د. مهندالبراك
ahmedlada@gmx.net
و بعد ايام اراد الخروج خارج الغرفة، فخرج بمساعدة من كان جنبه و بقي بحدود نصف ساعة تحت الشمس و عاد، ثم تكرر خروجه بمساعدة او بمراقبة، الاّ انه كان لايتكلّم و كان وجهه جامداً خالياً من اي تعبير، حتى انتبهت عليه مرة و هو يهزّ برأسه و يصفّق على وزن موسيقى كمان كان يُعزف من بيت على تلة قريبة، كانت الحان اغاني من الفولكلور الشعبي الكردي.
بعد استفساري من مام حميد عن الموسيقى و من اين تأتي، توضّح لي ان الجار هاوري ستار هو الذي كان يعزف على كمانه الحاناً لأغاني شعبية كردية، كان سركوت يطرب لها وكأنها كانت ابرز مؤثّر حرّك له دماغه ليصحو، و اعتماداً على معرفتي بتأثير الموسيقى وفق مذاق العقل الباطن لأفاقته، تفاهمت مع ستار على ان نزوره سركوت و انا يومياً ليعزف على كمانه مايطرب له سركوت، وقد قدّم ستار في ذلك خدمة كبيرة لسركوت و كان فعلاً تحت الطلب.
بعد التحسن التدريجي لسركوت قررت بانه توفر الوقت المناسب لنقله آنذاك الى مقر الفوج في سماقولي، ليكون بعهدة المساعدين الطبيين الكفوئين هناك، من كامران (1) الى سعد (2)، و لعبت عوائل الانصار التي كانت قد ازدادت في المقر دوراً بارزاً في رعايته و تنظيم طعامه و نظافته و خاصة المناضلة المعروفة ” فتحية محمد ام شوان ” زوجة الشهيد القائد الشيوعي عادل سليم . .
و قد لعب كل انصار المقر ادوارهم في اعادته للتفاعل مع الحياة حتى صار يشارك في مباراة كرة الطائرة هناك، و بقيت لديه مشكلة عدم النطق و غياب اجزاء من الذاكرة حتى ذلك الوقت، رغم جهود الرفاق و خاصة هاوري جوتيار (3) المسؤول السياسي لسرية قره جوغ آذاك، في نقله الى رضائية و من ثم الى سوريا و اخيراً الى السويد مع جموع الهاربين من الحرب الكيمياوية التي شنّها صدام على كردستان العراق . .
و تمر السنين ليكتب هاوري ستار خيلاني مؤخراً مقالاً مؤثراً بالكردية عن حياتنا و نضالنا في بيشمركةانصار الحزب الشيوعي العراقي في الثمانينات، بأسلوب مؤثر و بعيون الناس . . عكس فيه موقف الجماهير الكردية الريفية من الانصار و عموم البيشمركة و استعدادهم لمساعدة جرحاهم . . وقد ساعدني في ترجمة اهم فقراته الى العربية مشكوراً المناضل الشيوعي و الفنان المعروف شه مال عادل سليم :
(( ” الطبيب الذي استطاع احياء الموتى ”
حدث واقعي
في احدى الليالي في عام 1987 كنّا نسكن قرية ( داربسه ر ) الصغيرة، انا وزوجتي و ابني (هكاري) . . وصلنا خبر إصابة المقاتل الجرئ ( سركوت ره ش ) اصابة مميتة، وابلغت بالحضور فورا وجلب كل ما لديّ من الأدوية، وفعلا قمت بسرعة البرق و جمعت كل ما لديّ من الإبر والادوية وتحركت نحو قرية ( مرزانة ) .
وصلنا الى القرية بعد مشوار طويل وشاق، و كان سركوت ره ش ممدداً في احدى الغرف وبجانبه كان بعض من رفاقه، وانا بحكم خبرتي في علاج الجرحى خلال نضالي كبيشمركة، بدات بعملي فورا . وعندما لمسته، لم يتحرك، وعندما وضعت راسي على صدره، سمعت دقات قلبه، كان وضعه صعباً جداَ بسبب إصابته وجرحه البليغ في راْسه.
