لتثبيت قيد نفوسه رسمياً، توجّب على الإيزيدي فارس خضر (اسم مستعار)، أن يذهب إلى دائرة نفوس سميل في منطقة شاريا، 15 كلم جنوب دهوك، لإكمال إجراءات التسجيل، لكنه لم يعلم بأن ذلك سيتحول إلى كابوس يلاحقه طوال حياته.
بعد عودته إلى المنزل، اكتشف ذووه خطأً في بطاقة الأحوال الشخصية عند حقل الديانة أو المعتقد، أفضى إلى تسجيله مسلماً بدلاً من إيزيدي، وهو ما لم يلحظه فارس عند عملية التسجيل كونه أمّياً يجهل القراءة والكتابة.
“ماذا لو أصبح لديّ أطفال: هل سيتم تسجيلهم كمسلمين تبعاً لديانة والدهم؟”، يتساءل خضر، مشيراً بذلك إلى استناد قانون الأحوال الشخصية العراقي الذي “لا يجيز للمسلم تغيير ديانته إلى ديانة أخرى، إذ إن ذلك يُعدّ بمثابة الردة التي منعها الإسلام وعاقب عليها”، بحسب ما ورد في قرار الهيئة العامة في محكمة التمييز الاتحادية لعام 2008.
“ذلك تمييز عنصري وانتهاك صريح لمبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”، يعلّق القاضي داوود جندي باستهجان على قرار المحكمة واصفاً إياه بالمجحف ضدّ أبناء بعض الطوائف، ويضيف أن القرار لم يكن مهنياً في نظره، بل اعتمدت فيه المحكمة على جوانب دينية فقط.
حالة خضر تكشف عن تمييز في قانون الأحوال الشخصية يطال الطائفة الإيزيدية، ولا سيما أن مهمة تعديله تستحيل مع عدم وجود قضاة إيزيديين ينظرون في هذه الحالات ويمنعون تكرار حدوثها.
لم تحدد القوانين العراقية المختصة بتعيين القضاة، أن يكون الدين شرطاً أساسياً لقبولهم
الإيزيديون والقضاء
داوود جندي، هو عضو مجلس محافظة نينوى السابق، وأول شخصية إيزيدية تتولى منصب قاضٍ مدني في العراق بعد عام 2003، في عهد سلطة الائتلاف المؤقتة آنذاك برئاسة الحاكم المدني الأمريكي بول بريمير.
يروي جندي في حديثه إلى رصيف22: “بعد أن انتشر الأمريكيون في العراق، ووصلوا إلى قضاء سنجار (145 كلم شمال الموصل)، الذي نعدّه معقل الإيزيديين، كانت هناك مطالبات من الأهالي بتعيين قضاة إيزيديين، وحينها وقع عليّ الاختيار مع زميلٍ آخر يُدعى أحمد السموكي، عُيّن قاضياً جنائياً، وبعدها مارست عملي كقاضٍ مدني مع سلطة الائتلاف في القضاء لمدة عام كامل”.
يذكر جندي، أن محكمة استئناف نينوى في حينها برئاسة القاضي فيصل حديد، لم تتعامل معهم كقضاة بالرغم من تزويدهم بكتب رسمية من قبل لجنة المراجعة القضائية في بغداد، وذلك قد يكون “لأسباب دينية وسياسية”، حسب تعبيره، لكنهم مع ذلك مارسوا مهامهم مع السلطة المدنية وقوات التحالف.
تم الاستغناء عن خدمات جندي وزميله بعد تشكيل الحكومة العراقية الانتقالية في أيار/ مايو 2005، فشكّل هذا الأمر حافزاً له ولزميله للقاء عدد من الزعماء السياسيين وشخصيات قيادية في إقليم كردستان العراق، للمطالبة بتعيين قضاة إيزيديين، وسرعان ما لقي حراكهم استجابةً من الرئيس العراقي الراحل جلال طالباني الذي أقرّ بضرورة وجود قضاة إيزيديين تطبيقاً لأحكام الدستور العراقي الذي يؤكد على المساواة بين العراقيين.
وتنص المادة 14 من الدستور، على أن العراقيين “متساوون أمام القانون من دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي”.
أمر طالباني بتعيين قاضيين إيزيديين في محكمة استئناف السليمانية، هما أحمد السموكي، وقاسم أوسمان، أمّا داوود جندي فلم يتم تعيينه في حينها لعدم استيفائه شروط التخرج من المعهد القضائي والخدمة لعشر سنوات في مهنة المحاماة، وهما شرطان أساسيان لقبول أي قاضٍ في العراق، ويستذكر: “لقد عرضوا عليّ العمل في سلك الادّعاء العام، لكنّي رفضت ذلك وتوجهت نحو العمل السياسي”.
