لم يكن الجنوب السوري، وبالأخص محافظة درعا بمعزل عن “البصمات” التي تركها تنظيم “داعش” في المناطق التي أسس نفوذا فيها خلال “أوج خلافته”. وبينما بقيت “تحت ستار الخفاء” على مدى أربع سنوات أثارها خلال الأيام الماضية “عملان أمنيان”.
وأطلقت هذين “العملين” فصائل ذات “نفس معارض”، تسمى محليا بـ”تشكيلات اتفاق التسوية”، أولا في مدينة جاسم في الريف الشمالي لدرعا، ومن ثم في أحياء “درعا البلد”، والتي تعيش، منذ بداية الأسبوع، حظرا للتجول تتخلله مواجهات مسلحة لم تنته حتى الآن.
وكان شهر أغسطس في عام 2018، آخر محطة زمنية من عمر “داعش” في جنوب سوريا، بعدما سيطرت قوات النظام السوري على معقله الأساسي في منطقة حوض اليرموك بدرعا، إذ كان يتخذ منها منطقة نفوذ خالصة تحت اسم “جيش خالد بن الوليد”.
وقد تضاربت الروايات حول مسار إنهاء نفوذه، الذي حصل في تلك الفترة، وبينما وجه ناشطون اتهامات للنظام السوري بفتحه الباب أمام عدد من القياديين والعناصر للعبور إلى مناطق أخرى في المحافظة لطالما هدد الأخير باقتحام مناطق بسبب وجود “خلايا إرهابية” فيها تتبع لـ”داعش”، خلال السنوات الماضية.
ولنشاط “داعش” في درعا والذي تصدّر تطورات المحافظة، خلال الأسابيع الماضية “وقع استثنائي”، على خلاف باقي المناطق التي ينشط فيها، في البادية السورية وشمال وشرق سوريا.
ويرتبط ذلك بسلسلة من الاعتبارات، حسب ما يقول مراقبون لموقع “الحرة”، منها ما يرتبط بمدينة جاسم، التي انتهى فيها العمل الأمني الأول، ومن ثم أحياء “درعا البلد” التي تعيش أحداث العمل الثاني.
ماذا يجري؟
وشهدت مدينة جاسم في درعا، على مدى الأسبوعين الماضيين، اشتباكات مسلحة، قتلَت خلالها “تشكيلات التسوية” عددا من عناصر “خلايا تنظيم داعش”، وصولا إلى إنهاء نشاطها في هذه المنطقة بالكامل.
ورغم عدم إعلان النظام السوري رسميا انخراطه في المواجهات، إلا أن وسائل إعلام مقربة منه تحدثت عن القضاء على عدة مجموعات “إرهابية”، وعدد من متزعمي الخلايا، منهم “عبد الرحمن العراقي”، أبو مهند اللبناني”، “أبو لؤي القلموني”.
وما لبث أن انتهى هذا “العمل الأمني” لتبدأ تشكيلات محلية، من بينها “اللواء الثامن” الذي دعمت تشكيله روسيا، عملا آخرا في أحياء “درعا البلد”، وارتبطت أحد أسبابه بـ”التفجير الانتحاري” الذي استهدف منزل قيادي سابق في المعارضة، وأسفر عن قتلى مدنيين.
وتذهب روايات الفصائل المحلية إلى أن العمل الخاص بدرعا البلد يستهدف المجموعات المسؤولة عن هذا التفجير، والتي يقودها شخصان سبق وأن اتهمها النظام السوري بالارتباط بـ”داعش”، وطالب بخروجهما من الأحياء لاستكمال “اتفاق التسوية” الخاص بها.
لكن الناشط الحقوقي، عمر الحريري، يرى أن هناك اختلافا بين مسرح العمليات الذي حصل في جاسم، والذي يطبّق الآن في “درعا البلد”.
ويقول الحريري لموقع “الحرة”: “في جاسم كان وجود خلايا داعش مؤكدا، من حيث الطريقة والمواجهات التي حصلت. كان هناك أسلوب قتال واضح يشير إلى عناصر التنظيم”.