قمت بما كنت أستطيع عمله حسب قدرتي في ( تداوي الجروح ) وقمت بزرق إبرة وقف النزيف وإبرة ضد الالتهاب ونظفت الجرح، ولكن لا اخفي عليكم كنا فاقدين الأمل به تماما، جلست الى جانبه الى الصباح.
ثم نقلناه الى قرية ( گرماوه) حيث بيت خالي كاك حميد، وفِي هذا الأثناء وصل مساعد الطبيب (كامران) و المساعد الخبير الشهيد د. عادل (3) من سرية قره جوغ في دشت اربيل وعملنا معاً كل ما استطعنا عمله، وفِي نفس الوقت كنّا ننتظر قدوم دكتور صادق، الذي كنّا نلقبه بـ (الملاك المخلّص)، وفعلا وصل الى طرفنا دكتور صادق الذي كان إنسانا وسيما و فرحنا بوصوله لأننا كنّا نعرف بان هذا الانسان يستطيع ان ( يحيي الموتى ) ويستطيع ان ينقذ ( سركوت من الموت المحقق ) ومع وصوله وفحصه لمكان الإصابة، قال : احظروا لي فورا شفرة !! وبدا بحلق شعر الجهة اليمنى من راس ( سر كوت ) وثم قال ( احظروا لي قلما و دفترا !!).
رسم الجمجمة والأعصاب، وفِي هذه اللحظة سألته ( ماذا تتوقع ؟؟)، نظر الى مبتسما ( أنقذه !! يجب ان لايموت هذا الرجل، لانه لا يستحق الموت في شبابه)، وقال أيضا ( يشفى ولكن سيفقد ذاكرته ونطقه ، وسوف يبدأ مثل المولود الجديد في تعلّم الكلام . . ).
طبعا فرحنا نحن بهذا الخبر، و طلب منا دكتور صادق ان نجلب له ( صوندة المعدة ) قلت له عندي صوندة المغذي فقط، قال لا باس، و وضع صوندة المغذي على صدر سركه وت لقياس الطول المطلوب، ثم قطعها وكوى راس الصوندة، ثم ادخلها من انف سركوت الى معدته لإعطاء الحليب مع الأدوية الضرورية .
بعد 20 يوما تحسن وضع سركوت وبدا يتحرك ويجلس ويمشي، ثم تحسن وضعه و ارسل لاحقا الى احد الدول الأوروبية والآن هو متزوج وله أطفال وعائلة سعيدة ولكن لايزال يعاني من صعوبة النطق . . .
ان جيل الثمانينات وكل أهالي منطقة كوية ومناطق كوردستان يعرفون دكتور صادق حيث كان ذائع الصيت، عالج الكثير من أهالي القرى وبيشمرگة الحزب والأحزاب الاخرى. لم نكن نخاف من الموت عندما كان دكتور صادق معنا في المفرزة .
كان الدكتور إنسانا خلوقا، يتابع المرضى حتى من أهالي القرى، وانا شخصيا تعلمت منه كثير الكثير، لا أنسى أبدا نصائحه، عندما كان يقول لي : لاتفرّق بين المرضى والرفاق وبيشمرگة الاحزاب الاخرى . . المهم ان تعمل لإنقاذ المريض ومساعدته، لحد الْيَوْمَ اتذكر هذا الطبيب الكبير، له الذكر الطيب وللاسف لحد الان لا اعلم ولا اعرف اخباره ، ولكن أتمنى ان التقيه .))
