من حيث الواقع الفعلي إدلب وعفرين دولة ضمن دولة، ومستعمرة تركية بامتياز، وبغطاء من مليشيات المعارضة السورية التكفيرية، والتي هي مرفوضة، كقوة عسكرية وواقع جغرافي-سياسيي، من كل القوى المعنية بالقضية السورية ومن ضمنهم تركيا، الدولة التي رغم احتلالها لهاتين المنطقتين تعيش أزمات، داخلية وخارجية، وأحد أهم هذه الأزمات بقاء المنظمات التكفيرية السورية التي ساهمت في تجميعهم ضمن إدلب، وعفرين، للتخلص منهم لاحقا، بعد صفقات حلب والغوطة وغيرهما، وإشكاليات التخلص منهم، وإيجاد مخرج للقضاء عليهم من معضلاتها الرئيسة، ولذلك فمن الممكن أن يكون مصيرها، بكل فصائلها، كمصير الإتلاف، والتي ظلت رأس بلا جسد، والفصائل العسكرية المتعددة تحتمي بالمدنيين، وتركيا هي المعنية هنا والمكلفة بهذه المهمة.
وتبينت أن المؤتمرين في أستانة الأخير لم يستطيعوا أن يخرجوا بحل مناسب لوضع المعارضة المسلحة في إدلب وعفرين، وتركيا بينت إنها غير قادرة لوحدها القيام بمهمة القضاء عليهم، كما وأن أساليب روسيا والسلطة السابقة ترفض من قبل أوروبا وليست تركيا، خوفا من موجة الهجرات، إلى جانب الكوارث المحتملة حدوثها للمدنيين الذين يتكدسون ضمن مناطق تجمع القوات المعارضة المسلحة، وعليه تم دعوة الأوربيين إلى مؤتمر إستانبول، كمحاولة لإقحامهم في المهمة، وهي على الأغلب كانت خطة روسية لإحراج الأمريكيين، وبالتالي تحييد أوروبا في حال تم تطبيق الخطة التركية بدفعهم إلى محاربة الكرد في شرقي الفرات، أو الروسية والتي ستؤدي إلى حدوث موجة من الهجرات الجديدة للمدنيين نحو أوروبا، ولكن مسيرة مؤتمرات استانبول تتبين أنها غير معبدة، بعد الحوادث الفرنسية الأخيرة، وعليه حصرت المعادلة بين روسيا وتركيا من جهة وأمريكا من جهة أخرى، وعن طريق أدواتهما، المنظمات التكفيرية أو ما يقال المعارضة المسلحة، وقوات القسد أو القوات الكردية.
وفي هذه المعادلة التي يصعد فيها أردوغان عادة لهجته كلما اقتربت الانتخابات التركية، تظل الردود الأمريكية رخوة، وتعكس حالتين، إما أنها على قناعة أن تركيا لن تتجرأ بالهجوم على شرقي الفرات، أو أنها تريد أن تبين أن مخططات تركيا بالتخلص من المعارضة تتلكأ، ومن وراء الستارة تحثها على إيجاد حلول أخرى، ومنها حثها على حل ذاتها والارتهان إلى الاتفاق مع السلطة عن طريق روسيا، وهناك سيتم إذابتهم والقضاء عليهم بالأساليب الأمنية. أو تجميعهم ودفعهم على دخول حرب مع قوات القسد أو الكردية في شرقي الفرات، مع أو بدون الموافقة الأمريكية، وهذا ما يحث عليه أردوغان للتخلص من الطرفين معا، الكرد والمعارضة السورية المسلحة، علما أن العملية سوف تكون مواجهة مباشرة مع أمريكا والناتو، وأردوغان يدرك أن مثل هذه المواجهة بدون تغاضي أمريكي أو موافقة مبطنة على الأقل خطوة كارثية له ولتركيا، وبالتالي لا يتوقع الإقدام عليها مهما دفعت به روسيا، ومهما كانت إشكالية المعارضة ثقيلة عليه.
ولأجل التخفيف من الرفض الأمريكي والتي تعلن عن طريق التصريحات الهادئة من مسؤوليها في سوريا والمنطقة ،كجيمس جيفري وبريت مكغورك، واحيانا من وزيري دفاعها وخارجيتها، تدفع المجموعات المعارضة السورية بالعبث في منطقة عفرين، وتحاول أن تخرجهم كقوات خارجة عن القانون وإرهابية وهي التي تحاول مهاجمة شرقي الفرات، علما أن مثل هذه الألاعيب العسكرية واضحة لدى أمريكا، فالأساليب ذاتها استخدمتها تركيا في الباب وجرابلس قبل أن تجتاح عفرين، وكذلك بينتها الحوارات والاتفاقيات التي تحدث عنها أردوغان وإدارته حول منبج والتي لم تحظى بالموافقة الأمريكية حتى الأن، ومعظمها تعكس أن تركيا لن تتمكن من القيام بخطوات عملية نحو شرقي الفرات، علما أنه لا توجد خطة بديلة عنها حتى الأن، للتخلص من المعارضة المسلحة، ووضع نهاية لدولة أو كونفدرالية إدلب وعفرين، ومهاجمة أو خلق معارك مع الكرد في شرقي الفرات، بوجود القوات الأمريكية، وهي الخطة الوحيدة التي تهلل لها تركيا، لأنها كما ذكرنا سابقا تود ضرب الكرد والعرب ببعضهم، وتعميق العداوة الإثنية في المنطقة على سوية الصراع المذهبي الحاصل، وبالتالي التخلص من الطرفين في آن واحد، ومن المنطقي أن تحافظ روسيا على حيادها في الإعلام علما أنها المحرك الأساسي لتركيا وهي تقف خلف معظم تصريحات أردوغان.
