الديموقراطية في المجتمعات غير الواعية وبغياب القوانين التي توفّر بيئة مناسبة لأجراء إنتخابات حقيقية، تؤدّي الى هيمنة قوى سياسيّة مافيوية على السلطة. وغالبا ما تكون لهذه القوى عالما مظلما تعمل من خلاله على توطيد دعائمها في الحياة السياسية والأقتصادية في تلك البلدان. والعراق اليوم فيه بيئة أكثر من مناسبة لهيمنة المافيا على جميع مفاصل الحياة بالبلاد، فالأحزاب السياسية التي تتقاسم السلطة منذ الأحتلال لليوم، جعلت من الفساد والأستبداد السياسي شريان حياة أحزابها، ليقابلها موت يومي لوطن يتهاوى بفعل الفساد وشعب يعيش في منطقة اللاوعي بعد أن يأس من إلتفات أحد الى معاناته.
لا توجد دولة بالعالم تشرعن الفساد بصورة علنية من خلال قوانين نافذة، بل على العكس فأنّ الدول عادة ما تسنّ قوانين تحدّ وتحارب الفساد بيد من حديد مثلما يقال. فما هو الطريق إذاً للإثراء على حساب المال العام..؟ أنّه الفساد، وهو بوابّة النهب المنظّم لثروات الناس. في البلدان التي يهيمن الفساد فيها يكون الفاسدون وهم على الأغلب من عصابات جريمة منظمّة بحاجة الى غطاء رسمي لممارسة فسادهم وسرقاتهم وأبتزازهم وتحكمّهم بمفاصل الأقتصاد والمال. لذا ترى زعماء هذه العصابات يدخلون الحقل السياسي من الباب الخلفي بدعمهم لشخصيات سياسيّة “مستقلّة” وحتّى أحزاب سياسيّة ليصلوا الى قبّة برلمانات تلك البلدان ولتكن لهم عندها الحصانة التي تمنحهم حريّة الحركة وعقد الأتفاقات الأقتصادية مع الشركات الوطنية والأجنبية مقابل عمولات ضخمة، أو أن ترسي عقود المشاريع برمتّها لزعماء الأحزاب السياسيّة ورجالاتها الذين يحصلون على هذه الأمتيازات مقابل ولاء أعضاء البرلمان والحكومة الذين وصلوا الى السلطة بمساعدة هؤلاء الساسة، بمعنى آخر فأنّهم كمجاميع ظل يتحكمون بالشأن السياسي والأقتصادي للبلاد.
المافيا اليوم ليست عصابات تهريب مخدرّات وفرض أتاوات والتجارة بالجنس والأعضاء وغيرها من الجرائم فقط، كما وليست قاصرة على عوائل معيّنة كما بدأت في صقليّة بإيطاليا لتتوسع الى بلدان كثيرة بالعالم. أنّما المافيا اليوم نظم سياسيّة لها علاقات دولية ووزارات تحكم من خلالها شعوب عديدة وتنهب كل ما يقع تحت أيديها دون خوف من ملاحقة القضاء، بعد أن يكون القضاة أنفسهم رهن أشارة السلطة التي تعيّنهم. ولو أخذنا العراق كمثال لأحد اكبر الدول الفاسدة في العالم، فسنرى أنفسنا في حالة غريبة ومختلفة عن كل العصابات المافيوية المعروفة وعوائلها!!
المافيا بالعراق ليست بحاجة الى دعم أحزاب سياسية أو ساسة مستقّلين ليصلوا الى البرلمان، ليقوموا بعدها بمساعدة زعماء المافيا في سرقاتهم ونهبهم للمال العام عن طريق التجاوز على القوانين، وإبرام عقود وهمية بملايين الدولارات والحصول على عمولات بأرقام فلكية من خلال عقود بشروط مجحفة بحق ثروات وطننا. عوائل وعصابات المافيا عندنا محصنّون من المساءلة القانونية، والقضاة يجدون لهم دوما مخارج “قانونية” في الأمور السياسية كما في تفسيرهم للكتلة الأكبر بعد كل أنتخابات، أو التجاوز على القانون من خلال عدم محاسبة الرؤوس الكبيرة من الفاسدين. والمشكلة ونقولها للأسف الشديد تكمن في مناحي عدّة منها عدم وجود قاض عراقي جريء يقف بوجه المافيا العائلية والسياسية التي تقود البلاد الى الهاوية، كما القاضيان الإيطاليان “جيوفاني فالكون” و”باولو بورسيلينو”، اللذان تمّ إغتيالهما من قبل المافيا. وإن كان القضاء قد واجه بشرف الفساد في إيطاليا لينتصر أخيرا، فأنّ القضاء العراقي وهو يحمي الفاسدين الذين يدمرّون العراق وشعبه لا شرف له مطلقا.
العراق حالة غريبة وشاذّة، فتجربة مجاميع الظل الحاكمة في البلدان الأخرى لا مكان لها بالعراق، كون “مجاميع الظل” هي من تشكلّ الحكومة من خلال البرلمان الذي تهيمن عليه، وهي من تشتري شرف القضاة والإعلام، وهي من تمتلك الجيش والعصابات المسلحة. مجاميع الظل لا تحكم البلاد من خلال عالم مظلم كما بقية دول العالم، بل أنها تمتاز بجرأة كبيرة لتعلن عن نفسها علنا وتقود الفساد والجريمة بالبلاد. وحكومة السوداني اليوم هي إمتداد لنهج مافيوي مدمّر يتحكم بمصير البلاد من خلال مجاميع ظل علنية…
زكي رضا
الدنمارك
30/10/2022