في مزيج اجتماعي فريد، تتعايش عشائر مختلطة ينتمي أبناؤها إلى الديانتين الأيزيدية والمسلمة في مدينة سنجار والقرى والبلدات المحيطة بها بتناغم تام لا محظورات فيه إلا “الزواج”.
ويتوزع الأيزيديون على مناطق متعددة في شمال العراق، أبرزها منطقة جبل سنجار والقرى والبلدات التي تحيط بها، حيث كان يقدر عددهم قبل احتلال داعش للمنطقة، في أغسطس 2014، بأكثر من 270 ألف أيزيدي.
ويتوزع العدد المتبقي، والذي يتجاوز 250 ألفا، بين منطقة شيخان حيث يوجد معبد “لالش” المقدس لدى أتباع الديانة، ومجمعات شاريا وقرى أخرى في محافظة دهوك.
ويعني اسم الأيزيدية “عبدة الرب”، وهي واحدة من أقدم الديانات في العراق. ولدى أتباعها كتابان مقدسان هما “كتاب الجلوة” و “مصحف رش”. وهي ديانة مغلقة غير تبشيرية، فلا يمكن لأي أحد أن يكون ” أيزيديا” إلا إذا ولد لأبوين أيزيديين.
دخول أبناء العشائر الأيزيدية إلى الإسلام، يقول الشيخ داود جندي، “بدأ منذ أكثر من 400 عام عبر أفراد أيزيديين كانت لديهم الرغبة في الانتماء إلى الدين الإسلامي، كل حسب ظرفه الخاص”.
وبحسب الشيخ جندي، فإن “ما يميز إعلان إسلامهم أنه لم يتم في أوقات الحرب أو بالإكراه”.
ومع مرور الزمن، أصبح أولئك الأفراد “أفخاذ عشائر تجمعهم صلة الرحم مع قبائلهم الأيزيدية، ولا يفرقهم اختلاف دياناتهم”.
ويعتمد النظام الاجتماعي في العراق على تنظيم قبلي هرمي، يبدأ من القبيلة التي يرأسها شيخ عموم. وتنقسم القبائل إلى عشائر يرأسها شيخ العشيرة، والتي بدورها تنقسم إلى فروع أصغر تسمى بالأفخاذ ويطلق على رئيسها شيخ الفخذ. ويشكل أتباع الديانة الأيزيدية الأغلبية في العشائر المختلطة، ومنهم رؤساء القبائل فيما يشكل المسلمون أقلية ولديهم شيوخ لأفخاذ في تلك القبائل.
وتتعلق الرئاسة والمشيخة في النظام القبلي بالإرث العائلي. وهي حكر على بيوتات محددة تلتزم بالعناية بأفراد القبيلة، ولها نظام وقانون عشائري خاص بها.
العشائر الأيزيدية المختلطة
تنتمي العشائر المختلطة بين الديانتين الأيزيدية والإسلامية إلى نحو ست قبائل: “السموقة” و”الماندكان” و”الحليقية” و”الهسكان ” و”الهبابات” و”القيران”. يَعتبر أفراد هذه العشائر أنفسهم “أبناء عم” كونهم من الناحية الاجتماعية ينحدرون من قبيلة واحدة جامعة لكل تلك العشائر.
لكل واحدة من هذه العشائر قصة مختلفة عن دخول بعض أفرادها إلى الإسلام، بحسب الشيخ داود جندي الذي قال لـ”ارفع صوتك” إن هذا التحول “لم يُكتب عنه بطريقة أكاديمية واقتصر الأمر على روايات يتم تناقلها شفاهياً عبر الأجيال”. ونتيجة لذلك، تكون هناك أحياناً “اختلافات من مكان إلى آخر في سرد تلك الوقائع”.
أقدم تلك العشائر في الدخول إلى الإسلام هي “عشيرة المندكان، وكان ذلك قبل أكثر من 400 عام”، يقول الشيخ داود جندي.
حدث الانتقال عبر أحد وجهاء العشيرة الذي كان يعمل تاجراً يتنقل بين مناطق غرب سنجار ومحافظة الأنبار. “وبسبب تعامله التجاري مع مناطق مسلمة واختلاطه مع سكانها قرر الدخول إلى الدين الإسلامي”.
