كل سلطة سياسيّة تقع على عاتقها تحقيق جملة من المسائل التي تنظّم الحياة السياسيّة والإقتصادية والأجتماعية في المجتمع، ويبقى توفير الأمن هو العامل المهم الذي على السلطة العمل على أرساءه. فغياب الأمن لأيّ سبب كان يعني نسف كل ما تستطيع السلطة توفيره أو تكون قد وفّرته بالفعل، وعدم قيام السلطة بواجباتها الأساسيّة في تنظيم الحياة السياسية والإقتصادية والأجتماعية بما يوفر حياة مقبولة لشعبها وفق إمكانياتها الإقتصادية والمعايير الدولية يعني فشل الدولة التي هي على رأسها. والسؤال الذي علينا طرحه في حالة العراق هو: هل العراق دولة ضعيفة لا تمتلك مصادر لتوفير خدمات لشعبها، أم دولة منهارة نتيجة أنهيار مؤسساتها القائمة، أم دولة هشّة فشلت فيها السلطة بتوفير الأمن ومكافحة الفقر والبطالة، أم دولة فاشلة جمعت الكثير من المفاهيم والصفات التي ذكرناها لتتربّع عليها؟
لا يوجد تعريف دقيق لمصطلح الدولة الفاشلة، فروبن دروف Robbin Droff عرّف الدولة الفاشلة “بأنّها الدولة التي تفقد الحكومة بها إمكانيات القيام بوظائفها الأساسيّة، وهي حكومة فاقدة للشرعيّة وتعاني من أنهيار أقتصادها” (1). فيما عرّف روبرت روتبيرج Robert Rotberg الدولة الفاشلة في مقال له تحت عنوان (الدولة الفاشلة في عالم الأرهاب) نُشر عام 2002 “بأنّها دولة فاقدة للشرعيّة، وتعاني من أنهيار الأقتصاد في مواجهة الأرهاب بالأضافة لأنهيار النظم القانونية المحليّة لمواجهة الجريمة والأجرام الذي تمارسه قوات الأمن التابعة للدولة” (2). أمّا مركز أبحاث الأزمات في كلية لندن للدراسات الأقتصادية فقد عرّف الدولة الفاشلة بأنّها “حالة أنهيار الدولة، أو الدولة العاجزة عن أداء وطائف التنمية وحماية أمنها وفرض سيطرتها على أراضيها وحدودها”(3). وهناك دراستان أحداهما لكل من جيرالد هيرمان Gerald B. Herman و ستيفين راتنر Steven Ratner أشارا فيها الى أنّ الدولة الفاشلة هي التي “لا تستطيع أن تلعب دورا ككيان مستقل”، وأخرى لوليام زارتمان William I. Zartman يقول فيها أنّ الدول المنهارة هي “تلك الدول التي لم تعد قادرة على القيام بوظائفها الأساسية”. وهناك آراء آخرى لباحثين تقول أنّ الدولة الفاشلة، هي التي تحكمها الميليشيات، أو تلك التي تكون عاجزة عن تحقيق الأستقرار والسلم لشعوبها نتيجة عجزها أمام قوى العنف الموازية لعنف الدولة، أو تلك التي تفقد السيطرة على أراضيها أو جزء منها ما يعني عدم الإيفاء بألتزاماتها تجاه شعوبها وتوزيعها العادل للثروة، أو تلك التي فيها نازحين نتيجة صراعات طائفية أو عرقية أو دينية. ومثلما للزلازل مقياس (ريختر) لقياس شدّتها و(واط) لقياس القدرة الكهربائية، فهناك مقياس لقياس فشل الدول وهو مقياس الدول الفاشلة (Fragile States Index) الذي يصنّف فشل الدول إستنادا لأوضاعها السياسية والأقتصادية والأجتماعية والأمنية.
ومن المؤسسات التي أهتمت بتعريفات علمية للدول الفاشلة، صندوق السلام (Fund For Pease) وهو مؤسسة أمريكية غير ربحية تأسست في واشنطن سنة 1957 ، وقد حدّد الصندوق أربع خصائص في تعريفه للدولة الفاشلة تمثّلت بـ :
١- فقدان سيطرة الدولة على أراضيها أو جزء منها، أو فقدان إحتكار الإستخدام المشروع للقوة والسلطة داخل أراضيها.
٢- تآكل السلطة الشرعية، لدرجة العجز عن إتخاذ قرارات موحدة.
٣- عدم القدرة على توفير الخدمات العامة.
٤- عدم القدرة على التفاعل مع الدول الأخرى كعضو كامل العضوية في المجتمع الدولي.
ولم يكتفي الصندوق في تعريفه للدول الفاشلة بالخصائص الأربع أعلاه، بل وضع مجموعة معايير وفق آليات علمية ومسح لعشرات الآلاف من المصادر الأخبارية وجمعها وتحليلها وتأطيرها بالنهاية في 12 مؤشر فرعي هي “الضغط الديموغرافي، اللاجئين والنازحين، انتشار الظلم، حق السفر والتنقل، الناتج الإقتصادي المتفاوت، الإنحدار الإقتصادي، شرعية الحكم، الخدمات العامة، جهاز الأمن، الفصائل والطوائف المختلفة، التدخل الخارجي” وخصّصت قيمة من (صفر – 10) لكل مؤشر، وكلّما حازت الدولة على أعلى الدرجات كمعدل لقيم المؤشرات، كلما كانت تحتل مركزا أعلى في جدول الدول الفاشلة.
