توطئة : تشكل الدراسات المقارنة صورة العلاقات الثقافية والتراثية بين الأمم ولحضارات البشرية ، ومن أهم هذه الدراسات في خزانة السفر الثقافي العالمي هي رسالة الغفران لأبي العلاء المعري والكوميديا الألهية لدانتي الأيطالي بدلالة مشتركات اللقاء بينهما .
ولا أخفي رغبتي في البحث في مثل هذا الموضوع الخصب والثري هو تحديث التراث الثقافي العربي والأطلاع على حضارة الغرب الأوربي ومدى التلاقح الفكري والثقافي بين الحضارتين .
الفنتازيا : وسر حضور الرحلات الفنتازيا الخيالية في مجمل الحضارات هي تلك الفكرة ( الأنسانية ) المشتركة الكامنة في جينات الحضارات البشرية في تلك الحكايات الأسطورية الأفتراضية التي نطالعها اليوم في رسالتي المعري ودانتي ، وإن هاتين الجوهرتين النفيستين تعتبران من أبدع روائع الأدب العالمي ومن أهم الذخائر التراثية الثرة والثرية التي توجت ورصعت خزانة الفكرالأنساني وأبدعت في الخيال الأفتراضي للبحث عن المدينة الفاضلة والتي يقودها الأنسان النموذجي المصلح الكامل ، ولغرض الأرتقاء بالذات البشرية إلى الكمال الروحي والعقلي وأيجاد الأنسان النموذجي السوي بعد تعميدهِ من خطاياه بالتوبة الأزلية وخضاعهِ لدفع فاتورة الجلد الذاتي والتعذيب الروحي المأساوي في محطات الرحلات الفنتازية الخيالية التي تبدو لنا بشكل أساطير ، ليس غريباً أن نرى اليوم شيوع ( الأساطير ) في زمن التكنلوجيا الرقمية وفضاءاتها الحداثوية نرى كل جامعات العالم تحتوي على ” قسم علم الأساطير ” Mythology وكما أرى : (إن الأساطير حضارة والحضارة أساطير ) أذ لاتوجد حضارة عبر زمكنة التأريخ دون أساطير مخالفة للعقل البشري ، فالمجنون يعتبرها حقيقة والعاقل يعتبرها وسيلة للتسلية والعبرة .
( يلومون الأديان لأنّها مليئة بالأساطير ، وماذا تكون الدنيا بلا أساطير ؟ أعطوني حضارة دون أساطير ، إن الأنسان نفسهُ أسطوري بالفطرة ، قيل إن ألأنسان حيوان عاقل ، أبحث طيلة حياتي عن أدلة يمكنها تأكيد ذلك ) الفيلسوف البريطاني / برنت راند رسل( كتاب الكوميديا الألهية/ دانتي .
الكوميديا الآلهية لدانتي
الكوميديا اللإلهّية — الملهاة – للشاعرالإيطالي ” دانتي”، 1265م – 1321م ، الكوميديا تدور في أطار جديد من القيّمّ الروحية (اللوثرية ) لأصلاح رجال الدين الذين يمارسون أساليب تعسفية في تغيير أتجاهات البشر في السياسة والأصلاح حسب أهوائهم وأستغلال سلطاتهم الكنسية الكاثوليكية في عصرهِ ، ونسجَ أفكارهُ بشعرٍ ملحمّي تحتوي على نظرةٍ خياليةٍ في الإِستعانةِ بالعناصر المجازية حول الآخرة- حسبَ الديانة المسيحية- وتخيلَ عالماً أبدّعهُ من خياله فيه مكانٌ للخير وكذلك للشر- عندما تمرد أولُ ملاكٍ على الّرب ، لسريان الشر في الأنسان نفسه ، فهو يصبوا في قرارة نفسهِ ألى رحلةِ أرتقاءٍ روحي نحو الكمال، وأيجاد الأنسان النموذجي المُصلِحْ بعد تعميدِه من خطاياه بالتوبة الأزلية بعد معاناة الجَلد الذاتي والتعذيب الروحي المأساوي في مرحلتي رحلة (الجحيم والمُطّهر) ، وبذلك غاصَ الشاعر الإيطالي دانتي في أعماق هذا الكائن العجيب المتمرد والمتعجرف تارةً بجبروت وخيلاء ، وواهن ومتمسكن تارةً اُخرى ، غايتهُ الصعود في السماوات العلا لمشاهدة الأنوار السماوية الساطعة بنور الرب أو لنقل : إنهُ يصبو إلى رحلة أرتقاء روحي نحو الكمال لأيجاد الأنسان النموذجي المصلح بعد تعميده من خطاياه وأعطائهِ فرصة التوبة الأزلية ، وربما أعتقد أن هناك ثمة ( فلترة ) بين مرحلتي الجحيم والمطهر لأيجاد هذا الأنسان المنشود .
رسالة الغفران لأبي العلاء المعري
أبو العلاء المعري شاعرٌ وفيلسوفٌ من العصر العباسي 363 -449 هجري—- 973 -1057 م ،هاجم عقائد الدين ، رفضَ أن الأديان تمتلك الحقائق التي يزعمها ، أعتبرمقال الرسل مزورا لذا أتُهمَ بالزندقة لأنّهُ أعلن آراءهُ بأن الدين خرافة أبتدعها القدماء لاقيمة لها ألا لأُلئك الذين يستغفلون السُذّج من الناس ، وكان نباتيا لدعم حقوق الحيوان .(اقتباس من كتاب رسالة الغفران لأبي العلاء المعري)
وأن رسالة الغفران أثمن روائع الأدب النثري العربي ، وهي من سلسلة ذخائر الأدب العربي أو أسطورة اللغة العربية قبل دانتي
ب—280 سنة .