و للجواب على سؤال كيف اصيب سركوت و لماذا جيئ به الى عدة قرى و تقاطر اكثر من معالج و مساعد عليه لمحاولة انقاذه، فان الجواب على سؤال كيف أُصيب يكمن في ان سركوت اشتهر بالبحث عن اهداف و كان يذهب لوحده للاستطلاع حتى يقترب تماماً و بكل حذر من الهدف المعني، و حتى اشتهر بكونه ” ثعلب البارتزان المُجرّب ” كما كان يسميه محمد حلاق.
و توضح الموقف اكثر بمكالمة هاوري شه مال لسركوت اول امس، انه في ذلك الوقت انتشر خبر في القرى عن مجئ قوة عسكرية كبيرة مجحفلة بالجاش في جهة كركوك و طقطق ثم نحو طريق طقطق ـ كويسنجاق لتمشيط المنطقة المحيطة بمعسكر طق طق اثر هجوم تيب اوك عليه بقيادة فاروق علي مولود، فقرر سركوت و هيئة مجموعته تغيير هدفهم و تشكيل كمين لتلك القوة لتأديبها و للإثبات بأن قوى البيشمركة جاهزة دوماً، لثقة هيئة المجموعة بضعف قوات النظام آنذاك، و تم الاتفاق على انهم سيكمنوا و ينتظروا القوة فيهاجموها و حددوا طريق انسحابهم السريع في تلك المنطقة المكشوفة كما جرت العادة في تلك العمليات الخطيرة.
و كعادته كان سركوت لوحده في المقدمة في حفرة عند الشارع، مرّت القوة و اطلق سركوت عليها النار واطلق رفاقه عليها و لكن المفاجأة ان القوة و تجهيزاتها و اسلحتها كانت اكبر بكثير مما توقعوا لقوة تمشيط، و من ردّها الاول على النيران سقط سركوت مصاباً برأسه مضرجاً بدمائه . . و توقفت القوة ولاحقت مجموعة سركوت التي انسحبت مسرعة لتتجنب الخسائر.
اعتقدت القوة و الجميع ان سركوت مات، و تجمع رفاقه بعيداً منتظرين هدوء الساحة ليحملوا نعشه . . في الغروب شاهد رعاة جثة بيشمركة و قلّبوها و وجدوا انّه حيّاً فحملوه الى احدى القرى المهجّرة الصغيرة هناك ” مرزانه ” و ارسلوا اخباراً لمن لديه قرابة او صلة بالبيشمركةالانصار و وصل الخبر بداية الى هاوري ستار كاتب المقالة كما مرّ.
و اخيراً لابد من القول، ان سركوت عاش بتظافر جهود الجميع من الناس في الريف و المدينة و حبهم للحزب الشيوعي و الانصار . . و الى جهود رفاقه في المدينة و جهود الانصار بكل مواقعهم الانصارية، و الى عموم بيشمركة كردستان . (انتهى)
13 / 8 / 2018 ، مهند البراك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. من عائلة مناضلة من العمادية، كان قادماً الى مقرنا من خطّهم السري في بغداد لإعادة التنظيم.
2. و هو نصير في مقر الفوج آنذاك، من عائلة مناضلة معروفة من الديوانية، شقيق النصير الشجاع الشهيد ابو سحر.
3. وهو عثمان عزيز علي من اهالي اربيل، المستشار السياسي لسرية قره جوغ ثم لسرية الشهيد بيشرو بقيادة ابو احرار، آنذاك .
4. وهو الشهيد البطل عبدالرحمن عزیز حمد من اربيل عضو مكتب سرية قره جوغ، الذي كانت لديه خبرة طبيب وذاع صيته في مناطق سهل اربيل واحبه الناس و حقد عليه نفر من المتسيّدين آنذاك في المنطقة، استشهد مع رفيقيه بتاریخ 9/10 حزيران 1988 اثناء عمليات الانفال الاجرامية، اغتيالاً بمؤامرة دنيئة لعدد من خونة البيشمركة المتعاونين مع المخابرات الصدامية و العائدين الى حزب آخر، في اطراف قوشتبه ـ اربيل .