الخلافات السياسيّة بين حكومة إقليم كوردستان والحكومة المركزيّة تشتد وتنحسر تبعا لمصالح الطرفين وتحالفاتهما لتشكيل الحكومة ما بعد كل أنتخابات برلمانية. وتشتد الخلافات وتظهر للعلن عند شعور الطرف الكوردي بمحاولة حكومة المركز التنصّل من الأتفاقيات المبرمة بينهما والتي غالبا ما تكون سريّة ولا تعرف الجماهير عنها شيئا، خصوصا تلك المتعلّقة بالنفط والغاز والأراضي المتنازع عليها في ظلّ النظام الفدرالي القائم لليوم. وأحيانا تكون ردّات الفعل السياسيّة كبيرة كتلك التي أدّت الى قيام حكومة الأقليم بأستفتاء شعبي من أجل أنفصال الأقليم عن العراق في الخامس والعشرين من أيلول/ سبتمبر سنة 2017 ، تلك التي عارضتها بغداد ولتصدر المحكمة الأتحادية المركزيّة حينها قرارا ببطلان نتائجه أي الأستفتاء، فيما لم تُصدر السلطات في أربيل أي قرار بإلغاء نتائج الأستفتاء بل أكتفت بتجميده، معتبرة إياه وثيقة رسمية يمكنها العودة اليها في أي وقت.
يبدو اليوم وكالعادة أنّ هناك خلافات بين حكومة أربيل وحكومة بغداد حول جملة من الأمور، منها ملفّ المناطق المتنازع عليها وملفّ النفط والغاز وملفّات أخرى غيرها تأتي بعدهما بالأهميّة. وقد ظهرت بوادر هذه الخلافات للسطح من جديد بعد حلّ أزمة تشكيل الحكومة وأنظمام الحزب الديموقراطي الكوردستاني اليها ، من خلال تحذير من السيّد عرفات كرم، مسؤول شؤون العراق في مقر الحزب الديموقراطي الكوردستاني للأطار التنسيقي الشيعي، إذ قال كرم في تغريدة له على تويتر “إذا فشل الإطار في تصفير المشكلات بين بغداد وأربيل، فالكونفدرالية Confederation هي الحل الأنجع لإنهاء معاناة الشعوب العراقية”، فيما دعا رئيس الجمهورية العراقية عبد اللطيف جمال رشيد الى “ضرورة حل الخلافات والقضايا العالقة بين اربيل وبغداد والعمل على تشريع قانون النفط والغاز بشكل يرضي الطرفين”. يبدو من خلال التصريحين أنّ الاطار التنسيقي الشيعي قدّم جملة تنازلات للحزب الديموقراطي الكوردستاني من أجل إنظمامه الى الأطراف التي شكلّت الحكومة العراقيّة بعد إنسداد سياسي على مدار عام كامل، والتي وعلى ما يبدو أيضا أنّ الطرف الشيعي وبعد أن ضمن تشكيل الوزارة عاد ليتنصل من وعوده ما أثار حفيظة الطرف الكوردي.
أنّ إتفاقات أطراف المحاصصة وخلافاتها فيما بينهم لم تكن يوما في صالح الجماهير، والخلاف الحالي وهو ليس الأخير قطعا لا يخرج مطلقا عن تأمين مصالح هذه القوى وأستئثارها بالمال العام. أمّا نكوص طرف عن التفاهمات المبرمة وتهديد طرف آخر بإتخاذ إجراءات مضادّة، فأنها لا تخرج هي الأخرى عن أصول اللعبة التي يلعبانها منذ وصولهما الى السلطة إثر الأحتلال الأمريكي للبلاد ولليوم، فتهديدات الطرفين لبعضهما ليست الّا زوبعة في فنجان خبرها شعبنا بشكل واضح وجلي. لكنّ الذي يهمّنا من تصريحي المسؤولين الكورديين هما، الكونفيدرالية التي يطالب بها الحزب الديموقراطي الكوردستاني على لسان أحد المقربّين جدا من السيد مسعود البارزاني كحلّ لعدم تصفير المشاكل بين المركز والأقليم، وتشريع قانون النفط والغاز الذي يطالب به الرئيس العراقي الجديد.
لنبدأ بتصريح رئيس الجمهوريّة حول تشريع قانون النفط والغاز عن طريق دورهما في رفاهية الشعوب لنتعرّف عن أثر هاتين الثروتين في رفاهية شعبنا، قبل أن يُسّن قانون حولهما والذي سيكون وبلا شك في صالح النهب المنظّم لهذه الثروة لصالح النخب السياسيّة ولا علاقة له (أي القانون) في تغيير الواقع المعاشي لشعبنا الذي يعيش نسبة 22.5 % منه أي ما يعادل ربع سكّانه أي 9 مليون عراقي تحت مستوى خطّ الفقر وفق تصريحات السيّدة ذكرى عبد الرحيم مديرة الرعاية الأجتماعية التابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية في الواحد والثلاثين من شهر آب/ أغسطس العام الجاري، لكنّ الأرقام غير الرسميّة تشير الى نسب أعلى بكثير من الرقم الرسمي للحكومة العراقيّة.