بعد ذلك بفترة وجيزة، عُيّن ستة قضاة آخرون في محافظة دهوك. لكن المستشارة القانونية سوزان شنكالي، تقول إن جميع هؤلاء يعملون كقضاة ادّعاء عام، وهناك تمييز واضح ضدّهم في ممارسة مهامهم”. توضح ذلك بصوت مُكتئِب ونبرة خائبة مستندةً إلى عناوينهم الوظيفية والأوامر الإدارية الصادرة عنهم، وترى أن في ذلك مخالفةً للنصوص القانونية والدستورية التي تمنح الامتيازات للجميع من دون تفرقة.
ولم تحدد القوانين العراقية المختصة بتعيين القضاة، أن يكون الدين شرطاً أساسياً لقبولهم، وهما قانون السلطة القضائية رقم 26 لسنة 1963 في المادة الثانية والثلاثين، وقانون السلطة القضائية لإقليم كردستان رقم 23 لسنة 2007 في المادة الخامسة والثلاثين، بل اشترطت هذه القوانين أن يكون الشخص عراقياً، من دون ذكر ديانته أو مذهبه أو معتقده أو قوميته.
بينما أشارت إحصائية صادرة عن مجلس القضاء العراقي خلال عام 2020، إلى أنه يعتمد وبنحو كامل على قضاة مسلمين، يبلغ عددهم 1،158 قاضياً، من بينهم 1،116 من الذكور، و42 من الإناث.
“لا ولاية لغير المسلم”
“لا ولاية لغير المسلم على المسلم”، ترددت هذه العبارة كثيراً على مسامعنا مع كل الذين التقيناهم في هذا التحقيق، ووفقاً لما فسّره القاضي المتقاعد نمر كجو، فإنها قد تكون السبب الرئيس وراء عدم القبول بتعيين قضاة إيزيديين، لأن في القضاء ولاية، وبذلك فتولّي الإيزيديين القضاء يعني ولايتهم على المسلمين، وهذا ما لا يجيزه الدين الإسلامي على حدِّ وصفه.
“لقد أبلغوني في عهد النظام السابق بشكل رسمي: أنت إيزيدي وغير مؤمن بالقرآن فلا يمكن أن تصبح ولياً على المسلمين”، يقول كجو، ويردف: “قاموا بتنسيبي إلى الادّعاء العام، فاضطررت إلى اللجوء إلى إقليم كردستان بعد سقوط النظام السابق وتمت ترقيتي إلى قاضٍ هناك”.
“لا ولاية لغير المسلم على المسلم”، ترددت هذه العبارة كثيراً على مسامعنا مع كل الذين التقيناهم في هذا التحقيق
وربما للسبب نفسه لم تتم ترقية زميله أوسمان داوود، الذي تخرج من المعهد القضائي في عهد النظام السابق، ويعمل كنائب مدّعٍ عام لأكثر من ثلاثين سنةً.
يرى داوود جندي، أن استبعاد الفرد الإيزيدي أو أبناء الطوائف الأخرى من سلك القضاء في العراق، “خلل بحد ذاته يوحي بأن الدولة لا تستند إلى موضوع المساواة، ما يمثل انتهاكاً للدستور وخرقاً للقوانين. يبدو أن الموضوع أصبح عرفاً بأن الإيزيدي لن يصبح قاضياً”. ويرى أن وجود من يمثل الإيزيديين في القضاء أمر في غاية الأهمية، لأن ذلك ينعكس على تطبيق القانون واتخاذ القرارات بمرونة، كون القاضي يتمتع بسلطة اتخاذ الحكم حسب قناعته وتفسيره للنصوص القانونية.
ويستطرد في حديثه قائلاً: “للأسف، الوضع السياسي والطائفي والعشائري يؤثر على عمل مؤسسات الدولة ومن بينها المؤسسات القضائية لذلك فإن الإيزيديين هم دائماً الحلقة الأضعف في هذه المواقف”.
قانون الأحوال الشخصية
يواجه الإيزيديون مشكلات ناجمةً عن عدم امتلاكهم قانوناً ينظّم أحوالهم الشخصية، ومن أبرزها تنظيم معاملات الزواج والطلاق والميراث والوصايا، إذ يعتمد القضاء العراقي على قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، والذي يستند إلى المذهب الإسلامي الحنفي والجعفري في تطبيقاته، ويعني بذلك بقاء الإيزيديين خاضعين في أحوالهم الشخصية لقوانين مصدرها المذهب الإسلامي الحنفي، الأمر الذي دفع حقوقيين وناشطين وجهات تمثل الطائفة الإيزيدية، وعلى رأسهم المجلس الروحاني الإيزيدي الأعلى، إلى السعي من أجل تشريع قانون للأحوال الشخصية خاص بالطائفة الإيزيدية، لكن القانون وُلد ميتاً لأنه جوبه بالرفض بعد تقديمه إلى برلمان إقليم كردستان. وبالرغم من ذلك، ما زال المجلس الروحاني متمسكاً بمسودة القانون التي عمل عليها مع جمع من القانونيين ورجال الدين من أجل تقديمها للسلطات المختصة مجدداً.