أما في درعا البلد، فيضيف الحريري أنه “تم وضع اسم خلايا داعش لتبرير العمل الأمني. الشخصان المتهمان بالوقوف وراء التفجير خارج معادلة المنطقة، ولا يخضعان لأي قوة”.
ويشير إلى أن “هناك ضغوطا من النظام السوري للتركيز على هذين الاسمين (محمد المسالمة، مؤيد حرفوش). هما رفضا دخوله إلى الأحياء خلال الفترة الأخيرة وعرقلا التسوية”.
وتقود المواجهات، في “درعا البلد” بالتحديد، فصائل محلية انخرطت في “اتفاق التسوية” الأخيرة، ومن ثم ارتبطت بـ”فرع الأمن العسكري”، ومنها “اللواء الثامن”، الذي تحوّلت تبعيته، من الدعم الروسي إلى الجهاز الأمني المذكور.
وبينما نفى وجهاء المنطقة أن يكون العمل الأمني مشتركا بين الفصائل والنظام، أكدت صحيفة “الوطن” شبه الرسمية ذلك، وقالت إن ما يحصل هو “عمل أمني وليس عسكري”.
وأضافت الثلاثاء أن “العمل يهدف إلى تطهير الأحياء من خلايا تنظيم داعش الإرهابي المتحصنين فيها”.
من جهته، قال الناشط الحريري: “الشخصان المتهمان بالتفجير الانتحاري نفيا مسؤوليتهما عن ذلك، بينما توجد شكوك عن طبيعة الانفجار وأنه قد حصل بعبوة ناسفة”.
ويضيف “هناك عناصر محليون يرفضون القتال في درعا البلد. الطرف الذي يتعرض للهجوم هم حوارنة (من أبناء المنطقة)، وتسود مخاوف من تحول الأمور إلى قصة عشائرية”.
“إما قاتل أو مقتول”
في غضون ذلك، تداولت شبكات محلية عبر مواقع التواصل الاجتماعي تسجيلا مصورا لأحد وجهاء درعا البلد، الشيخ فيصل أبا زيد، رفض فيه الاتهامات الموجهة بخصوص تعاون الفصائل المحلية مع “الأمن العسكري” التابع للنظام السوري في العملية الأمنية.
وقال: “يوجد في الأحياء عصابة مفسدة. لا يهمني لمن تتبع. هم مجرمون وحشاشة. نحن في مرحلة إما قاتل أو مقتول. لا مجال للسكوت بعد اليوم”.
وكذلك الأمر بالنسبة للقيادي السابق في المعارضة، خالد أبا زيد، إذ قال في تسجيل صوتي: “هناك ثلة تتبع لحزب الله والمخابرات الجوية ويحاولون السيطرة على حوران وقتلوا شبابنا بكل دم بارد”.
وأضاف “قمنا بقتال دواعش العصر بشكل فردي. ونظرا لإمكانياتنا طلبنا فزعة. لم نقم بالتنسيق أو التشاور مع أحد من قبل أجهزة النظام السوري. القتال كان مطلبا شعبيا لوقف حمام الدم”.
ورغم اتفاقيات “التسوية” المتكررة، التي فرضها النظام السوري وروسيا في درعا، إلا أن المحافظة شهدت. منذ عام 2018، سلسلة حوادث اغتيال وقتل بالرصاص المباشر وبالعبوات الناسفة.
وبينما تسجلت حوادث القتل والاستهداف ضد “مجهول”، تضاربت الروايات بشأن الطرف المنفذ لها، فيما بقيت سلطة النظام السوري الأمنية والعسكرية “هشة”، لأسباب غير معروفة.
وقد شنت قوات النظام السوري عدة حملات أمنية ومداهمات واعتقالات في مناطق قالت إن “مجموعات إرهابية” تنشط فيها، وهو ما نفاه ناشطون، واعتبروا أنها كانت بقصد إعادة فرض السلطة الأمنية، كونها “هشة”.
