تُعتبَر المنافذ الحدودية أحد أهم المصادر للعملة الصعبة في أي بلد، خاصة البلدان ذات الطابع الاستهلاكي، إذ تفرض الحكومات عادة تعرفة ضريبية على الواردات القادمة إليها، لتحصيل واردات إضافية أولًا، ولحماية المنتج المحلي والحفاظ على سعره في الأسواق ثانيًا.. وتلك قصة أخرى.

في العراق الوضع مختلف، لأن مصادر التمويل الحكومية عادة تُعتبَر هدفًا لمافيات الفساد، وبالتأكيد لم تكن مصادر التمويل مثل المنافذ لتغيب عنها.

مليارات ضائعة

لا يوجد أرقام رسمية لواردات المنافذ الحدودية في العراق، إلا أن بعض التقديرات من مصادر حكومية تقول إن الواردات تتجاوز الـ 9 مليارات دولار سنويًّا، عبر 24 منفذًا حدوديًّا بريًّا وبحريًّا مع الدول الست المجاورة له، وهي الكويت والسعودية والأردن وسوريا وتركيا وإيران.

لكن النسبة الأقل هي ما يدخل خزائن العراق، إذ تتحدث تقارير كثيرة عن مافيات تسيطر على المنافذ بطرق مختلفة، ويقول وزير المالية العراقي، علي علاوي، إن “هناك نوعًا من التواطؤ بين مسؤولين وأحزاب سياسية وعصابات ورجال أعمال فاسدين في إدارة المعابر”، مشيرًا إلى أن “هذا النظام ككلّ يساهم في نهب الدولة”.

لمعرفة حجم المشكلة، يكفي الإشارة إلى تصريح رئيس هيئة المنافذ الحدودية، اللواء عمر الوائلي، بأن الهيئة ضبطت 3 آلاف مخالفة في المعابر العراقية خلال عام 2021 وحده، شملت أنواعًا عديدة من المخالفات المالية وما يتعلق بإدخال بضائع ممنوعة أو منتهية الصلاحية وغيرها.

العصابات المتنفّذة تقوم بعمليات احتيال جمركية واستحصال رشاوى لتخليص البضائع، وتقوم كذلك بإدخال بضائع فاسدة وغير صالحة للاستهلاك أو للاستخدام مقابل أموال.

تكمن المشكلة الأولى في هذا الملف في ضعف السيطرة الحكومية على منافذها الحدودية، فمنذ عام 2003 أصبحت أغلب المؤسسات الحكومية تابعة للأحزاب، وبعد عام 2014، عقب سيطرة عصابات “داعش” على الموصل، وامتلاك الحشد الشعبي المشكّل أغلبه من المجاميع المسلحة التابعة للأحزاب، أصبحت تلك الميليشيات صاحبة اليد الطولى ليس أمنيًّا وحسب، إنما اقتصاديًّا أيضًا.

في تقرير أجرته عن مافيات المنافذ، توصلت وكالة “فرانس برس” إلى أن الميليشيات المسلحة تملك مكاتب اقتصادية تأخذ على عاتقها عمليات التخليص الجمركي، حيث يستورد العراق ما يقارب 21 مليار دولار من السلع سنويًّا من خلال منافذه المختلفة، وأحد أهم مشاكل المنافذ الحدودية هي تعاملها مع نظام قديم من الرسوم الجمركية ومعاملات ورقية طويلة، ما ينتهي بالتجّار لدفع غرامات بآلاف الدولارات نتيجة التأخير.

وأدّى ذلك، وفق مسؤولين وعمّال موانئ ومستوردين ومحللين، إلى نشوء نظام استيراد موازٍ عبر المعابر البرّية وميناء أم قصر، تتولاه أحزاب ومجموعات مسلحة، وتتحقّق معظم الأرباح من ميناء أم القصر كونه المنفذ الذي تدخل عبره الكمّية الأكبر من البضائع إلى البلاد، باعتباره متنفّس العراقي البحري الوحيد.

قال أحد المستوردين للوكالة في تحقيقها إن تسجيل كمية أصغر من الكمية الحقيقية يوفر للمستورد حسمًا على الرسوم الجمركية يصل إلى 60%، والمثال الشائع على ذلك هو في استيراد السجائر التي تبلغ تعرفة الاستيراد الرسمية عليها 30% من قيمتها بالإضافة إلى 100% إضافية لرفع سعرها في السوق المحلية بهدف تشجيع المستهلكين على شراء البضائع المصنّعة في العراق.

لفساد المعابر جوانب أخرى، يتمثّل أحدها بإدخال المخدرات إلى العراق، ويقول ضابط بهيئة مكافحة المخدرات إن هذا العام وحده شهد ضبط 14 مليون حبة كبتاغون و300 كيلوغرام من المواد المخدرة

ولتقليص هذه الرسوم، غالبًا ما يتمّ تسجيل السجائر على أنها مناديل ورقية أو سلع بلاستيكية، ما يعني في المقابل دفع تعرفات جمركية أقل بكثير، ويقول مسؤول الجمارك: “بدلًا من دفع 65 ألف دولار لكل شاحنة على الأقل، ينتهي بك الأمر بدفع 50 ألف دولار فقط”.

يتلاعب المخلّصون أيضًا بالقيمة الإجمالية المقدّرة للشحنة، فتسجّل تلك القيمة بداية على رخصة الاستيراد، ولكن يملك المخلّص صلاحية إعادة النظر بها عند نقطة الدخول، وبالتالي تخفيضها بهدف تخفيف قيمة الرسوم، وروى مسؤول في أم قصر لـ”فرانس برس” أن وكيل جمارك قام بتقييم شحنة من الحديد بثمن بخس، لدرجة أن المستورد دفع رسومًا جمركية قدرها 200 ألف دولار، في حين كان ينبغي أن يدفع أكثر من مليون دولار.

وقال المستورد: “هذا النفوذ الكبير للمخلّص ليس طبيعيًّا على الإطلاق”، فمن خلال علاقات مع أشخاص نافذين تتسرّب بعض البضائع دون تدقيق بتاتًا، وفي هذا الإطار قال موظف الجمارك: “أنا لست فاسدًا، ولكنني اضطررت لتمرير الشحنة دون تفتيش لأنها مرتبطة بطرف نافذ”.

تتم العملية أيضًا بواسطة المخلصين (المعقّبين)، ويسمّون أيضًا بـ”عرّابي الفساد”، وهم “عادةً من أهل المنطقة تربطهم معرفة مع الموظفين ويتعاملون وفق أعراف محددة بينهم، فيما يتمّ تسليم الأموال خارج المنافذ”، وهؤلاء المخلصون يتمتّعون بنفوذ كبير يخيف الموظف النزيه الذي لا يريد الرضوخ لهم، حتى إن الكثير من الموظفين وصلت كتب نقلهم لمجرد محاولتهم تعطيل عملهم.

أما بخصوص تفاصيل التلاعب بالأوراق الرسمية، فيتمّ التنسيق مع التجار على تغيير جنس البضاعة، فمثلًا حمولة وزنها 25 طنًا من القيمر (القشطة) يتم استبدالها بوضع 4 أطنان من الجبن في الواجهة، وتسجَّل معظم الحمولة كجبن لأن ضريبته الجمركية أقل، ويحصل ذلك بالاتفاق مع التاجر ودفعه جمرك القشطة، الذي هدفه الأول تخليص بضاعته فضلًا عن خفض الحمولة، فيما يكون فرق الجمارك للمخلصين والموظفين المتعاونين معهم، مثلًا 25 طنًا التي تحدثنا عنها عمليًّا هي نحو 30 طنًا، حيث يستفيد التاجر بإعفائه من جمرك الحمولة الزائدة، وسط تستُّر سائق الشاحنة الذي يطمح إلى إكمال التخليص بسرعة.