يشرح مدير مكتب المجلس الروحاني الأعلى للإيزيديين، علي خضر، أن كثرة المشكلات التي تولّدت من عدم وجود قانون للأحوال الشخصية خاص بالإيزيديين، جعلت مسؤولية تنظيم عقود الزواج والطلاق والنظر في قضايا الميراث تقع على عاتقهم في المجلس.
لقد أبلغوني في عهد النظام السابق بشكل رسمي: أنت إيزيدي وغير مؤمن بالقرآن فلا يمكن أن تصبح ولياً على المسلمين، وقاموا بتنسيبي إلى الادّعاء العام، فاضطررت إلى اللجوء إلى إقليم كردستان
ووفقاً لما ينقله خضر، فإن القضاء العراقي أصدر مؤخراً قانوناً، منح بموجبه المرجعيات الدينية من الطوائف الأخرى، ومن بينها الإيزيدية، صلاحية تنظيم عقود الزواج الدينية، وعليه فإن المجلس يقوم بهذه المهمة وفقاً لسياقات متّبعة بالتنسيق مع محكمة الأحوال الشخصية.
إلا أن ذلك لم يوفّر حلاً لمسألة الميراث التي ظلّت خاضعةً لقانون الأحوال الشخصية العراقي والتي يرى مختصون أنه يتعارض في تفاصيله مع الشريعة الإيزيدية، ويتساءل داوود جندي: “ماذا لو حصل تنازع بين قانون الأحوال الشخصية وبين العرف الشرعي الإيزيدي؟”، ويجيب: “بالتأكيد سيتم ترجيح كفة القانون الوضعي في ما يخص التركة”.
من جهتها، ترجّح سوزان شنكالي، أن الإهمال الذي طال قانون الأحوال الشخصية للإيزيديين جاء نتيجة الإبادات الجماعية التي تعرضوا لها في الآونة الأخيرة، وتقول: “أصبحنا نهتم بالضحايا والمختطفات والمطالبة بحقوقهم بالإضافة إلى تعويض الناجيات أكثر من الاهتمام بهذه القضايا”، قاصدةً بذلك قانون الأحوال الشخصية.
محكمة بلا قانون
“ما الفائدة من وجود محاكم مواد شخصية تنظر في قضايا غير المسلمين ولا يوجد قانون خاص بهم؟”، تطرح شنكالي هذا التساؤل في إشارة إلى ما حصل معهم من تمييز طوال السنوات السابقة، وتلّمح إلى التمييز التشريعي في الفقرة الخامسة والأربعين من قانون رعاية الأحداث العراقي رقم 76 سنة 1983، الذي يعدّ مجهول النسب مسلماً ما لم يثبت خلاف ذلك.
وتعتمد محاكم المواد الشخصية تطبيق هذا القانون على أبناء الناجيات الإيزيديات من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، كونهم مجهولي النسب، وهو أمر ترفضه الإيزيديات تماماً، إذ لا يمكنهنّ قبول أبنائهن على غير ديانتهن، ما دفع بعضهنّ إلى التخلي عنهم أو عدم العودة إلى أسرهن ومناطق سكنهن نتيجة العوائق النفسية التي يسببها القانون.
وفي هذا السياق، تطالب النائبة عن الدورة الرابعة في برلمان إقليم كردستان، الإيزيدية خالدة خليل، بإجراء تعديل على القانون أو اتخاذ قرارات تستثني هؤلاء الأطفال، وتقول: “قوانيننا ما زالت قديمةً وغير ديمقراطية، لا تتناسب مع حقوق الأقليات والمكوّنات الموجودة، وتالياً لا بد من إجراء تعديلات تنسجم مع واقعنا التعددي”.
تأخذ خليل نفساً عميقاً وتتحدث بنبرة مليئة بالخذلان: “لو كان لدينا قضاة إيزيديون لتمكنّا من حل الكثير من مشكلاتنا لكن للأسف لا توجد تشريعات كافية لحقوق المكونات”.
تحمّل شنكالي الحكومة العراقية ومؤسسة القضاء، المسؤولية الكاملة لما يحصل معهم من اضطهاد، لكن أملها يبقى معقوداً على حكومة إقليم كردستان، بالاستناد إلى قانون حماية التنوّع في دفوعها القانونية.
محمود جايد الحسناوي
رصيف 22
أتذكر بشكل جيد كان هناك قاضي ايزيدي
واحد في دهوك كانوا يكنى ب، حاكم نمر.
وهو نمر كچو هسام طلبوا التخلص منه
كقاضي، فنصبوه وزيراً بلا سلطات وفيما
بعد يحال على التقاعد،، وهذا ما يطلق
عليه التنحية إلى الأعلى.