مع ذلك، كانت أحداث حصلت، في شهر أغسطس الماضي، قد مهّدت للعملين الأمنيين في جاسم ودرعا البلد، إذ تحدثت وسائل إعلام وشبكات محلية في درعا خلال الأسابيع الأولى من الشهر المذكور عن مقتل قياديين في “داعش” على يد تشكيلات محلية.
والقيادي الأول هو “أبو سالم العراقي”، وقتل في التاسع من أغسطس الماضي، بعد محاصرة منزله في بلدة عدوان بريف درعا الغربي، وتبعته حادثة مقتل محمود الحلاق “أبو عمر جبابي” في منطقة المزيريب غربي طفس.
وفي أكتوبر الماضي، ذكر “المرصد السوري لحقوق الإنسان” أن درعا شهدت تصاعدا لافتا بنشاط “داعش” والخلايا التابعة له المنتشرة في مناطق متفرقة من المحافظة، أبرزها جاسم في الريف الشمالي.
وقال “المرصد”: “ذلك ما دفع بفصائل محلية في الثلث الثاني من الشهر لشن حملة أمنية ضدهم، ليكشر التنظيم عن أنيابه ويتبع سياسته المعهودة بالتفجيرات الانتحارية”، وفق تعبيره.
وشمل تقرير “المرصد” عدة أمثلة لتحركات التنظيم في مختلف نقاط سوريا على اختلاف أشكال النفوذ، ليثبت أن خلاياه لا تزال نشطة، للتوافق مع تحذيرات سابقة أطلقها العديد من المسؤولين الأميركيين في تصريحات متفرقة.
“بارع في استغلال الظروف”
وتعتبر محافظة درعا “بيئة خصبة” لنشاط خلايا داعش، لأن “انتشار النظام السوري ليس كبيرا، وهناك بقايا أسلحة بشكل كبير”، حسب ما يراه الحريري.
ويقول: “داعش قادر في المحافظة على إنشاء خلايا. هذا الأمر يشبه ما يحصل في إدلب وحلب، مع فرق يتعلق بأن النشاط الأمني ضده في درعا على نحو أكبر”.
وسجل “مكتب توثيق الشهداء في درعا” عددا من حوادث “القتل المجهول”، خلال الفترة الأخيرة، فيما بقيت الجهة المسؤولة غير واضحة.
ويضيف الحريري “بدا في تفاصيلها أسلوب داعش. بعض المستهدفين كانوا أشخاصا معروفين بمحاربة التنظيم منذ زمن. بصمته كانت واضحة”.
ونادرا ما يتبنى “داعش” عمليات استهداف وقتل في الجنوب السوري، ومع ذلك كان قد اتجه للإعلان عن ذلك في مرات متفرقة.
ويرى الحريري أن ما يحصل في الجنوب السوري الآن يندرج ضمن مسارين، ويوضح: “الأول محاربة داعش وخلاياها، بينما يذهب الثاني إلى وجود مجموعات خارج السيطرة، وبالتالي يراد محاربتها بذريعة انتمائها للتنظيم”.
ولا يستبعد الباحث في شؤون الجماعات المتشددة، حسن أبو هنية، أن يكون لـ”داعش” نشاط في محافظة درعا”، موضحا أن التنظيم، وخلال الفترة الأخيرة، حوّل ولاياته من عسكرية إلى أمنية، وبالتالي “أصبح وجوده غير مرئي. بقي عناصره كامنين بانتظار ظروف موضوعية أفضل”.
ولا تزال الأوضاع في الجنوب غير مستقرة، وبينما هناك حالة انشغال روسية، توجد محاولات تمدد إيراني، في ظروف تتخللها عمليات واحتجاجات بين الفينة والأخرى.
ويقول أبو هنية لموقع “الحرة”: “قد يستثمر داعش أي ظرف في المستقبل. لا يوجد حل في سوريا وهناك تدهور في الأوضاع الأمنية وصراعات جيوسياسية واقتصادية، وبالتالي سيحافظ على وجوده في هذه المنطقة”، في إشارة إلى الجنوب.