المليشيات التي تسيطر على معبر أم قصر تحصّل منه 120 ألف دولار يوميًّا

في حالات أخرى، يأخذ التجار تراخيص استيراد وإيصالات مزورة إلى البنك المركزي العراقي، الذي يرسل بعد ذلك دفعة بالدولار الأميركي إلى شركة شحن وهمية خارج العراق، وتسمح هذه المعاملات بغسل الأموال، بحسب وكيل جمركي ومسؤولين مصرفيين عراقيين، وقال مستورد لوكالة “فرانس برس” إنه دفع 30 ألف دولار لموظف جمارك في أم قصر، للموافقة على دخول أجهزة كهربائية مستعملة يعتبر استيرادها مخالفة قانونية.

كمحصلة نهائية لهذا، تتحصل الدول على مبالغ قليلة سنويًّا، حيث يشير النائب السابق، فاضل الفتلاوي، إلى أن واردات البلاد من المنافذ يجب أن تصل إلى “10 مليارات دولار، بينما لم تحصل الحكومة إلا على مليار واحد عام 2019، ثم تذهب بقية مبلغ الواردات إلى جيوب المتنفذين والفاسدين”.

يقول مصدر في هيئة الموانئ العراقية إن “أرصفة الموانئ، على سبيل المثال، تتقاسمها الأحزاب والميليشيات منذ عام 2005، وأن وارداتها السنوية مهولة جدًّا”، وبحسب المصدر فإن “العصابات المتنفذة تقوم بعمليات احتيال جمركية واستحصال رشاوى لتخليص البضائع، وتقوم كذلك بإدخال بضائع فاسدة وغير صالحة للاستهلاك أو للاستخدام مقابل أموال”.

معابر المخدرات

إلى جانب المنافذ الرسمية التي تسيطر عليها الأحزاب، والتي يتم إدخال البضائع فيها بشكل رسمي، يوجد المنافذ غير الرسمية الأخرى التي تديرها المجاميع المسلحة الخاضعة للميليشيات، حيث يملك العراق حدودًا طويلة مع إيران تمتد إلى مسافة 1600 كيلومتر، وحدودًا طويلة أخرى مع الجانب السوري، وتقوم الميليشيات عادة بخرق عدة نقاط في الحدود وافتتاح منافذ خاصة بها بالتعاون مع جماعات أو جهات رسمية مع تلك الدول، وعادة ما تستورد مواد خاصة أو أسلحة أو أجهزة منتهية الصلاحية دون علم الحكومة العراقية أصلًا.

أحد الجوانب الأخرى لفساد المعابر يتمثّل بإدخال المخدرات إلى العراق، فبعد عام 2003 عانى العراق كثيرًا من انتشار المخدرات في مدنه، ويقول ضابط بهيئة مكافحة المخدرات إن هذا العام وحده شهد ضبط 14 مليون حبة كبتاغون و300 كيلوغرام من المواد المخدرة، بينما بلغ عدد المتهمين في قضايا ترويج المخدرات وتعاطيها أكثر من 1300 متهم، كما يشير الضابط، الذي رفض الكشف عن اسمه، إلى أن فساد المعابر والفساد المستشري في أجهزة الدولة هما المسؤولان الرئيسيان عن انتشار هذه الظاهرة.

لا توجد إحصاءات رسمية لعدد هذه المنافذ أو المبالغ التي تجنيها أو حقيقة النشاطات التي تجري فيها، لكن أغلب المراقبين يجمعون على أن الحل الجذري للتهريب وفساد المعابر هو في حل مشكلة سيطرة جهات غير حكومية على أحد مفاصل الدولة السيادية، وهو أمر يتطلب مواجهة شاملة مع تلك الميليشيات، التي لا بدَّ أنها سوف تستميت في الدفاع عن أحد أهم مصادر تمويلها، حيث تقول “فرانس برس” إنها تحصل من معبر أم قصر لوحده على 120 ألف دولار يوميًّا جرّاء سيطرتها عليه.

كتب بواسطة:عمار الحديثي