الوجيه الذي تحدث عنه الشيخ داود جندي، كان حسب الروايات الشعبية المتوارثة، متزوجاً من امرأتين. جمع الرجل أبناءه في أحد الأيام و”أبلغهم بقراره اعتناق الدين الاسلامي وطلب ممن يرغب الالتحاق به”، وقال لهم إنه “لن يجبر أي شخص على تغيير دينه”. بالنتيجة، “أسلمت إحدى زوجتيه وبعض أبنائه وتركه الباقون وعادوا إلى سنجار”.
بعد فترة، كما ينقل الشيخ جندي، “عاد الوجيه إلى موطنه واستقر هو وعائلته وتزوج أبناؤه الذين أسلموا معه وأنجبوا، ويبلغ تعدادهم اليوم بالآلاف”. وما تزال حتى اليوم “تنتمي سلالة الرجل إلى قبيلته الأيزيدية الأصلية ويعيشون في مناطق تل قصب وتل بنات”.
أما عشيرة الهسكان فلها قصة أخرى متوارثة مختلفة “حصلت قبل أقل من 300 عام حين اختفى أحد أبناء تلك القبيلة لأكثر شهر عقب رحلة لبيع وشراء الأغنام في مناطق مسلمة”. عاد الشاب بعد ذلك إلى قريته “لكنه وجد أنه تم طرده منها بعد ورود أخبار عن دخوله إلى الاسلام في تلك القرية”، ليرجع إلى القرية المسلمة “ويتزوج إحدى بناتها، ويصبح نواة لفخذ مسلم في قبيلة أيزيدية”.
حالياً، كما يقول الشيخ داود جندي، فإن أحفاد ذلك الشاب “أصبحوا عشيرة كاملة مسلمة، ضمن القبيلة الأكبر ذات الديانة الأيزيدية” واستمرت العلاقة العشائرية جيلاً بعد جيل “متعايشين في قرية واحدة بمجمع تل قصب”.
وتعتبر عشيرة الهبابات واحدة من أكبر العشائر الأيزيدية المختلطة. تتضمن داخلها عوائل كثيرة من المسلمين تتوزع في مناطق سنجار والقرى القريبة منها وتل قصب”، بالإضافة إلى “الرمبوسي الشرقي جميعهم مسلمون ينحدرون من عشيرة الهبابات الأيزيدية” يقول الشيخ جندي.
أما قصة إسلامهم، “فلا يُعرف بالضبط متى بدأت لكن المرويات تقول إنه كان هناك شيخ مسلم يدعو أهل القرى إلى الإسلام فاستجاب لدعوته شاب أيزيدي. تبناه الشيخ وزوجه من ابنته”، وحاليا “أصبحوا بأعداد كبيرة ويسكنون في منطقة الرمبوسي الشرقي”.
في العهد العثماني
ينتمي عيدو القطو إلى أحد أفخاذ عشيرة المندكان الأيزيدية وهو مسلم. يقول لـ”ارفع صوتك” إنه وأبناء عشيرته من الديانة الأيزيدية يلتقون عند الجد الخامس.
بدأت الحكاية، كما يقول عيدو، “في عام 1846، عندما كانت الإمبراطورية العثمانية تسيطر على العراق”. كانت الحكومة العثمانية تجبر الشعوب الواقعة تحت سيطرتها على التجنيد ضمن جيشها. جد عيدو الأكبر كان أحد المجندين. “تم سوقه مع مجموعة من رفاقه إلى إحدى القرى التركية المسلمة”. وعاش هناك لمدة سبع سنوات دون أن يسمع أهله أية أخبار عنه.
في القرية التركية، تحول الجد إلى الإسلام. وحين عاد إلى قريته بعد انتهاء مدة تجنيده، “تم نبذه من الديانة، إلا إنه كان متشبثا بأرضه التي كان يحلم بالعودة إليها طوال فترة تجنيده” يقول عيدو. استمر الرجل في العيش شبه مشرد في مناطق سنجار، فما كان من أفراد عائلته إلا الاجتماع لإيجاد حل له “فاتفقوا مع إحدى القرى المسلمة المتآخية معهم على احتوائه وتزويجه من إحدى بناتها”.
ومن هذا الجد، يقول عيدو القطو، بدأ اسم فخذ عشيرة القطو بالظهور والذي يعني “المنقطع عن عائلته” والذي توسع اليوم ليشمل “نحو 130 عائلة”.
