خُلدتْ الروائية ماريغريت ميتشل وهي بعمرٍ 49 عام وبرواية واحدة التي هي ” ذهب مع الريح ” من بين القلائل الذين خُلد أسمهم ، أستنفذت مارغريت ميتشل من وقتها ثلاث سنوات لتسطر على الورق لأروع وأجمل قصة خلدتها ذاكرة سفرخزانة التأريخ العالمي في بصمات أنيقة وجذابة ، وأقول بالرغم من أن الرواية تحوي بعض الهنات والأخطاء بعضها مقصودة خاضعة لثوابت أجتماعية ولكنها لم تكبو بل واكبت التكنلوجيا الرقمية الحداثوية أن تتحوّل الرواية إلى فيلم سينمائي عام 1939مدتهُ ثلاث ساعات و42 دقيقة تحبس الأنفاس بأخراج المخرج الأمريكي ليل ميلر والمنتج الطموح ديفيد أوسيلرنيك ، وقام ببطولة الفيلم ( كلارك كيبل والممثلة البريطانية الحسناء فيفيان لي ) وحصل الفيلم على ثمان جوائز أوسكار وُزعتْ جوائز الأوسكار بين الكادر الفني وكان من نصيب الممثل الأمريكي كلارك كيبل والممثلة البريطانية فيفيان لي ، والشيء بالشئ يذكر شاهدت لفيفيان لي الفيلم الرومانسي المشهور ( عربة اللذة ) وحصلت على جائزة الأوسكار وعرض الفيلم على صالة سينما الخيام في بغداد أيام الزمن الجميل 1961.
لقد أبدعت وتألقت ” مارغريت ميتشيل ” في روايتها المدهشة “ذهب مع الريح ” Gone With The Wind رغم كل ما أثير حولها من جدل ولغط ظلت من أكثر الروايات جمالاً وأشراقاً وحضوراً في ذاكرة السفر الأنساني في خزانة الأدب العالمي ، ولآنها أبرزت أشهر العلاقات الغرامية في تأريخ الأدب والسينما ، فهي أصطفت إلى جانب الروايات الملحمية الأسطورية الخالدة الغارقة في التفاصيل الملتهبة العصيّة على الفناء بالرغم من كل عيوبها وفضائلها ، وبقيت أسم الكاتبة العبقرية ” ماريغريت ميتشيل ” رقماً صعباً وسهلاً غائباً حاضراً في كنز التراث الفكري الثقافي العالمي ، وأن الرواية من النوع الرواية الرومانسية التأريخية ربما إنها تقاسمت الأدوار مع (زمكنة ) أبارتايد الحرب الأهلية بين الشمال الأمريكي والجنوب بين 1861-1865 وربما يمكن وصف الرواية ” ذهب مع الريح ” من النوع الرومانسي المكشوف لأحتوائها على بعض الأشارات واللقطات الآباحية ، وتوصف الرواية أيضاً بأنها كلاسيكية في حصر تلك الزمكنة ، والعديد من الأدباء الأمريكيين أعتبروا الرواية ضمن الأدب النسوي لظهور إيحاءات بين سطورها تخصُ المرأة في كيفية التكييف للتخلص من (التسليع) الذكوري لجنسها مما جعل معظم القراء من النساء .