جميعنا نتذكر المراحل التي تمت فيها عمليات تقزيم الإتلاف، وتهميشها، والهيئة العليا للمفاوضات، وكيف شتت، من مؤتمر إلى أخر، واليوم بالكاد نسمع أصوات الانتهازيين والمنافقين الذين تسلطوا على المعارضة السورية السياسية، بعدما كانوا ينتقلون من إعلام إلى أخر، وبدعم تركي- قطري، في تضخيم المستنقع الذي تم فيه تحويل الثورة السورية السلمية إلى صراع بين سلطة إجرامية ومنظمات إرهابية تكفيرية، والتي على أثرها تحول المجتمع السوري الحضاري إلى مجتمع راديكالي إسلامي متطرف، مقابل شريحة إجرامية بنظام ديكتاتوري غارق في الفساد، ومنذ عقود من الزمن، وعلى خلفية الحالتين الموبوءتين، تخلى العالم والدول المساندة للثورة السوري عن الشعوب السورية المعاني، وأصبحت علاقات الدول مع السلطة من جهة ومع المنظمات التكفيرية الإرهابية من جهة أخرى، تعكس فسادهم المالي والسياسي، وانحطاطهم الخلقي والثقافي، ففي كل مؤتمر كان يتم إزالة مجموعة منهم، والتضييق على المعارضة التكفيرية المسلحة وحجب المساعدات عنهم، والتي كانت تخسر بعد كل مؤتمر جزء من جغرافيتها لحساب السلطة وروسيا وميلشياتهما.
غير أردوغان، وبتخطيط روسي، وجهة المعارضة السورية التكفيرية، من محاربة سلطة بشار الأسد إلى محاربة الكرد، وبالتالي فإن سوريا اليوم متجهة إلى حيث التقسيم، في حال نجحت المعارضة باحتلال جزء من شرقي الفرات والاحتفاظ بإدلب وعفرين، وكما ذكرنا هذا ما ترفضه روسيا قبل كل القوى المعنية بالأمر، كتشكيل مستعمرة تركية أو كونفدرالية للمعارضة، لكنها مقبولة فيما إذا تمكنت من تقليص الوجود الأمريكي أو الكردي المدعوم أمريكيا. وأمريكا مصالحها في شرقي الفرات مهمة لعدة اعتبارات، ولذلك ليس فقط ستعارض على التدخل التركي، بل على الأغلب ستعيد قضية عفرين إلى الساحة مستقبلا لعدة احتمالات، منها كممر للوصول إلى البحر، وبالتالي الاتصال بأسطولها دون المرور بالأراضي التركية أو حتى من خلال قاعدة الناتو إنجرليك، كما وستكون بوابة للاتصال الاقتصادي والسياسي مع الدول المجاورة المعنية كإسرائيل، وشرقي الفرات هي الجغرافية الوحيدة، بعد العراق المشكوكة في أمرها، التي ستصبح الحاجز أمام التمدد الإيراني نحو سوريا ولبنان، وتهديد إسرائيل، وهنا فالكرد على موعد مع إدارة فيدرالية بجغرافيتها الحالية وستضاف إليها عفرين، ولا يستبعد أن تشرف على البحر.
وتبقى جدلية خلق معارك بين الكرد والمنظمات الإرهابية قائمة، سيثيرها أردوغان بشكل مستمر، وسيرفع من نبرة تصريحاته وتهديداته، كلما أزداد الضغط الروسي بالتخلص من المعارضة الإرهابية، لان بوتين لا يجد بديلا لمصلحة روسيا من إعادة إدلب إلى حضن سلطة بشار الأسد، وفي الواقع لم يكن تصريح دونالد ترمب البارحة اعتباطيا، على الإعلام ومن البيت الأبيض، حول تحديده الزمن بـ 30 يوما للتخلص من داعش في سوريا على الأكثر ، والتي تعكس من حيث التحليل الدبلوماسي أنه هناك محادثات تجري بين الدول المعنية بأمر المعارضة السورية الإرهابية بالتخلص منهم بعد إعلان ترمب نهاية داعش، والتي رافقتها تصريح من المسؤول الأمريكي في سوريا بريت مكغورك بأنهم لن يخرجوا من سوريا قبل الانتهاء من تشكيل قوت حرس الحدود، وهنا يلاحظ توافق خفي بين الرئيس وموظفه، وهي أنه علي تركيا أن تتخلص من المعارضة الإرهابية، والقوات الأمريكية في شرقي الفرات خط أحمر ومعهم القوات التي تدربهم، وهي قوات كردية أو محسوبة على الكرد، وقد يصدر تحذير أمريكي هادئ كالعادة، على تهديدات أردوغان، وبالتالي إذا تمت أية عملية لا بد وأن تكون لأمريكا علم مسبق بكل أبعادها، وكرؤية تحليلية، ستبقى العملية، إن تمت، محدودة الجغرافية، ويستبعد استخدم تركيا للطيران والأسلحة الثقيلة، وإذا استخدمتها تركيا تعني أن أمريكا موافقة عليها، وبالتالي فالقضية الكردية عليها السلام ضمن سوريا، أي السلام على مصالح أمريكا في شرقي الفرات لصالح روسيا.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية