كان فيلم محاكمة ساكو وفانزيتي قد عُرض لأول مرة في بغداد على قاعة سينما غرناطة, اذا لم تخني الذاكرة, التي غصت بالمشاهدين لأسابيع عديدة. رغم عسس سلطة البعث المتوجسة من كل ما لا يتناسب مع نزعتها القومية, التي يتقاطع سلوكها الفعلي مع ما كانت تشهده بداية سبعينيات القرن الماضي من مظاهر انفراج سياسي.
تعتبر محاكمة النقابييّن الفوضويين* ساكو وفانزيتي واحدة من أكثر المحاكمات الغير عادلة في التاريخ القضائي في الولايات المتحدة.
حيث تم قبل 95 عامًا، في 23 أغسطس 1927
،إعدامهما على كرسي كهربائي.
كتب هيلموت أورتنر كتابًا عن ذلك في عام 2015، نشر فيه آخر رسالة لبارثولوميو فانزيتي إلى نجل رفيقه ساكو دانتي وكانت وثيقة مؤثرة جداً.
وبرغم الاحتجاجات الدولية الكبرى، أُعدم نيكولا ساكو وبارثولوميو فانزيتي بعد محاكمة صورية, على الكرسي الكهربائي, في وقت كفّت فيه العدالة الأمريكية عن إرسال المعارضين السياسيين إلى الكرسي الكهربائي. فقد كان موميا أبو جمال أو ليونارد بلتيير مثالان على كيفية دفن المعارضين السياسيين أحياء في السجون الأمريكية. وكذلك جوليان أسانج الذي حُكم عليه بالسجن لمدة 175 عاماً لفضحه جرائم حرب أمريكية.
في هذا الصدد، يؤكد الكثير من الشهود بأن القتل القضائي لساكو وفانزيتي كان وثيق الصلة بمؤامرة ودور مشبوه لقيادات نقابية من خدمة الرأسماليين, لتلفيق تهمة جنائية ضدهما بسبب نشاطهما النقابي في أوساط العمال.
في 15 أبريل 1920، نصب قطاع طرق كمينًا لعربة نقل الأجور في ولاية ماساتشوستس، أسفر عن مقتل الحراس والفرار بالنهب, سرعان ما تركزت التحقيقات على المهاجريّن الإيطالييّن نيكولا ساكو وبارثولوميو فانزيتي… كان يكفي أن يكونا من المهاجرين وفوضويان ملحدان, ليُدانا, على الرغم من أن الأدلة واهية. فقد اتُهم الاثنان بارتكاب جريمة القتل العمد والسرقة وأدينا في محاكمة مثيرة للجدل في عام 1921. وكانت قد رُفضت عدة طلبات استئناف رفعتها هيئة الدفاع المتكونة من عدد من المحامين للمحكمة المختصة.
نُفذ حكم الإعدام بعد سبع سنوات من السجن, في ليلة 22/23 أغسطس / آب 1927… أُعدما ساكو وفانزيتي على الكرسي الكهربائي في سجن ولاية تشارلز تاون.
أدى كل من حكم الإدانة والحكم النهائي الصادر في 9 أبريل 1927 إلى اندلاع مظاهرات حاشدة في جميع أنحاء العالم.
واتهم منتقدو القضاء الأمريكي, أنه تعامل بناءً على أدلة مشكوك فيها مع جريمة قتل قضائية بدوافع سياسية… ولم يتم الأخذ بالمعلومات والأدلة النافية بل تم إلغاؤها.
وقد شارك مئات الآلاف من الأشخاص في التماسات لمحاولة تأجيل تنفيذ العقوبة أو وقفها, ولكن ذهبت كل تلك الجهود عبثًا : الاحتجاجات، والاعتراضات، والدعوات إلى الرأفة.
في الساعة 11:03 مساءً يوم 22 آب 1927، قرر حاكم ولاية ماساتشوستس الأمريكية ألفان ت. فولر : ” أن إعدام نيكولا ساكو وبارثولوميو فانزيتي لن يتوقف “. حيث تقرر تنفيذ الإعدام في منتصف الليل, عندما تبدأ وردية عمل الجلادين المسائية في سجن تشارلز تاون.
واحدًا تلو الآخر، يُقاد ساكو وفانزيتي إلى غرفة الإعدام… يهتف ساكو البالغ من العمر 36 عامًا من الكرسي الكهربائي : ” تحيا الفوضوية !”. ” وداعا زوجتي وطفلي وجميع أصدقائي !”.
ثم يقول لشهود الإعدام مودعاً : ” عمتم مساءً أيها السادة “, بعدها يشغل حراس السجن المفتاح فتسري الكهرباء عبر جسد نيكولا ساكو. عند الساعة 0.19 تُعلن وفاته.
بعد بضع دقائق، تبعه رفيقه بارثولوميو فانزيتي إلى غرفة الموت.
