حضارات دمرت، وأخرى أزيلت، وجيوش همجية سادت، وشعوب عانت الويلات على خلفية، جدلية القوة والضعف، والتي هي من إحدى أبشع القوانين التي فرضتها الطبيعة الإنسانية، رغم خطأها ونتائجها الكارثية على البشرية، والأمثلة لا حصر لها على مر التاريخ. وكوردستان بحضاراتها وشعوبها من بين أكثر الجغرافيات التي عانت منها وذاقت مراراتها.
تركيا وإيران والقوى المتربصة بكوردستان، مخلفات الإمبراطوريات الفاسدة، من الأنظمة الأكثر تطبيقا للمعادلة المرعبة، فهم وعلى مدى عقود طويلة، يستخدمون أبشع الأساليب للسيادة قبل أن يقدموا شيئا للحضارة، يخلقون قوى فرعية مآلها التدمير والقتل والعبث بالمنطقة، يصرفون المليارات على الإرهاب، مقابل الشح لأجل تطوير ثقافات الشعوب والبناء الحضاري، وجل الغاية هي ديمومة السيادة العسكرية المتعارضة مع الأسس الحضارية، والديمقراطية.
أنظمة لا تتوانى من استخدام: القوة العسكرية للسيطرة وتعويم الخباثة السياسية، والقوة الاقتصادية الهائلة لإقناع القوى الكبرى بمنهجيتهم وإسناد سيادتهم، وقوة المال السائل على الدبلوماسية، فيتم سلب إرادة الشعوب، وتغييب قضاياهم، وفي مقدمتهم قضية الشعب الكوردي.
وللأسف كلا القوتين، العسكرية والاقتصادية، شبه معدومتين لدى الحراك الكوردي، العسكرية تطعن قبل أن تتماسك، والثانية تنهب على مرأى من الكوردي الضعيف والعالم المستفيد.
والغريب إن ثقافة الشعب الكوردي رغم ركائزها التاريخية العريقة نادرا ما وقفت على هذين البعدين لبناء المستقبل الأفضل، إلى درجة كثيرا ما تصرف كجهالة في معرفة شروط الحياة والعيش، والأغرب أن بعض الأمثال الشعبية الدارجة حولها، رغم منهجيتها الخاطئة، لا تزال تنتشر بين الشعب؛ وتقال كحكم.
القوة لها لغة مختلفة صادمة صارمة، وشروط القوي عند الصراع والحوارات لها رنتها، تتجاوز حدود المنطق، وهي تنقل الحق من جهة إلى أخرى بدون عوائق، تبدل من أماكن الظالم والمظلوم، وتجعل من اعتداء المعتدي رحمة، ومن صرخات المعتدى عليه إزعاجا، ومن الحروب والتدمير حالات لا بد منها.
للقوي حجج وأسباب متعددة عند الاعتداء على الضعيف تقبل من القوى الكبرى مهما كانت ضحلة، أم حجج الضعيف وصرخاته لا تقرأ ولا ترى ولا تسمع، وإن ظهرت فتدرج كطلبات مخالفة للقوانين الدولية.
وللأسف، ومن المؤلم، أن لغة وشروط القوى الكوردية المشتتة، والتي تسمى جدلا بالقوى، دون أن تملك شروطها وسماتها، رغم أنها قضت تحت المسمى ذاته على الإرهاب بسند من القوى الحقيقية، لكنها ولعدميتها، على الأقل مقارنة بقوى المحتلين، بالكاد تفهم، خامدة، ومتطلباتها تغرف من المظلومية، مقابل نبرات الأنظمة التركية والإيرانية الصارخة، وطلباتهما الوقحة، من أمريكا وروسيا ودول التحالف، والتي تتجاوز المنطق، رغم اعتداءاتهما وجرائمهما بحق الشعب الكوردي. تتعالى لغتهما يوما بعد آخر على خلفية، التشتت الكوردي، ومن ثم تذبذب مواقف القوى المذكورة، والضامنة لحماية المنطقة، والمتقاطعة مصالحهم مع المحتلين الأقوياء، وعلى رأسهم أمريكا، وروسيا.
فلولا الجدلية المذكورة، وعلى خلفية ما قدمته القوى الكوردية، رغم ضعفها، من التضحيات والخدمات للعالم ولشعوب الدول الكبرى، لما رضخت أمريكا والناتو للمطالب التركية، وروسيا، وعلى مسافة ما أمريكا وأوروبا أيضا لإيران، وبالعكس لساندوا الشعب الكوردي، وبسوية مماثلة تقريبا لما يبدوه مع أوكرانيا، من عدم الحوار مع تركيا مثلما يفعلونها مع روسيا إلا بعد الانسحاب التام من أراضيها، إلى التعويض عن الدمار الذي أحدثته تركيا وإيران بجنوب وغربي كوردستان، والإقدام على إجراءات مشابه لما أقدمت عليه الإتحاد الأوروبي بتجميد الودائع الروسية لصرفها على إعادة بناء المدمر من البنية التحتية لأوكرانيا.
