الحياد في المنعطفات التاريخية صنف من الخيانة!
عن طريق الشعب عدد 25 الاول2022 ملف خاص عن الذكرى الثالثة لانتفاضة تشرين
في شتاء 2004، ومن بعد سبعة وعشرين عاما، بعد سقوط نظام المجرم الديكتاتور صدام حسين، عدت من المنفى، الذي تعددت محطاته، وزرت مدينتي السماوة، التي ترعرعت فيها ومن عبّر تاريخها النضالي المشرف وسير الشخصيات الوطنية البارزة فيها، من مثقفين وسياسيين، تلقيت أولى دروس الانتماء للوطن. خلال هذه الزيارة طلب مني الرفاق العاملون في منظمة الحزب الشيوعي العراقي في المدينة ان اساهم في تقديم أمسية ثقافية عامة، اتحدث فيها عن أي موضوع أختاره بنفسي، وبعد ان استقصيت عن طبيعة الجمهور الذي سيحضر، أخترت عنوان (دور المثقف العراقي في إعادة إعمار العراق)، وتلخصت فكرة الحديث بأن البنى التحتية للخدمات الأساسية وللتنمية الاقتصادية، التي خربتها سياسات النظام البعثي الديكتاتوري، فأن الاستثمار برؤوس الاموال الخارجية والداخلية، بعد توفير الشروط والضوابط المناسبة للاستعانة بها واجتذابها ، سيساهم في استنهاض الاقتصاد الوطني وتطويره وتحديثه، وإعادة اعمارها وفق مخططات الدولة التنموية و… الخ، لكن الانسان العراقي، الذي خربت حروب النظام الداخلية والخارجية روحه، وما سببته سياسات العسف البعثي وسنوات الحصار الاقتصادي من تخريب لعموم البنى التحتية لأخلاقيات المجتمع العراقي، فأني أعلنت لجمهور الحاضرين وبثقة عن اعتقادي بأن المثقف العراقي هو الذي سياستهم بدور متميز في إعادة اعمار الانسان العراقي ليأخذ زمام الموقف ويساهم ببناء وطن عراقي جديد.
ولكن …!
تكررت زياراتي الى وطني الام، للمساهمة في مختلف الفعاليات الثقافية والسياسية، وزرت البلاد جنوبا وشمالا، وكنت اتابع بألم حجم الخراب الذي حل في وطني وثقل تركة الخراب التي خلفها لنا النظام البعثي المقبور، الذي ازاحته دبابات الاحتلال الأمريكي، ولأكتشف بألم ان المثقف العراقي في واقع الامر، وفي مقدمة كل الأمور، هو أيضا بحاجة لإعادة أعماره أولا!
في العقود الأخيرة، من تأريخ العراق السياسي والثقافي، ظلت وللأسف أعداد ليست قليلة من المثقفين العراقيين، وتحت مبررات عديدة، تدور مواقفها في المنطقة الرمادية، منطقة اللاموقف. ففي زمن العسف البعثي العفلقي، ناهيك عن الذين طبلوا وردحوا للنظام وحروبه وسياساته، فان جمهرة من المثقفين، أرتضت بدور المتفرج بدون موقف واضح مما يجري من جرائم بحق الشعب والوطن، وحالما سقط النظام الصدامي، راح بعضهم، وبدل من الاعتذار من الشعب والتكفير عن دور المتفرج، يجترون تبريرات كونهم (مجرد موظفين في الدولة)، وتبعا لهذا بدا لنا ـ من وجهة نظرهم ـ حتى الديكتاتور المجرم صدام حسين كان مجرد موظف في القصر الجمهوري!
في معرض العراقي الدولي للكتاب في كانون الاول 2021، وفي جلسة حوارية عن ( دور الدولة في دعم الكتاب) وحين جرى الحديث عن دور المثقفين في هذا الجانب أشار السيد (سعد العنزي) مدير معرض الكويت الدولي، والمشارك في الحوار، الى انه لفت انتباهه، ان العديد من المثقفين العراقيين البارزين الذين التقاهم، وحين قدموا له المعلومات للتواصل معهم، لاحظ ان اغلبهم يعملون في مهام مستشارين في الوزارات او رئاسة الوزراء وحتى مكتب رئيس الجمهورية، وطلبت حينها الكلام من داخل القاعة للتعليق، واخبرت الحاضرين، بان هناك إحصائية غير رسمية، تشير الى ان اكثر من مئة وعشرين من المثقفين البارزين، يعملون بصفة مستشار في أروقة مكاتب مختلف الوزراء، وفي لحظتها أعلنت وجهة نظري وبصراحة، واعتبرت هذا الامر ليس إلا شكل من حالة الفساد التي تعيشها النخب العراقية ومنها الوسط الثقافي العراقي، وعلى اثرها انسحب من القاعة عدة انفار، اعرفهم جيدا ويبدو ان الكلام مسهم تماما.
