نجح المجلس الوطني الكوردي، ليس في عقد مؤتمره الرابع، بل في إنقاذ قيادته من الهموم: كيف سيكون حيثياته وما هي النتائج، من سيظل ومن سينضم، من سيطرد أو سيعزل أو سيستقيل، ما هي الاتهامات التي سيتم تناولها، إلى جانب ما كان يجول على صفحات التواصل الاجتماعي حول الإشكاليات التي يمر بها المجلس من التحضير إلى الحضور؛ ومن الطروحات إلى البيان الختامي، كما وتخلصوا من المسؤولية التي وضعوا ذاتهم تحتها، ولم يكونوا على قدرها، والأسباب عدة، معظمها فوق طاقتهم كأشخاص والمجلس عامة، وفوق كل ذلك ظل المستفيدون من أموال السياسة في مراكزهم، وبقي المجلس في غرفة الإنعاش.
وفي المقابل فشلت الإدارة الذاتية، بقيادتها وأسايشها، بتثبيت الديمقراطية، ولوحت مكانها للعامة نوع من النظام الشمولي، بكتمها الصوت الأخر، وزادت من عدم الثقة بها؛ وبقادمها؛ وقادم كوردية المنطقة، وفاقمت من الشكوك حول مدى قدرتها على التنسيق بين البعد القومي والوطني، وهو ما سيؤدي إلى تفاقم التآكل الداخلي، وإطالة صعوبة الحياة في المنطقة، وبالتالي ستستمر الهجرة الكوردية منها لتتحول إلى جغرافية كوردية بلا ديمغرافية.
هذا ما يسرد بشكل يومي في الشارع الكوردي، وكان بالإمكان إدراج معظم هذا النقد في خانة التنوير والتصحيح لا الهدم، لو كان المجلس الوطني والإدارة الذاتية والحزب الحاكم:
1- يملكون القدرة والإمكانيات التي يتم نقدهم على أسسها. أي عمليا يطلب منهم خدمات أوسع من مداركهم؛ وأثقل من قدراتهم؛ وأضخم من إمكانياتهم، وهو غبن بحقهم إلى حد ما.
2- أو لو لم تكن منهجية ولهجة قيادات الأطراف المذكورة ضد معارضيهم، نسخ مشابهة لهذه الانتقادات، الحالة التي تعكس ضحالة قدراتهم، أي أنهم دون مستوى نقل النقد المدمر إلى نقد بناء.
3- كرسوا والمنتقدين نشاطاتهم في توعية المجتمع، لا تعميته، وانتقلوا من محاربة البعض إلى مواجهة الأعداء.
وفيما لو تتبعنا مجريات الأحداث في المنطقة، ودرسناها بدراية، لوجدنا أن عقد المؤتمر أو منعه، كان جزء من مسرحية أعقد مما ظهر، تتجاوز قدرات الأطراف المعنية، ومن السذاجة تناولها ودراستها بشكل منفصل عن المخططات التي ترسمها القوى المحتلة لكوردستان.
فرغم صغر حجم الحدث، كان لا بد منه، أولا، لأنه تتمة لمخطط واسع؛ وهو عرقلة مسيرة الكورد المتصاعد على خلفية قادم مصالح الدول الكبرى، والتي بدأت تضع إستراتيجيات مغايرة لما تم طوال القرن الماضي. ثانيا، منعه، يعني مواجهة القوى المعادية لأمريكا، حتى ولو كان المجلس خارج المعادلة في بعد ما، لكنه استخدم كمؤشر.
ولإدراك خلفيات الحدث، لا بد من دراسة كل الأبعاد:
الخارجية: هناك بوادر طفرة عصرية في نوعية العلاقات السياسية-الاقتصادية، بدأت تفرض ذاتها على الأنظمة والدول، تدفعها بالانتقال من العلاقات الكلاسيكية إلى مصالح تتلاءم واقتصاد طفرات تكنولوجيا العصر، والمطلوب هنا من الحراك الكوردي محاولة إدراكها والعمل على نسقها، وبها قد يتمكن من تحقيق قادم كوردستاني ناجح، دونها ستكون النتائج كما يراها الجميع، مؤتمرات فاشلة وسلطة تخسر الثقة بها، وفراغ مدمر للمنطقة وانتقال كوردستان إلى عهود قادمة.
الداخلية: القضية في ظاهرها تخص قادم الكورد في سوريا، لكنها مقدمة لمستقبل كوردستان، وعليه ستحاول الاستخبارات العامة للدول المحتلة لكوردستان، الاستفادة من ما جرى، فليس عبثا، اجتماعات هاقان فيدان السرية بمخابرات النظام السوري ومعهم خبراء على كل المستويات، وآخرها الذي تم قبل شهرين واستمر لمدة أسبوع، شاركت فيها المخابرات الإيرانية، وبمراقبة المخابرات روسية، وما رافقتها من اللقاءات المتكررة لوزير الداخلية التركي مع قادة المنظمات التكفيرية وفي مقدمتهم هيئة تحرير الشام، وغيرها من الحوارات واللقاءات بين اللجان التركية والإيرانية وأحيانا دول أخرى معنية بالأمر، الخاصة بالقضية الكوردستانية، ومن ثم مسرحية العملية الإرهابية والتي أتهمت بها فتاة صومالية، قادمة من سوريا وبالتحديد المنطقة التي تهيمن عليها القوات التركية وأدواتها، وتم القبض عليها بعد أقل من يوم، علما أنها مسرحية ترقى إلى سوية أعمال داعش والمجموعات التي دربت في ساحات الأمن، فلا يمكن لفتاة بهذه الرهبة والرعب، أن تكون قد وضعت قنبلة ملغومة، تنفجر بعد فترة، وهي تترك المنطقة هادئة الأعصاب. أي ما يمكن قوله، أن الحراك الكوردي والشعب أمام سلسلة فظيعة من العمل المخابراتي على مستوى الدول الإقليمية، وتركيا على أبواب تفعيل الخطة الثالثة بعد فشلها في سابقاتها، وما نوهنا إليه تمهيد لما تنويه، إن لم يكن باجتياح المنطقة فسيكون بتوسيع رقعة القصف العشوائي. وبالتالي فيما إذا لم يكن الحراك الكوردستاني، وضمنه الإدارة الذاتية والمجلس الوطني الكوردي والأطراف الأخرى من الحراك وبينهم الثقافي، على مستوى استيعاب ما يجري، سينجز الأعداء مخططهم بسهولة لم يكن يتوقعونها.
