وحيرة وتساؤل. وفي خطواته وسائر حركاته حذر، وعلى قسمات وجهه كآبة عميقة.
وقد يتحول آخر عُرف بالعكس من صاحبه الى ثرثار، كثير الحديث، كثير الضحك والدعابة، كثير الاختلاط والعلاقات، وربما كثير الشجار، وما يتبع الشجار وينتج عنه من مضاعفات قد تؤدي الى تباعد وبغضاء بين السجناء.
وانك لتجد القول المأثور (السجن محك) مصداقاً مطابقاً فيما ترى من شخصيات كنت تحترمها، وترى فيها وقار العلم مجسداً، وسمو الإنسانية ممثلاً، والخلق الطيب الرائع يفيض بُشرا ورقة. وإذا به قد فقد –هنا- كل تلك الصفات، وتحول الى مستوى شاب مراهق، أناني بخيل، شديد اللؤم، يتوارى لأدنى سبب، ساخط شاتم، وقد تنكر لكل مثله التي جاهد في سبيلها وأحبها.
وربما أبصرت شخصاً كنت تزدريه وتنفر منه. اذا به –هنا- تتجلى فيه صفات الرجولة، وتقطر حواشيه اريحية ونبلاً، يتهلل وجهه بالبشر، ويفتر ثغره عن بسمات مشرقة، تبدد ما في نفسك من ظلمات. فلا ترى بداً من أخذ درس ثمين من سيرته، ومثلاً طيباً من شخصيته.
وأني لأتذكر ساعة أصدر رئيس المجلس العرفي في 22/1/1964 حكمه عليّ ضمن مجموعة عدد أفرادها (48) رجلاً وامرأة واحدة، بأحكام ذات مدد مختلفة. وما أن حجزنا في غرفة موقف معسكر الوشاش (حالياً حديقة الزوراء في بغداد/ الناشر)، ورحت الاحظ الوجوه، وأقرأ خطوطها. وإذا بي أرى بعضهم وقد تناثرت الدموع على خديه (من هؤلاء كان الراحل ذا المشاعر المرهفة الموسيقي لطيف المعملجي طيب الله ثراه بالرغم من تبرئته، لكنه بكى بمرارة تعاطفاً معي لصغر سني كما برر هو ذلك لي / الناشر). بينما كان آخرون تفتر شفاههم عن بسمات، تحولت الى ضحكات صاخبة، وحركات وتنقل. يداعب هذا ويناقش ذاك. وما حللنا السجن حتى انقلبت الآية. فقد أعلن الباكون، أنهم أمام أمر واقع من حياتهم وأنهم سيصمدون أمام محنة السجن ولابد من نهاية. بينما أنطوى الآخرون على أنفسهم. وراحوا يقضون معظم وقتهم في النوم، والآراء السقيمة، والهروب من الخدمة المفروضة عملاً بقاعدة التعاون لمصلحة المجموع.
ولقد تجد الى جنب هذا وذاك من لم يتغير من خلقه شيء، ولم ترتبك أعصابه ولم يختل توازنه مع شدة ذلك الدوّار وحدة الضربة. ثم كذلك هو لم يبخل بعلم ينفخ به طالبيه، وآداب يذيعها على هواة الأدب، وطُرف يروّح بها على النفوس المتألمة، ولكنه فيما عدا هذا من وقت تستولي عليه حال أشبه ما تكون بحال الغريب، رغم ما يبدو عليه من انصراف الى مطالعة أو درس، ذلك لأنه أبو صغار فقد صَباحة وجوههم، ولم يعد يسمع نغم أصواتهم، وقد فارقهم الى حرمان مؤلم، وفاقة شديدة. يهاجمهم المرض فلا من يرده عنهم، ويفتك بهم الجوع ولا من يدرأه عنهم، ويضمأون الى حنان أبيهم فتدركهم زفراتهم، ويرون صغاراً أمثالهم في يوم عيد بأثواب زاهية، ومظاهر الفرح تغمرهم فتعلج الحسرات بصدورهم، وتنحدر الدموع على خدودهم فيستنجدون بأم ضعيفة لا حول لها ولا قوة وقد علا وجهها شحوب، وأنهك وجهها هم وسهد فلا تجد لهم إلا كلمات الخائف المذعور تهدئ بها روعهم، وتخفف لوعتهم. وتمنيهم بقرب يوم يعود اليهم فيه الوالد العطوف، يحمل معه الخير والنعيم.