ويؤكد الباحث أن “التنظيم في درعا أو بقية المناطق يحافظ على وجوده من خلال خلاياه، وينتظر تبدل الظروف الداخلية وكذلك الدولية. هذا هو نهجه. هو بارع في استغلال الظروف وليس خلقها”.
“لعبة إرهاب وسياسة”
وتتميز محافظة درعا بوضع خاص تنفرد فيه عن باقي المناطق السورية التي دخلت في “اتفاقيات التسوية”، من حيث طبيعة القوى العسكرية المسيطرة على قراها وبلداتها وأيضا طبيعة المقاتلين.
وينقسم هؤلاء المقاتلون ما بين تشكيلات من قبيل “اللواء الثامن” التابع لـ”الفيلق الخامس”، وأخرى “أصيلة” في المنظومة العسكرية لنظام الأسد كـ”الفرقة الرابعة” و”الأمن العسكري” و”المخابرات الجوية”.
وألقى هذا التنوع في القوى المسيطرة بظلاله على الأرض، لتتشكل مناطق نفوذ مقسّمة داخل منطقة النفوذ المعروفة إعلاميا على أنها تخضع بكاملها لسيطرة نظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين.
ولا يعترف النظام السوري بأي مجموعات عسكرية معارضة على الأرض، فيما قالت صحيفة “الوطن” إن العمل الأمني في درعا البلد “بدأته الجهات المختصة بالتعاون مع مجموعات أهلية، وبمساندة الجيش العربي السوري”.
ويتناقض ذلك مع رواية التشكيلات من بينها “اللواء الثامن”، وكذلك وجهاء الأحياء، الذين تحدثوا عن التطورات في تسجيلين منفصلين.
وما بين هاتين الروايتين يوجد قاسم مشترك واحد هو المجموعات المستهدفة، والتي لا تزال تتحصن في مواقع في منطقة طريق السد بدرعا البلد.
وبينما لا يستبعد الباحث أبو هنية وجود “لعبة إرهاب وسياسة”، وأن “النظام السوري يستثمر ظاهرة الإرهاب والعنف في مسألة التركيز على القضايا الأمنية وعسكرة المجتمع”، يرى أن “نظرية المؤامرة”، التي تخرج من هذا السياق بجزء، “غير واقعية”.
ويوضح حديثه بالقول: “أي دولة ذات طبيعة شمولية واستبدادية وديكتاتورية تستثمر الإرهاب كجزء من العمل الاستخباراتي الأمني، لكن هذا لا يعني أن داعش ينتشر ويتمدد وأن له حسابات خاصة”.
وأوضح أن “داعش له أجندة خاصة، وعندما يشعر النظام السوري أنه غير قادر على فرض الاستقرار، يلجأ إلى لعبة العنف والإرهاب”.
ويضيف الباحث أن “اللعبة بين أي نظام والحركات المتطرفة والإرهابية تتم في هذا المجال، لكن أحيانا ينقلب السحر على الساحر”، حسب تعبيره.
وحتى الآن لا يعرف الاسم الفعلي لزعيم “داعش”، لكن تقديرات الأمم المتحدة، التي نشرت في أغسطس الماضي، تشير إلى أن عدد مقاتليه بين سوريا والعراق يصل إلى 10 آلاف، وأن هذا التنظيم الإرهابي لا يزال “يهدد السلم والأمن الدوليين، رغم هزيمته الإقليمية، والخسائر التي منيت بها قيادته”.
ورغم خسارة “داعش” للأراضي التي كان يسيطر عليها في سوريا مؤخرا وقبل ذلك في العراق، إلا أن عملياته الأمنية وهجماته لم تتوقف، إذ يتبنى بين الفترة والأخرى استهدافات ضد قوى عسكرية مختلفة، ومتوزعة في مناطق نفوذ متفرقة، الأمر الذي دفع إلى إصدار تحذيرات سابقة من أن “النشاط” لا يزال قائما، وربما سيتوسع إلى مرحلة جديدة.