مناقشة آراء مؤلفة الرواية ” مارغريت ميتشيل “
أولاً/ في موضوع ” الحب ” أن ماركريت أكملت القصة بثلاثٍ من السنوات 1926-1929 في كتابة هذه القصة المستفيضة ، جعلت بؤرتها قصة حب جنونية ملتهبة بين شخصيتين مختلفتي التفكير صلبتي العود من الرجال والنساء هما ” سكارليت أوهارا ، وريت بتلر ” وأدارت حول هذا الحب المضطرم والمعقّد أحداث الفترة التأريخية والأجتماعية بين الشمال والجنوب بسوسيولوجية جمعية وتأثيرها في حياة الناس وأحوالهم ، وأعتقد أنها نجحت في هذا المجال بشكلٍ واضح في جغرافية الجنوب الأمريكي بالذات مدينتها ” أتلانتا ” بيد أنها لم تصل في توجيه وترويض عواطفها الرومانسية بالأتجاه الصحيح ، وتزوجت لثلاث مرات كان الحب الأول ” آشلي – ويليكس” عشقتهُ بجنون لحد الهوس ولكنهُ لم يبادلها تلك المشاعر ، ورفضها ليتزوج بأبنة عمهِ ، والزوج الثاني كان فرانك كيندي شابا يافعا قليل الخبرة سرعان ما أنفصلت منهُ ، وأطفأتْ هذا الحب بحبٍ جديد وهو الزوج الثالث (ريت باتلر) بطل الرواية وسُجنَ عند دخول اليانكيين إلى الجنوب لقتله رجلاً أسوداً لأهانة أمرأة بيضاء ، وساعدها بدفع فاتورة الضرائب الباهضة ولكنها نكرت الجميل وتزوجت من شاب ثري وقُتل في الحرب الأهلية ، وثم تعود لحبها بتلر ثانية نادمة ، تبدو” سكارليت “في الرواية كشخصية مركبة تجمع المتناقضات أنّها لا تحب أخوتها ولكنها تعتني بهم ، وكانت تتميّزْ بالبخل والطمع ومع ذلك كانت تقدم المساعدات لأصدقائها ، مع هذا وذاك أن سكارليت فتاة حسناء مثيرة ذات قوام رشيق وبشرة بيضاء وعيون ملونة زرقاء وشعر أنثوي مسدول تبدو إنها ورثت جينات الجمال من أمها ذات الجذور الفرنسية .
وفي نهاية الرواية يتركها حبيبها ريت بتلر وإلى الأبد ليتطاير حبها مع الريح العاصف — وأعتقد أن أسباب كثيرة لفشل هذا الحب العارم منها سوسيولوجية وسايكولوجية وربما معاملتها الباهتة لشريك حبها باتلروأستعمال كلمات جارحة غيرلائقة وهاكم أقتباس فقرة من الرواية قرأتها وأستهجنتها {— أنهُ من البلاهة حقاً أن حبنا سيبعث من جديد — بعد أن غدى حطاماً بأفاعيلك الرعناء } أقتباس نصي من الرواية ، هكذا تعاملت الروائية مع عالم الحب المقدس ! وقد أتهمها الكثير من النقاد بالأسفاف والتهافت في ترجمة مفهوم الحب الذي هو {منبع السعادة ، ومرفأ الأمان ، وسر القلوب ، بل هو أسمى المشاعر الأنسانية على الأطلاق ، والذي يبقى صداه خالداً مدى الأزمان لكونه مغلف بالأنسنة والرحمة والعطف ومجرد من الشهوة الحيوانية أو المصلحة } .
وأقول وربما هو شئ غريب : أن أحكامي وتقييمي لشخص ( سكارليت أوراها ) أختلف من حيث المبدأ مع تقدم العمر ، فقراءتي للرواية في بداية السبعينات كانت : —-أنها تبدو فتاة مراهقة مهوسة مضطربة المشاعر ذات خيال فنتازي ، فكانت قناعتي بالروايىة مهزوزة ، أما قراءتي في التسعينات القرن الماضي وتقدم العمر ومع كثرة قراءاتي ونضوج العمق الثقافي المتواضع تبينت لي : أنها فتاة بسيطة دمرها الحب في بداية حياتها ورمي بها بين أحضان رجل أحبها بعمق لكنها لم تمنحهُ سوى الكراهية والأنتقام ويعود ذلك إلى التسرع في الأختيار ، عندها وضعتُ ( ثلاثة نجوم *** ) لتقييم الرواية وكانت آخر رواية قرأتها ونحن على أعتاب الهجرة إلى منافي الأغتراب القسري سنة 2000 ، وبصراحة أحدثت الرواية تغييرات في تركيبي الفكري الشخصي ربما بعضها جوهرية في الأختيار وضرورة قراءات كتب الفلسفة وعلم النفس عن ماهية الذات البشرية وصيرورة الحياة ،
ثانيا/ موضوع ” الأبارتايد ” Apartheid الفصل العنصري الذي فرض نفسهُ على زمكنة كتابة الرواية ، وهو صراع الكونفيدراليين مع اليانكيين بسبب البشرة السوداء ، وأستمرت الحرب من عام 1861 -1865 وسقط فيها آلاف الضحايا وأنتشر الخراب والدمار في مناطق عديدة ، وأحتراق مدن بكاملها ، فكان تعرض ماركريت ميتشل لهذا الموضوع الحساس بشكلٍ خجول وتصوير الأفارقة الأمريكيين بصورة نمطية تعزز كونهم ليسو أكثر من مجرد تابعين أو خدم للبيض ، وعند تحويل الرواية إلى فيلم (حذف) منتج الفيلم ” دافيد سيليزنيك ” اليهودي اللبرالي المناهض للعنصرية من حذف المقاطع العنصرية مثل أنتماء أزواج ماركريت ميتشل على التوالي آشلي ، بتلر وفرانك كندي إلى جماعة الكوكلو العنصرية التي كانت تروّع وتعذّب السود أبان الحرب الأهلية ، وتروع البيض المساندين لهم في عمليات تطهير عرقية منظمة ، وكذلك حذف أي مقطع يمجّدْ بمنظمة Kuklux Klan العنصرية ، كما حذف أصطلاح Nigger المهين من سيناريو الفيلم رغم حشو ماركريت ميتشيل بذكره بتعمد في أحداث الأبارتايد .