مع انطلاق انتفاضة تشرين2019، وفي الوقت الذي واجه شباب الانتفاضة، رصاص (الطرف الثالث) بصدورهم العارية، ثائرين من اجل التغيير والخروج من دوامة فساد أحزاب الإسلام السياسي، التي نصبها الاحتلال الأمريكي وريثة للخراب الذي خلفه نظام صدام حسين لتزيده خرابا، راحت هذه الجمهرة من المثقفين، المعنية بهذا الكلام، تواصل وقوفها في المنطقة الرمادية، متناسية ان الحياد في المنعطفات التاريخية يعتبر صنفا من الخيانة، فالواجب التاريخي يفرض ان يكون المثقف الحقيقي صوتا متقدما لأبناء شعبه، يصطف الى جانب الثوار في سعيهم للتغير لأجل عراق مدني ديمقراطي. ففي ظل ما عاناه شعبنا، من قهر واذلال، في سنوات النظام الديكتاتوري البعثي، وسنوات الاحتلال الامريكي، وثم حكومات المحاصصة الطائفية والاثنية، يتناسى وللأسف هذا الصنف من المثقفين، القانع بعضهم بفتات الحاكمين، ان على المثقف الحقيقي ان يحدد خياره بوضوح، فإما الاصطفاف مع الشعب ومطالبه المشروعة بحياة حرة كريمة، وإما الاصطفاف مع الحاكم الظالم المتستر بعباءة الفكر القومي الشوفيني البعثية، او عباءة الدين الطائفي وميلشياته.
ولابد من القول، بكل الم وبصراحة، ان ثمة، اعداد من المثقفين، لا تزال بدون موقف واضح، ليتشكل تيار ثقافة وطنية مقاوم مواز لوقائع الانتفاضة، وان نشاطات المثقفين ممن اصطفوا الى جانب الانتفاضة والمؤمنين بها والمطالبين بالتغيير الشامل، من خلال كتابة نصوص، او إصدار كتب، واعمال فنية من رسم أو موسيقى، تبقى مجرد جهود فردية، بعيدة عن التأثير الجماهيري المطلوب والكافي لخلق وعي متقدم لنشر ثقافة المواطنة والانتماء الى الوطن بعيدا عن الانتماءات الفرعية، الحزبية، والعشائرية، والطائفية والاثنية.
يكشف الواقع بان الكثير من المثقفين للأسف لا زالوا لم يحسموا موقفهم، بالاصطفاف الى جانب أبناء شعبهم، وتكريس ابداعهم في الكتابة والرسم والموسيقى لأجل تغيير المزاج الشعبي العام، وإذكاء الروح الثورية لدى أبناء الشعب وديمومتها بشكل حضاري، للمساهمة في الانتفاضة السلمية ودعمها لأجل التغيير الشامل وبناء عراق جديد. وأعتقد ان الأوان لم يفت بعد أمام الكثيرين منهم ليراجعوا مواقفهم، فانتفاضة الشعب من أجل التغيير الشامل ممكن ان تجدد نفسها، فأسباب اندلاعها لا تزال قائمة. وتبرز الان، ومن بعد مرور ثلاثة اعوام على انطلاق انتفاضة تشرين، اهمية ان يكون المثقف العراقي، وفيا لتأريخ مفعم بالمواقف الثورية والوطنية لأجيال المثقفين من رواد الثقافة العراقية وصانعي مجدها، الذين اصطفوا الى جانب الشعب في منعطفات مهمة، في وثبة كانون 1948، وثبة تشرين 1956 وثورة تموز 1958 والمثقفين الرافضين لسياسة نظام البعث الصدامي ممن ارتضوا حياة المنفى أو التحقوا بصفوف المقاومة المسلحة في جبال كردستان.
ان الفرصة لا تزال متاحة أمام الكثير من المثقفين لينهوا ترددهم والخروج من المنطقة الرمادية وإعلان موقفهم الصحيح والواضح، فخير الأمور بخواتيمها.