الانتماء “السلمي” إلى الدين الإسلامي، كما يقول عيدو، “ما يزال مستمراً، ولكنه يحصل بشكل فردي. وغالباً بسبب الاختلاط مع عوائل مسلمة لفترات طويلة نتيجة السفر والعمل في أماكن بعيدة”، ضاربا المثل بـ”شاب أيزيدي مسلم التقيت به في مدينة الموصل أخبرني أن والده استقر في الموصل في سبعينات القرن الماضي لسنوات، قبل أن يعلن إسلامه ويتزوج من امرأة موصلية مسلمة، وبالتالي فالشاب المسلم ينتمي عشائرياً إلى قبيلة أيزيدية”.
يرتبط أبناء العشيرة الواحدة من الأيزيديين والمسلمين بروابط قوية. الشيء الوحيد الذي لا يتم في تلك العشائر المختلطة هو “الزواج” فيما بينهم. أما بقية العلاقات العشائرية من المشاركة في الأفراح والأحزان والفصل العشائري وجلسات الصلح وغيرها “فمستمرة وباقية”.
قوة روابط الدم بين العشائر المختلطة، كما يقول القطو، “تصل إلى درجة وقوف عشيرتي إلى جانبي في حال حصول خلاف بيني وبين شخص آخر من الديانة الأيزيدية ينتمي إلى عشيرة أُخرى، بغض النظر عن الديانة التي ينتمي لها أي منا”.
والد القطو، الأيزيدي المسلم، هو شيخ لأحد أفخاذ القبيلة وكثيراً ما يتوسط في حل المشاكل بين الناس. “مع أن والدي مسلم، إلا أنه كثيراً ما يتوسط لحل مشاكل عشائرية بين أبناء الديانة الأيزيدية أنفسهم، أو بين مسلم وأيزيدي من العشيرة ذاتها”. وما يتم اللجوء له هو “الأعراف والتقاليد وهي لا تتعلق بالشخص بقدر تعلقها بقانون العشيرة”، يقول عيدو.
مصير مشترك
“تشاركت العشائر المختلطة المصير ذاته عندما اجتاح تنظيم داعش مناطق الأيزيديين في سنجار، كما يقول خلف شنكالي الأيزيدي المنتمي إلى عشيرة المندكان المختلطة، حيث “هرب أغلب أبناء تلك العشائر مع بعضهم” ويعيش الكثير من أبناء العشائر المختلطة “في مخيمات اللجوء سواء كانوا من أبناء الديانة الأيزيدية أو من المنتمين للدين الإسلامي حتى الآن”.
وكان تنظيم داعش اجتاح مناطق الأيزيديين في أغسطس 2014، وشرد أكثر من 250 ألفا منهم، واختطف أكثر من ستة آلاف أغلبهم من النساء والأطفال.
عرض التنظيم الكثير من الأسرى في أسواق للاتجار بالبشر حين كان يسيطر على مناطق واسعة من العراق وسوريا، كما نسف 68 مزاراً دينيا للديانة. وما يزال حتى الآن كثير من الأيزيديين يعيشون في مخيمات نزوح منتشرة في مناطق إقليم كردستان.
لكن هذه المأساة لم تمر دون أن ترك بصمتها على العشائر الأيزيدية المختلطة. تأثرت العلاقة بينها بعد اجتياح داعش، بحسب شنكالي الذي قال لـ”ارفع صوتك” إنه “بعد الاجتياح مباشرة أصبحت هناك خشية من التدخل من كلا الطرفين”.
لم يمارس تنظيم داعش السبي بحق الأيزيديين المسلمين، لكنه “قتل عدداً منهم، وهجر الكثير، خصوصاً من كان موظفاً في دوائر الدولة أو ينتمي إلى القوات الأمنية”.
ورغم تلك الأحداث المأساوية، يقول شنكالي، إن العشائر المختلطة “تجتمع مع بعضها، لمعالجة الاحتياجات العشائرية للعوائل بشكل طبيعي لحل خلافات أو جمع مبالغ مالية وغيرها، فالتماسك الاجتماعي ما يزال مستمرا”.
تأثر العلاقة بين العشائر المختلطة بدا “ملحوظاً إلى حد ما بعد اجتياح داعش للمنطقة”، يقول الشيخ داود جندي هو الآخر.
ويوضح: “أصبح لدى الأيزيديين خشية من التدخل في مسائل معينة تتعلق بالمسلمين مع بعضهم”. لكن، لحد الآن ما تزال العشائر المختلطة “تجتمع مع بعض ولحد الآن هناك تماسك فيما بينهم، وهو أمر لن يتخلى عنه أي من الأيزيديين من أتباع الديانتين”.