ثالثا/ هناك بعض الهنات والهفوات الغير مقصودة يفترض بالمؤلفة العبقرية عدم ذكرها أصلاً مثل : فقرة أغتصاب ريت بتلر لزوجته سكارليت أوراها لأستخدامه القوّة في ممارسة الجنس معها وهي أهانة للمرأة وتدخل ضمن العنف الأسري ، وكانت مؤلفة الرواية ماركريت ميتشيل تقصد بهذه الفقرة ما هي أللا نوع من الرومانسية الممتزجة بالعنف ، و كذلك موافقتها على أختيار الممثلة الحسناء البريطانية ” فيفيان لي ” لأداء الدور البطولي في الفيلم بدلاً من مئات الفنانات الأمريكيات أدى إلى غضب شعبي عام خاصة أن سكارليت أوهارا تعتبر ( أيقونة أمريكية ) وأختيار ممثلة بريطانية لأداء دورها ما هي ألأ أهانة للأمة الأمريكية عن (نقاد وأعلام ذلك الزمن ) ويعني هذا أن رواية “ذهب مع الريح ” تمرد على الكثير من المحظورات في وقتها ، وكذلك تطلق خلال الرواية عبارة ( أنكل توم أي العم توم ) في مزاحٍ غير مقصودعلى الخادمة هاتي ماك ( مامي ) ذات البشرة السوداء، وهي عبارة تستخدم لوصف الأفارقة الأمريكيين الذين يتذللون للبيض لكسب رضائهم .
أخيرا/ذهب مع الريح أجل ذهب كل شيء بالذي حدث قبل قرنين من الزمن لا وجود لهُ في الحياة المعاصرة بل تجده فقط في ذاكرة التأريخ الرومانسي الأوربي ، وذهب كل شيءٍ أدراج الرياح آخذاً معهُ إلى النهاية ذلك الحب الجنوني المهوس المضطرب والمفكك العرى والفاقد للتوازن السوي ، وذهب مع الريح إلى العدم في قرارة جحيم الثقب الأسود عندما أتسعت تلك العاصفة السوداء بحرائقها المدمرة معلنة الشبح المخيف ( للأبرتايد ) بيد إنها هي الأخرى ذهبت مع الريح ليبقى بياض القلب والسريرة وحب الآخرين ونبذ كراهية اللون ببصمة الرئيس الأمريكي رقم 16 “أبراهام لنكولن” الذي أسدل الستار على النظرة المعيبة للون البشرة ملوحاً عبر تمثال الحرية الذي هو الآخر ذهب مع الريح ، وفي نهاية الرواية أرى ( سكارليت ) واقفة أمام بيتها في أتلانتا ماسكة بحفنة من التراب بيدها مودعة الزوج الحبيب الذي هجرهآ قائلة وبحسرة عميقة : —- إن غداً يومُ آخر.
مصادر بحث وهامش
-الحرب الأهلية الأمريكية والعبودية في الولايات المتحدة – ترجمة الدكتور زياد زكريا لبنان ( نت)
– ذهب مع الريح – مارغريت ميتشل – ترجمة بيت اللغات الدولية – بيروت
-الحرب الأهلية الأمريكية والعبودية في الولايات المتحدة – ترجمة الدكتور زياد زكريا / هامش
كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد
تشرين أول/2022