لا ندري إن كان السيّد رئيس الجمهورية يستطيع الربط بين دور واردات النفط وأثره على الإقتصاد وحياة الناس في البلدان الغنيّة به، لكنني هنا أوّد التذكير من أنّ النفط ومعه الغاز لم يكونا سببا في رخاء الشعوب التي تنام على بحيرات منه، عدا بلدان الخليج ذات العلاقات القبليّة والمناطقية و الكثافة السكّانية القليلة والتي تعيش غالبية شعوبها في بحبوحة من العيش مقارنة مع مثيلاتها من البلدان النفطية. فمستوى الفقر في دول مثل فنزويلا وأندونيسيا وإيران والجزائر ونيجيريا وهي من البلدان المصدّرة للنفط لا تختلف كثيرا عن نسبته بالعراق.
ليس من حقّ حكومة تنهب ثروات شعبها كحكومة العراق اليوم أن تسنّ قانونا على درجة عالية من الأهميّة كقانون النفط والغاز، كون سنّ هذا القانون سيكون بلا شك في صالح القوى التي تسنّه وليس في صالح شعبنا مطلقا. فالحكومة المركزيّة كانت تصدّر النفط رسميّا دون أن تضع عدّادات القياس وبما يُعرف بالذرعة، كما كانت الأحزاب والميليشيات الشيعية تسيطر على أرصفة تصدير النفط في الموانيء وتهرّبه بشكل غير شرعي لتجني أرباحا بمليارات الدولارات، ولم تكن سلطات الإقليم بعيدة عن هذا النهج وهي تبيع النفط لتركيا بأسعار بخسة ودون علم الحكومة المركزية وموافقتها، علاوة على تهريب كميّات كبيرة منه الى إيران عبر المنافذ الحدودية في منطقة السليمانية ليأخذ طريقه (أي النفط) الى باكستان وافغانستان والى الخارج عبر الموانيء الإيرانية ! فهل أستفاد شعبنا بعربه وكورده وباقي مكوناته من الريع النفطي للعيش بكرامة طيلة ما يقارب العقدين الماضيين. ولا نظنّ أنّ الوضع اليوم يختلف كثيرا عن سابقه، لذا فأنّ تشريع القانون سيكرّس سرقة ونهب أحزاب المحاصصّة للثروة النفطيّة بشكل “قانوني”.
أمّا حول تحذير السيّد عرفات كرم من لجوء الإقليم الى الكونفدرالية عوضا عن الفدرالية في حالة عدم تصفير المشاكل بين المركز والأقليم من قبل الأطار التنسيقي الشيعي وفق قوله، فإننا هنا لا نود الخوض في معنى المصطلحين وتطبيقاتهما وقوانينهما من مصادر أجنبية، بل نعود الى دراسة للدكتور نوري الطالباني تحت عنوان “حول مفهوم النظام الفدرالي” أعدّها في لندن نهاية عام 1974 بعد عودة الأقتتال بين البعث والحركة الكوردية بزعامة الراحل الملا مصطفى البارزاني، بإعتماد الفدرالية كحلّ للمسألة القومية بالعراق بدلا عن الحكم الذاتي، لأنّ الحكم الذاتي “لا يستجيب لأماني وطموحات شعب كوردستان وأنّ من الضروري الأستعانة بنظام دستوري آخر لا يكون بوسع السلطة في المركز تجريد مضمونه من محتواه بمجرد إصدار تشريع آخر مناقض له، فوجدت ذلك في النظام بمفهومه الواسع” (1)
“وُيشترط لوجود النظام الفدرالي وجود إقليم Territorial محدّد، تعيش عليه جماعات بشرية. ويهدف هذا النظام الى ضمان الحريّة الكافية لهذه الجماعات أو الأقوام التي تعيش ضمن دولة واحدة، مع العمل على تجنّب تفكّك هذه الأخيرة” (2) . نتيجة فشل الحكومات العراقية المختلفة منذ تأسيس الدولة العراقية في حل المشاكل القوميّة بالبلاد ، ومن ضمنها حكومة البعث التي إعترفت لأوّل مرّة في تاريخ العراق السياسي بحكم ذاتي لإقليم كوردستان عدا كركوك (لا زالت لليوم مشكلة بحاجة الى جهود كبيرة وتنازلات من مختلف الاطراف لحلّها) والتي إنتهت بإنهيار التجربة واللجوء الى السلاح، ما كلّف الدولة العراقية والحركة التحرّرية الكوردية الكثير من الخسائر. كان خيار الفدرالية خيارا مقبولا عند مختلف الأطراف بعد إنهيار البعث والتغييرات الكبيرة التي طالت المجتمع والدولة، وكذلك دور القوى الدولية في سعيها لبناء شرق أوسط جديد.