استعرضت هذا يوم أنهيت استنساخ هذا الكشكول. وإذا أجد في نفسي حنيناً غريباً. ولا بد انه ليس الى تلك الجدران الشاهقة الكالحة التي تحجب عني كل بهجة. ولا الى تلك الحياة الرتيبة والزحام والضيق حين أبغي التمشي أو النوم[2]. كلا …. إذن لِمَ أدركني الحنين؟
حقاً لقد تعرفت الى وجوه غرسوا بقلبي حبهم بصورة لا تقوى أيام الفراق على محوها، لما لقيت عنهم من حب لي. ولما وجدته فيهم من سمو المشاعر الإنسانية بأوسع معانيها، وجلال العلم والمعرفة، وروائع الأدب، وتجارب الحياة. ومع ذلك فليس لهذا وحده أدركني الحنين. هنا تذكرت كلمة “ديكنز” ثم رحت أسائل نفسي. أترى المرء اذا ضاق به رحب الحياة. فوجد مجال لسانه قصيراً. ومورد عيشه شحيحاً. وسبل التفكير ضيقة مخيفة، وحتى خطواته ثقيلة محدودة، وعشراءه بالأمس يتهربون، ويشيحون بوجوههم عنه. ثم هو يدنو من الغرباء ويصغي لأحاديثهم، فإذا ما على شفاههم كذب ونفاق ودجل، يكشفون عنه عند الختام، بكلمات صريحة تدل على ما في نفوسهم من سخط على الحياة، وثورة على الإنسانية.
كيف اذن لا يسعى الى الموت أو يتمناه؟ هكذا انا وكل إنسان يفهم الحياة، وإنها ليست لقمة تملآ أجوفة سغباً، أو ثوباً يستر بدناً عارياً. هكذا انا وكل إنسان يفهم الحياة. انها ميدان لإبداع العقول وفكر يفتش عن الحقائق، ولسان يغني بمجد العقل والعبقرية. وقلم يدافع عن العدل والخير والسلام. فإذا ما أصبح العقل في محنة، والإنسانية في بلاء وشقاء، والفكر في حجر وتضييق، فالخير اذن أن أردد ما قال النبي يوسف عليه السلام. وهذا أقل درجات اليأس، وأبسط دلائل الهروب.
ولابد في الختام أن أشير الى أني لم أقصد في البدء ان أجعل مؤلفا ذا هدف وموضوع خاص. انما جمعته –كما أشرت الى ذلك في المقدمة- من أفواه السجناء، والمجلات والكتب والجرائد، شذرات وعقوداً، لهواً خيّرا الهُ به، وأقتل الوقت المسئم، وأروح عن نفسي حين تضيق بآلامها، وتضطرم فيها نار الشوق، ويجرفها تيار الحنين الى وادي الكآبة والتفكير الحزين.
ولكني وجدتها اليوم مجموعة طيبة، تآلفت فيها الأشواك والزهور، وتجاورت فيها ذكريات الفواجع، ووميض الآمال، واللئالئ والحصى، والماس والزجاج، ونهلات ادب روية، وغمسات علم دسمة، وكلمات نصح مضيئة، ونكات هزل مسلية، وعظات جد مهذبة. فعزمت على نسخه بعد أن القيت عليه نظرة تهذيب وتشذيب، وطرح لبعض ما لم أجد فيه فائدة. وأنا ذا اتركه لمن يتولى أمر ما أخلف من آثار عسى ان يعمل على إخراجه لخير الوجود. والسلام
علي الشبيبي
كربلاء /الأثنين 3/4/1967
الناشر: محمد علي الشبيبي
السويد 15-10-2022
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- بعد اعتقال الوالد في 9 شباط 1963 تم سحب يده -أي استلام نصف الراتب الإسمي- لحين صدور قرار المحكمة. وبعد أن صدر قرار الحكم في 22/01/1964 تم فصله من الوظيفة وإحالته على التقاعد. ولكن العائلة لم تستلم التقاعد -مصدر عيشها الوحيد- إلا في تموز 1964./الناشر محمد علي الشبيبي
[2]- كان في القلعة التي عشت فيها (96) سجينا، فلا تجد فاصلاً بين أنسان وآخر. وكُلف الجميع ان لا تزيد فرشهم على 40 سم. وعدد الغرف الكبيرة مثل هذه 4 أما الباقية فهي لا تتسع لأكثر من 4 لكن سكانها قد يصلوا الى 16 وعند التمشي لا بد من التصادم بالآكتاف.