لو تركنا الإشكاليّة السياسيّة بين المركز والإقليم ودور الجيش العراقي وعدم تواجده على الحدود الدوليّة بين العراق من جهة كوردستان ودولتي إيران وتركيا، بإعتبار قوّات البشمركة جزء من الجيش العراقي. فأنّ وجود
قواعد عسكريّة تركية على التراب الوطني العراقي دون أتّفاقيات مبرمة بين الدولتين كالتي تنظّم العلاقة بين امريكا والعراق، وفقدان الدولة والسلطة إحتكارها للقوّة نتيجة وجود قوّات مسلّحة رديفة لها بل ومهددّة لها في أحيان كثيرة كالميليشيات المتعددة، بل وحتى تهديدات قوّات البشمركة بمواجهتها في مناطق معيّنة إثر أزمات سياسيّة كالتي حدثت أثناء الإستفتاء على الإنفصال، نرى أنّ العراق قد حقّق النقطة الأولى من خصائص الصندوق بدرجة قريبة من العشرة، علما أنّ النظام البعثي بعد العام 1991 يشترك مع سلطة اليوم في هذه الخصوصيّة.
لو فرضنا أنّ السلطة شرعية كونها تأتي عبر صناديق الإقتراع، فأنّ السلطة الحاليّة ليست بسلطة شرعيّة كونها لم تحصل على أصوات الناخبين. وسواء كانت السلطة شرعية أم لا، فأنّها عاجزة عن أتّخاذ قرارات موحدّة نتيجة فساد النخب السياسية وولاءاتها لجهات إقليمية ودولية. لذا نرى أنّ صراعاتها فيما بينها وهي في حالة تناسل مستمر لا تخرج عن دائرة مصالحها الحزبية والفئوية ومصالح تلك الجهات. فالسلطة على سبيل المثال عاجزة عن إتّخاذ قرار إنشاء جيش وطني موحّد، لأنّ هذا الجيش سيهدّد حياة الميليشيات المسلّحة وبالتالي يهدد مصالح القوى التي تمتلك هذه الميليشيات للإستفادة منها في مواجهة الدولة.
الفساد في العراق اليوم أمسى ثقافة حتى بين طبقات الشعب المختلفة، والسلطة التي هي أعلى هرم في الفساد وهي تبيع المناصب الأدارية والوزارات لمن يدفع أكثر كرّست الفساد في جميع مفاصل الدولة نتيجة هذه الثقافة البائسة، وعليه فأنّها غير قادرة على تقديم خدماتها لـ “شعبها”. فالرشوة والأتاوات والتهديد والأبتزاز وعدم تطبيق القانون، ساهمت وتساهم في منع الأستثمارات الأجنبية عدا تلك المرتبطة ببعض دول الجوار التي تمتلك أذرع مسلّحة بمعرفة الدولة نفسها.
هل العراق يعمل مع محيطه الإقليمي كعضو كامل العضوية في المجتمع الدولي؟ هل الدولة العراقية قادرة على بناء سياسات متوازنة وطبقا لمصالح شعبنا ووطننا مع إيران وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية مثلا؟ هل للعراق دور في محيطه العربي والخليجي والسلطة تبني علاقاتها وفق مفاهيم طائفية؟ هذه الأسئلة بحاجة الى إجابات لنحدد قيمة (صفر – 10) للدولة وهي تبني علاقاتها مع محيطها وفق مفهوم طائفي متسلّحة بميليشيات تملي على السلطة بقوّة سلاحها شكل هذه العلاقات وعمقها.
العراق اليوم لا يمتلك نظام أقتصادي مؤسساتي ، ولا يمتلك نظام مصرفي حقيقي، ولا يمتلك بنى تحتية ذات كفاءة عالية، ولا يمتلك مؤسسات صحيّة لخدمة مواطنيه، ولا يمتلك نظام تعليمي متقدم، ولا يمتلك طاقة كهربائية كافية لتشغيل ورش أصحاب الحرف ولا نقول المصانع التي تهملها الدولة أو تلك التي باعتها بعد أن أصبحت خردة لدول الجوار، ونسب الفقر والبطالة والاميّة والجهل والجريمة فيه مرتفعة، ولا يمتلك زراعة وثروة حيوانية كافية وعليه فليس عنده أكتفاء غذائي، ويقتل ويقمع ويلاحق من يتظاهر ضد سلطة الفساد والمحاصصّة، وفيه مخيّمات لنازحين من طائفة معيّنة نتيجة حرب طائفية، السلطة بالعراق غيّرت الطبيعة الديموغرافية لبعض المناطق وفق مفهوم طائفي كما مناطق حزام بغداد. في العراق هناك ميليشيات مسلّحة بعلم الدولة، بل أصبحت هي الدولة بعد أن أخترقت المؤسسة السياسية لتتمثل في البرلمان والحكومة والجيش والأمن الداخلي. العراق اليوم نتيجة ضعف الحكومة وصراع الطوائف والقوميات فيما بينها حول النهب المنظّم للثروات، أصبح ونتيجة ولاءات هذه الطوائف والقوميات ساحة للتدخلات الإقليمية والدولية وفاقدا لسيادته.
لو عدنا الى صندوق السلام وتقييم (صفر – 10)، فأنّ العراق اليوم وفي ظل سلطة الفساد والمحاصصة، دولة فاشلة بنسبة عالية. ولتستعيد الدولة عافيتها فإننا بحاجة الى دولة تستعمل عنفها في مواجهة الميليشيات المسلّحة، دولة متحررّة من البعدين الطائفي والقومي، دولة قانون ومؤسسات حقيقية، وهذه الدولة هي الدولة العلمانية الديموقراطية.
(1) عبد السلام البغدادي- مجلة دراسات شرق أوسطية – العدد 65 – ص 35
(2) المصدر أعلاه
(3) المصدر أعلاه
زكي رضا
الدنمارك
1/12/2022