لكنّ الذي نلاحظه من تصريحات بعض القياديين الكورد وكردّ فعل على تصرفات حلفائهم من القيادات الشيعية، هو عدم الإلتزام بالدستور الذي شاركوا سويّة في سنّه وإقراره بخصوص المعنى الحقيقي للفدراليّة، التي تنصّ قانونيّا ودستوريا على إحترام التراب الوطني والعمل على وحدة الأراضي ضمن دولة العراق، وتجنّب تفكيك الدولة وفق مفهوم الدكتور نوري الطالباني للفدراليّة.
“لقد حاول الفقهاء تحديد الأسس القانونية للنظام الفدرالي، وظهرت في هذا السبيل نظريات عديدة يطلق عليها عادة إسم النظريات التقليدية الكلاسيكية. ولكي تحدّد هذه النظريّات مفهوم الدولة الفدرالية وتميّزها عن الدول الأخرى، قسّمت الأنظمة القانونية للدول بوجه عام الى ثلاث أنواع: الدولة الكونفدرالية والدولة الفدرالية والدولة المتحدة، وتتكوّن الدولة الكونفدرالية – حسب هذه النظريات – بموجب معاهدة أو ميثاق يبرم بين دولتين أو أكثر تتنازل كلّ منهما عن بعض أختصاصاتها لصالح هيئة عليا مشتركة”. (3)
كوردستان العراق ليست دولة مستقلة ليتناول السيّد عرفات كرم مسألة الكونفدرالية في تهديده للتحالف الشيعي لتصفير أو أنهاء الخلافات والمشاكل بين الطرفين، وطرحه في أنّ الكونفدرالية هي الحل الأنجع لأنهاء معاناة الشعوب العراقيّة وفق تصريحه، تعني أنّ من حق سكّان سهل نينوى من الكلدوآشوريين والتركمان في مناطقهم وغيرهما من المكوّنات العراقيّة طلب التحالف مع العراق بشكل كونفدرالي!! علما أنّ التحالف الشيعي الموالي لإيران ومن خلال سياساته المعادية لمصالح شعبنا بعربه وكورده وباقي مكوّناته، يحلم في أتحاد كونفدرالي مع إيران، لرهن العراق وشعبه ومنهم الكورد عند دولة ولي الفقيه.
الكونفدراليّة قانونيّا تتكوّن من أتحاد دولتين مستقلّتين أو أكثر وكوردستان العراق وغيرها من الأقاليم التي قد تظهر وفق الدستور العراقي مستقبلا، لا يحقّ لها تبنّي الكونفدرالية في علاقاتها مع بغداد، لكن من حقّها التمتع دستوريا في حقّها بالفدراليّة، وحقّها في الفدراليّة يعني أنّه لا يجوز “لاحدى الدول الأنسحاب من الدولة الفدرالية لتأسيس دولة مستقلة” (4) .
والفدراليّة والتي نراها في العديد من الدول، هي دولة واحدة تتكوّن من كيانين أو أكثر لها نظامها القانوني وغيره من المؤسسات، الا أنها تخضع لدستور فدرالي وهو الفيصل في حلّ مشاكل الطرفين أو الاطراف المتنازعة، كما ولها دستوريّا وقانونيا رئيس دولة واحد وجيش واحد وعلم واحد وعملة واحدة وتمثيل دبلوماسي واحد، وهذا ما لا نراه في العلاقة بين بغداد وأربيل.
إنّ الصراع على الأمتيازات بين الطرفين لا يمنحهما الحق في التلاعب بمصير البلاد، وحكومة الأقليم كما حكومة المركز لم تقدّم شيئا للمواطن الكوردي الفقير الذي يعاني كما العربي والتركماني والأيزيدي والكلدوآشوري من البطالة والفقر والعوز. النخب الحاكمة بالعراق تتحمل المسؤولية التاريخية عن هذا الانحطاط الذي تعيشه بلادنا، وهي غير مؤهلّة أطلاقا لمثل هذه المسؤولية.
1 – حول مفهوم النظام الفدرالي للدكتور نوري الطالباني ص 5 .
2 – نفس المصدر ص 9 .
3 – نفس المصدر ص 11 .
4 – نفس المصدر ص 13 .
الدنمارك
20/11/2022