أما الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة: ورغم ما نشر على أن مسؤوليها حصلوا على الرخصة من السيد مظلوم عبدي، لا تتماشى مع عقد المؤتمر، مثلما لا تدعم ديمومة المجلس على ما هي عليه من العلاقات الخارجية، والتي تصب في صالح القوى المعارضة للوجود الأمريكي في المنطقة الكوردية، والعاملة بشكل مستمر على قطع علاقاتها مع قوات قسد، والإدارة الذاتية، الأداة التي تملكها في المنطقة مع مصداقية، أي أن المسؤولين الأمريكيين أمام حراك كوردي متناقض الارتباطات، تستغل من قبل قوى معادية لأمريكا، ومن المنطق العسكري، صعود المجلس الوطني الكوردي تعني صعود الائتلاف ومن ثم زيادة قوة إحدى أدوات الضغط التركي على الوجود الأمريكي، وهو ما يتم تنويه قيادة المجلس من قبل ممثلي أمريكا بشكل مستمر ولكن ربما لا يتم فهمه بالشكل المناسب، وهي قطع العلاقة مع القوى المعادية للوجود الأمريكي، وكما نعلم تركيا وخلفها روسيا وإيران القوى المستفيدة من الخروج الأمريكي، رغم عمق العلاقات الإستراتيجية بين تركيا وأمريكا، لكن هناك حالات تنعدم فيها الإستراتيجية أمام المصالح الأنية، والتي قد تكون مقدمة لإستراتيجية مغايرة قادمة لأمريكا في المنطقة.
رغم كل هذا، المرئي وغير المرئي، لا يزال الحراك الكوردي يعمل ويتعامل بين بعضه، بأدنى مستوياته، في الوقت الذي تتناول فيه الدول المحتلة لكوردستان القضية الكوردستانية بأعلى مستوياتها، لأنها تدرك مدى خطورة تصاعد القوة الكوردية على قادمهم، وأغلبية الحراك لا تزال تعيش الضياع في غياهب التآكل الداخلي، والجاري يكرر مفاهيم علاقات المجتمع في القرية أو المدينة، دون الوطن. تختلف على تكوين المرجعية أو عدمه، على قبول البعض، على التخوين وعدم تقبل منطق المعارضة، على عقد مؤتمر أو عدمه.
لا تستمر أنظمة، طويلا، من دون معارضة، ونهايات جميع السلطات الشمولية كانت كارثية، وتبعاتها السلبية على ذاتهم وعلى شعوبهم استمرت لعقود طويلة، فمنطق الخلافات المستفحلة بين أطراف حراكنا الكوردستاني ينجرف في هذا المجرى، وهي لا تبني الأوطان، مثلما التفرد بالسلطة لا تنجز المشاريع ولا تكون دولة، وغياب أطياف المجتمع الكوردي عن الساحة؛ لا تخلق النجاحات، وإن تم فستكون آنية أي كانت نوعها.
كما وعلى قيادة الحزب الحاكم على الإدارة الذاتية أن تدرك، إنه لا يمكن فرض مشروعها الأممي على المجتمع بالقوة أو بعمليات رفض الأخر المعارض له، والأسباب عدة. لا شك على أنه المشروع الأفضل من كل ما يتم طرحه في سوريا والمنطقة عامة، والغارق ما بين الإسلام التكفيري والبعث العروبي العنصري، لكن لا يمكن إلغاء المشروع القومي الكوردي الوطني، الأنسب لإيديولوجيات القوى الكبرى، لذلك لا بد من فتح مجال لحرية العمل، وهو في بعد ما سيكون سند لمشروعهم فيما إذا ثبت صحته.
الإدارة الذاتية وعلى رأسها الـ ب ي د، لا تدرك مدى خطورة عدم استغلالها لهذه المعادلة، وخلفيات الحدث، ولا تعلم أن تقزيم المجلس الوطني الكوردي، والذي لم يبقى منه إلا الشذرات، بل وكل أطراف الحراك المعارض، أو التي تنتقدها، أضعفتها أمام المعارضة السورية، والأن عليها التعامل معها بديمقراطية لتتمكن ليس فقط في الانفصال عن الائتلاف، بل القيام بتقديم المعارضة السورية للمسائلة حول تهميشهم لأحد أهم أطراف المعارضة طوال السنوات الماضية.
مسؤولي الإدارة الذاتية قبل الجميع معنيون بهذا، وعليها أن تعمل على فتح باب الحوارات، ودراسة ما يطرح في الشارع الكوردي، ومنها خلفيات ما سينتج عن منعهم المجلس الوطني الكوردي من إقامة مؤتمره في قامشلو، ومن ثم التركيز معاً على ما يجري من المخططات في الأقبية الأمنية لمحتلي كوردستان ليس فقط ضد الإدارة الذاتية، بل ضد الكورد عامة.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
19/11/2022م