وجد الباحثون تشابهاً كبيراً بين الكوميديا الألهية ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري ، وأُثيَر(بضم الأف) جدلٌ واسع في هذا المجال وأول من أثارَ هذا الجدل هو المستشرق الأسباني الكاهن *بالاثيوس*1919 أكّدَ فيها أثر رسالة الغفران بالكوميديا وأيدتها الأقلام العربية ومنهم من قال (أعمى المعّرةِ كان معلماً لنابغة ايطاليا في الشعر والخيال)، وآخر :أن الشاعر الأيطالي قد نسخ خطة الملهاة عن رسالة الغفران، مستدلين من أوجُه الشبه بين الرسالتين.
أوجه الشبه بين الرسالتين
أثار هذا الموضوع جدلاً بين أوساط النقاد ، والذي وجدته الأكثرية تؤكد وجود تشابه بين النصين وحسب قناعتي نعم هناك تشابه ورد في الرسالتين وصف أحوال الجحيم والفردوس وكان كلّ منهما قديساً في وجدانهِ وشاعراً في روحهِ والرسالتان متفقتان في رحلتهما السماوية الخيالية للوصول إلى شجرة المنتهى حيث النور الألهي .
وعلى هذا أُثيرجدلٌ كبيرٌفي أوساط النُخبْ المثقفة منهم من يؤيد وآخر ينفي ويعارض ، وللحقيقة وجدتُ كفةَ النافين-في التأثر والأستنساخ- أقوى من حيث قوة المنطق و حجج التباين المكاني والزماني.، ليس هناك ما يدعوالى التشكيك في أستنساخ دانتي لرسالة الغفران من المعري ، صحيح أن هناك تشابها في بعض الحوانب -مثل ماعرض في المقال -ولكن هناك شواهد تأريخية ومكانية تثبت بأن الرحلات السماوية( الخيالية) كانت شائعة في تلك الفترة الزمنية مثل الرحلة النبوية : “الأسراء والمعراج”التي فيها وصفا عميقا للجحيم والفردوس و حدثت قبل أن يولد المعري ، وهي الأخرى رحلة سماوية للقاء الرب والوصول الى سدرة المنتهى التي هي غاية وأمل جميع الرحلات الخيالية .
وأن الشام ومعرة النعمان تعرضتا للغزو التتري والروماني ونهبت خزائن الكتب والمخطوطات ، وأن الملك الأسباني(الفونسو) ملك قشتالة أمر بترجمة رسالة الغفران الى الأسبانية اللغة القشتالية بالذات قبل ولادة دانتي بعام 1264 م، من الجائز والمحتمل أن يطلع هذا الروائي والشاعروالفيلسوف على جميع المخطوطات والكتب المتاحة في عصره ، وليس من الضروري أن يستنسخ عمل غيره ، وذلك لوجود تباين وأختلاف في العقلية والعقيدة والمضمون والأهداف والغايات والمشاهد والأساليب والتخيلات وذكر الأساطير، وأن التفاعل بين ثقافات الأمم والشعوب هو مؤشر صحيح لبناء الحضارة الأنسانية —– لا يمكن لأيةِ أمةٍ من الأممْ أن تبني حضارتها بمعزل عن حضارات الأمم الأخرى ، لأنّ الأنسانية جمعاء قد تتلاقى في بعض أفكارٍ وتختلف في أخرى — تتأثر وتؤثرمن خلال عملية التلاقح الفكري يمكن أن تولد أبداعات عظيمة تُسّخَرْ من أجل خدمة البشرية، لهذا كلُه إني من المؤيدين لفكرة ما يدعو أليهِ البعض من أنّ الكوميديا الألهية غيرمستوحات من رسالة الغفران لأن لكلٍ من الرسالتين شخصيتها المستقلة ، وذلك كلٌ منهما تحكي معاناة ما حولها— الكوميديا الالهية تحكي تسلط الكنيسة وخطايا الصراع المجتمعي الروماني والأغريقي ، ورسالة الغفران تحكي ظروف مجتمعية أسلامية بين التشظي المذهبي والعرقي التى أُدلجتْ بمدارس فكرية كالجبرية والقدرية والمعتزلة وتيار الزندقة — وغيرها من المذاهب الفكرية .
الفروقات بين الرسالتين
توضحت لديي قناعة أدبية وثيقة بذكر بعض الفروق المهمة يمكنها دحض فكرة (الأقتباس ) لدانتي الأيطالي :
عند وصول الرحلة إلى الأنوار الألهية كانت تمنيات وطلبات المعري ( مادية ) أما أحلام دانتي عند النور الألهي تؤكد على (الوصايا السبع للمسيحية ) ، بدأ المعري رحلتهُ السماوية يالفردوس ثُم الجحيم أما دانتي بدأ رحلتهُ بالجحيم ثم الفردوس، أن حراس الجحيم عند المعري ملائكة وعند دانتي شياطين وعصاة ، والرواة عند المعري شعراء وعند دانتي رجال دين وعصاة أفاقين ، والجنة عند المعري ثلاثة أقسام وعند دانتي تسعة أقسام :
مصادر البحث
—————
-الكوميديا الألهية – ترجمة المؤرخ المصري – حسن عثمان – القاهرة
– رسالة الغفران – لأبي العلاء المعري
– رسالة الغفران – تحقيق فوزي عطوي بيروت 1968
– قصة الحضارة – ترجمة الدكتور زكي نجيب محمود1988 بيروت
كاتب وباحث أدب عراقي مقيم في السويد
في تشرين الثاني2022