قد يبدو هذا العنوان غير مرغوباً.. للذين دخلوا في متاهات الزمن المرعب.. الذي يسعى من مرّ بدهاليزه ومحطاته تجاوز ازعاجاته النفسية وشطبه من ملفات الذاكرة.. لكن مرحلة ما بعد الصدمة.. كما يقول المختصون في مجال علم النفس.. تدفعنا للاستذكار وإعادة تصور وبناء الحدث من جديد.. شئنا ام ابينا..
في ذاكرتي المشروخة من جراء العنف.. ثمة الكثير مما يمكن انْ ارويه على الأقل لنفسي بين الحين والآخر.. لكن انشغالي بالتوثيق يجعلني أعيش دوامة ذلك الزمن وارهاصاته التاريخية مع تسلسل العنف وتواصله عبر صفحات التاريخ الدامي في بلاد الرافدين.. ميزوبوتاميا.. او بين النهرين.. وغيرها من الأسماء التي لها علاقة بالعراق.. كأرض وجغرافية تمتد لعصر دويلات المدن وسلسلة امبراطوريات دموية تفتقد للسلم والاستقرار وخالية من مفهوم المواطنة..
والعراقيين كمجتمع مفكك ومضغوط.. يعانون من نزيف صراعات متوارثة لأتفه الاسباب جعلتهم متوترين ومتأهبين للانقضاض على الآخر.. كأننا في زمن البداوة.. ومهمتنا التغالب وسحق الآخر وقهره وفرض الاستسلام عليه.. حتى انْ تطلب استعباده واغتصاب ممتلكاته وسبي نساءه وبناته..
او خائفون فزعون جاهزون للهروب والهجرة.. بحثاً عن الأمان في اية رقعة جديدة من هذا الكون.. غالباً ما تكون محطة جديدة للعبودية ليس إلاّ..
في هذا الزمن.. اقصد زمن الدواعش.. ثمة الكثير من الملفات التي يمكن لذاكرتنا انْ تفتحها او تطويها في لحظة تأبى كل محاولاتنا لتعطيلها او تأجيلها ولو برهة.. لهذا نجد أنفسنا نستسلم لتداعياتها وانسيابها عبر ممرات وندوب مخفية غير مرئية بين طيات جراحنا العميقة.. التي باتت تلازمنا ونتوارثها من جيل لآخر.. تشكل عروة التواصل بين الماضي والمستقبل..
توقفت لعدة مرات.. قبل ان ادون تفاصيل الكثير من الحوادث التي لها علاقة بزمن داعش.. وبشاعة السلوك الإنساني المرافق للافتخار بالجرائم المرتكبة باسم الإله والدين.. وما تفرضه عقيدة المهاجمين المبتذلين التي تشرْعُن العنف المنفلت وتقدسه..
كما توقفت عن مظاهر الذل والقهر والاستعباد.. وفي كلا الحالتين كانت مشاهد الانسان المستلب الإرادة أكثر ما يشغلني.. وأنا ادقق في هذا السلوك بين طرفين..
” انسان” متهور.. انقلب الى وحش كاسر.. بعد انْ قرأ اية نووية معبأة بالحقد والكراهية.. منحته شحنات إجرامية.. جعلته كائناً دموياً يهاجم ليقتل من في محيطه باندفاع جنوني.. ويتنقل متجاوزاً حدود البلدان والاوطان بتسهيلات ومساعدات إقليمية ودولية لسنا بصدد تعدادها وذكرها الآن..
وضحايا أبرياء مسحوقين.. لا يملكون الاّ خيارات بائسة.. يطلب منهم تغيير معتقداتهم.. او مواجهة الموت.. والأقسى من ذلك ما يمكن ان يكون في مراحل وساعات ما قبل الموت..
قالت لي سيدة عاشت أجواء الذل والقهر والسبي:
جمعونا في جملونات بين تلعفر والموصل.. كنا حشود بشرية كبيرة من عدة عوائل.. جرى فرزنا بعد أخذ الرجال لتصفيتهم على بعد أمتار منا.. وكان بيننا صبايا وأطفال بعمر الورود ممن تجاوزا العاشرة.. ولم يتعدوا الثانية عشرة من العمر..
وكانت المصيبة.. من بين الكثير من المصائب.. التي واجهتنا.. انهم يسحبون الفتيات من عمر 9 سنوات من بيننا ويمنحونها لمجرمي داعش.. لذلك بدأنا نفكر بتزويج البعض من الأطفال والصبايا كي نجنبهم هذا المصير.. ولكن كيف وأين وسط هذا الحشد من المحتجين والمعتقلين..
وواصلت محدثتي سرد بقية تفاصيل المحنة.. محنة الضحية المجبر على ابتداع أية وسيلة ممكنة تساعده للنفاذ والعبور لحالة يعتقدها هي الأفضل في مقاييس ذلك الزمن الصعب.. لا تنسوا اننا نتحدث عن زمن الدواعش..
كانت لي بنت لا تتعدى الـ 12 عشر من العمر.. وكان عليّ ان اقنع أي صبي بعمرها.. او حتى أصغر بالزواج منها.. كي اجنبها مخاطر الاستحواذ عليها من أي داعشي تافه.. لذلك سعيت متوسلة من عائلة تشاركنا المحنة لإقناع ابناً لهم ليتزوجها..
وبعد أخذ ورد.. اتفقنا.. بعد ان اقتنع الطفل المسكين لتأدية دور الرجولة المطلوب منه.. وفي الصفحة التالية لم يكن امامنا لتدارك خطورة الموقف.. بين ساعة وأخرى.. من احتمال دخول الدواعش علينا لانتقاء والتقاط من يرغبون بهن من فتيات قاصرات.. او فتيات غير متزوجات.. الاّ انْ نختار من بيننا أربعة نساء لنقف حاملين بطانيات.. نصنع من خلالها حاجزاً او ساتراً لغرفة وهمية.. ليدخل فيها كل من الفتاة والصبي لإتمام بقية مراسيم السلوك المفروض على الجميع.. وتكرارها في حالة الفشل.. بعد تحفيز الطرفين لضرورة إتمام الاتصال الجنسي بينهما في تلك الأجواء المريبة..
وبعد أشهر من هذا الحديث.. توقفت وجهاً لوجه.. امام حالة من حالات ذلك الزواج القسري.. عندما كنت في مراجعة لقنصلية العراق في مدينة فرانكفورت لإتمام معاملة روتينية.. حينما شهدت عائلة عراقية من سنجار كانت قد وصلت قبل أشهر الى المانيا..
كانت الأم في العقد الثالث من العمر.. ومعها صبي وطفلة بملامح منكسرة يرغبان في العودة للعراق بالرغم من مرورهم بتجربة السبي والاستعباد الداعشي.. وطلب مني أحد الموظفين مساعدتهم واقناعهم بالعدول عن العودة للعراق.. لوجود خطورة جدية على الطفلة.. ولم يكشف لي السبب وظننت انه يتحدث عن خطورة انتقام داعش منهم.. بعد تمكنهم من الهروب والوصول الى المانيا..
سألت الأم لماذا ترغبون بالعودة ثانية الى العراق؟
قالت.. ويا للمصيبة.. الولد ابني.. اما البنت فهي كنتي.. زوجناهم اثناء وجودنا في جملونات تلعفر.. عندما كنا في الأسر والاستعباد.. وقبل ثلاثة أشهر تمكنا من الهروب.. ومضى علينا هنا في المانيا أربعون يوما فقط..
استفسرت منها..
ماهي المشكلة إذن؟ طالما وصلتم الى المانيا.. وحصلتم على حق الرعايا واللجوء.. لماذا ستعودون إذن؟
قالت.. قبل اسبوعين فحصت الطبيبة الألمانية كنتي.. وقالت سنأخذها لعندنا.. انها في شهرها الخامس من الحمل.. وابني لا يوافق وقلق لأنهم سيأخذونها منه.. وقرر العودة للعراق خوفاً على زوجته.. ولا يتقبل ابعادها واخذها منه.. وكان الزوج البائس يستمع لما تقوله امه كأي طفل..
نظرت اليه.. حولت بصري للطفلة المسكينة.. لم أستطيع ان استوعب انها زوجة وحامل في الشهر الخامس كما تقول حماتها..
وقلت لهم..
الطبيبة والالمان لا يفكرون بإبعادكم عن بعض كما تتوهمون.. كل ما في الأمر.. انها طفلة غير مكتملة النمو.. قد لا تتحمل أعباء الحمل.. وهناك مخاطر على حياتها وعلى حياة الطفل.. ويرغبون ان تكون بهذا الاجراء.. الذي لم تستوعبوه.. تحت الرعاية الطبية والاجتماعية لغاية ولادتها..
وهذا اجراء لصالحكم.. لا يجوز ان تتخوفوا منه.. نظرت للصبي ثانية.. دققت في ملامحه الطفولية وهو في طريقه ليصبح أباً متجاوزاً حواجز ومراحل الرجولة المطلوبة لاستيفاء شروط التحول والاستعداد لتكوين عائلة.. وتمتمت مع نفسي.. انها مجرد صفحة.. وحالة من الحالات التي ترافقت مع تعاسة زمن داعش ومخلفاته..
ــــــــــــــــــــ