قال الشاب البالغ من العمر 39 عامًا للمشرف على الاعدام : ” أريد أن أخبرك أنني بريء, لم أرتكب جريمة مطلقًا، ربما لدي بعض الذنوب، لكنني لم أرتكب جريمة. أنا رجل بريء “… ثم يصافح المشرف واثنين من الحراس, ويجلس على الكرسي الكهربائي. ” الآن أريد أن أسامح بعض الناس على ما يفعلونه بي”!
كانت هذه كلمات فانزيتي الأخيرة. يتدفق التيار عبر جسد الإنسان مرة أخرى في تلك الليلة.
الساعة 12:27 صباحًا في 23 أغسطس 1927، مات فانزيتي.
هل كانا مذنبين أم لا؟ حتى الآن، لم تتم الإجابة على هذا السؤال بشكل نهائي، لكن الشكوك والمحاكمة غير العادلة وحدها كافية لجعل القضية أسطورية.
في المساء الذي يسبق الإعدام، كتب بارثولوميو فانزيتي خطابًا أخيرًا إلى نجل ساكو, دانتي, أصبح بمثابة وثيقة مؤثرة :
عزيزي دانتي،
ما زلت آمل, وسنقاتل حتى اللحظة الأخيرة لاستعادة حقنا في الحياة والحرية، لكن كل من له قوة ومال، يقف ضدنا ويطلب لنا الموت لأننا فوضويان. أكتب باختصار لأنك أصغر من أن تفهم هذه الأمور وغيرها من الأشياء التي أود مناقشتها معك.
لكنك ستكبر وأتمنى أن تفهم كيف كان موقف اباك وموقفي, وما هي المبادئ التي كان والدك وأنا نتبعها، وهي المبادئ التي من أجلها سنقتل قريبًا.
أخبرك الآن أنه من خلال ما أعرفه عن والدك، فهو لم يكن مجرمًا بل كان أحد أشجع الرجال الذين عرفتهم على الإطلاق. ذات يوم ستفهم ما أقوله لك هنا, أن أبوك ضحى بكل شيء عزيز على قلب الإنسان لإيمانه بالحرية والعدالة للجميع.
في ذلك اليوم ستفتخر بوالدك، وإذا كنت شجاعًا بما فيه الكفاية، فستأخذ مكانه في الصراع بين الاستبداد والحرية، وستنتقم بإسمه لدمنا.
إذا كان علينا أن نموت الآن، فبمجرد أن تفهم هذه المأساة بالكامل، ستعرف كم كان والدك شجاعًا ووفياً لك ولوالدتك ولي خلال هذه السنوات الثماني, سنوات الاعتقال المفعمة بالكفاح والمعاناة والعاطفة والعذاب والكرب.
يجب أن تكون شجاعًا، كن عوناً لوالدتك !
أود أيضًا أن أطلب منك أن تتذكرني كرفيق وصديق لوالدك وأمك، ولسوزي ولك… وأؤكد لك أنني لست مجرمًا ولم أرتكب أي سرقة أو قتل، فقط كنت انساناً سوياً…
قاتلنا ضد الجرائم التي يرتكبها الناس تجاه بعضهم البعض ومن أجل حرية الجميع.
تذكر دانتي، أي شخص يقول غير ذلك عن والدك وعني هو كاذب يهين الموتى الأبرياء الذيّن كانا شجعانًا في حياتهما… تذكر، واعلم أيضًا يا دانتي، أنه إذا ما كنا أنا ووالدك جبناءً ومنافقيّن وتراجعنا عن معتقداتنا، لما تم إعدامنا.
وبناءً على الأدلة التي قاموا بتلفيقها ضدنا، لم يكونوا بامكانهم حتى ادانة كلب أبرص، وما كانوا ليقتلوا عقربًا سامًا مميتًا, مقابل الأدلة التي قدمناها لبراءتنا.
تذكر دانتي ! تذكر دائمًا : لسنا مجرمين ؛ أدانونا بناء على أدلة كاذبة. ورفضوا اسئنافاً للمحاكمة.
عندما سيتم إعدامنا بعد سبع سنوات وأربعة أشهر وسبعة عشر يومًا من العذاب والظلم اللذين لا يوصفان، فذلك بسبب ما كتبته إليكم بالفعل؛ لأننا كنا فقراء وضد استغلال الإنسان واضطهاده.
ستثبت لك الوثائق المتعلقة بقضيتنا والتي ستجمعها أنت والآخرون وتحافظ عليها أن والدك وأمك وعائلتي قد ضحوا من أجل موقف شجاع ضد عُسف رأسمالي أمريكي مستغل.
سيأتي اليوم الذي ستفهم فيه تمامًا السبب الرهيب لما ورد أعلاه. ثم ستمجدنا !
الآن، دانتي، كن دائمًا شجاعًا !
وداعا دانتي
بارثولوميو
- الفوضوية : (الأناركية) أو اللا سلطوية, تعرّف عمومًا بأنها الفلسفة السياسية التي تجعل الدولة غير مرغوبة وغير ضرورية وضارة.