إسرائيل على سبيل المثال، رغم حقها التاريخي في ملكية أرضها والمعترفة بها نصوص الأديان السماوية الثلاث، كحق الكورد بوطنهم، لولا قوتها في عدة مجالات، لما تمكنت الصمود أمام ضراوة الهجوم والإعلام المكثف ضدها، وتعاضد عدة قوى في محاربتها، ولما تمكنت من مواجهة القوى العربية والإسلامية طوال سبعين سنة الماضية.
إسرائيل قوية بلغة السلاح والمال، رافقتها القوة الدبلوماسية؛ ودعمتها التطور في العلوم، وثبتتها تفضيل مصلحة الشعب على الإدارة، والديمقراطية على التفرد المطلق في الحكم، هذه القوى جذبت الدول الكبرى لإسنادها، ودعمها، أي أنها ملكت المعادلة ببعديها، القوة في يد وحق الضعيف في اليد الأخرى، لولا الأولى لما رأت الأعين ما يوجد في الطرف الأخر، ودونها لما كانت اليوم إسرائيل الحالية والتي تكاد أن تنافس الدول الأوروبية بتطورها وتقدمها وتكنولوجياتها، واختراعاتها، ودخولها الحضارة من أوسع أبوابها، ولما رضخ لهم أردوغان، رغم كل تبجحه بإسلامه، ومساندته الحق الفلسطيني، ودعمه لحماس.
نتحدث عن مثال واضح بغض النظر عن الخلافات العرقية والإشكاليات المرافقة لها، ولهذه مخرجاتها، وهي رغم كل تبجحها مع القضية الفلسطينية، لا تنسى ديمقراطيتها في الداخل الإسرائيلي، بعكس الأنظمة الدكتاتورية المحتلة لكوردستان.
ليتمكن الشعب الكوردي من إقناع العالم بعدالة قضيته، لا بد من تجميع إمكانياته ليملك القوة اللازمة، ولن يحدث هذا والكورد على خلاف، واستمرارية النضال على نفس المنهجية، ودون تنقية ثقافة المجتمع التي لوثتها الأنظمة المحتلة وعلى مدى قرون طويلة، وتصحيح التاريخ المحرف، وتصليح أو ربما إعادة تركيبة البنية التي تأسست عليها الحراك الكوردستاني والمنهجية التي يستمر عليها، وتشذيب ما رسخ في ذهنية المجتمع، فعلى سبيل المثال منطق المعارضة، والنقد يجب أن تزيد الأمة الكوردستانية قوة وتماسكا، لا أن ترسخ جدلية القوي والضعيف بينهم، ويستمر العداء المطلق، وإلغاء الآخر، والتآكل الداخل.
وفي الساحات الخارجية، يجب تعلم أساليب العلاقات، والدبلوماسية، ولبلوغها، يتطلب من الإدارتين الكورديتين صرف جزء من الدخل الوطني على ممثلي الوطن والشعب في الخارج، وليس على شخصيات حزبية أنهكها الصراع الداخلي، لا بد أن يكون المعنيين على مستوى المسؤولية، ثقافة ومداركا، وحنكة دبلوماسية، ومؤمنين بالقضية، يملكون قدرة الاختلاط وإقناع الذين لهم قدرة التغيير في السياسة الخارجية لدولهم، وبالإعلاميين الذين تصل أصواتهم إلى الجهات المعنية.
يجب إقناع الدول الكبرى أن الأمة الكوردية تملك كل أمكانيات تكوين دولتها، وإدارتها، ومن إيقاف الاعتداءات البربرية على الشعب الكوردي كالجارية الأن على شرق وجنوب وغرب كوردستان.
لربما، حينها، سيسود السلام في المنطقة، ولن يحتاج الكورد إلى الثورات في الجبال، ولا التضحيات الجسام والدخول في حروب دموية مستمرة مع الأنظمة العنصرية.
لامتلاك القوة، يجب التفاهم على نقاط التقاطع، وعدم نقل النقد إلى خانة الكراهية، فالعدو ليس الكوردي المخالف، بل الأنظمة المحتلة لكوردستان، وهي التي تكرس جهودها لإبقاء الكورد بحراكه في الجهة المنسية من الجدلية المذكورة، حيث الضعف والصوت الخافت الذي ليس له صدى في الداخل والخارج.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
1/12/2022م