تُعد الزرادشتية أحد الأديان القديمة التي انتشرت في بلاد فارس والعراق في العصور الغابرة. توارى أصحاب هذا الدين عقب نجاح الحملات العسكرية العربية في القرن السابع الميلادي. أقبل الفرس والعراقيون على اعتناق الدين الإسلامي وانزوت الزرادشتية إلى الجيوب والمعاقل النائية. في الفترة الأخيرة، لعبت الأحداث السياسية المتسارعة دوراً مهماً في إحياء الديانة الزرادشتية مرة أخرى، في إقليم كردستان العراق على وجه الخصوص.
نتناول في هذا المقال أصل الديانة الزرادشتية، وأهم الطقوس المرتبطة بها، كما نلقي الضوء على أهم سمات الحضور الزرادشتي المعاصر في كردستان العراقية.
الطقوس الزرادشتية
تتمتع الديانة الزرادشتية بشهرة تاريخية كبيرة. رغم ذلك، فإن أكثر ما نعرفه عن مؤسسها زرادشت، يبقى قليلاً، وغير موثق. توجد الكثير من الآراء المتضاربة التي تحيط بالفترة التاريخية التي عاش فيها زرادشت، منها أنه عاش في بداية الألف الأول قبل الميلاد، ومنها أنه عاش في القرن السابع قبل الميلاد. بحسب المعلومات المتوافرة، عاش زرادشت في شمال شرق إيران، ولا نعرف الكثير عن حياته. تذكر سيرته أنه عمل على نشر الزرادشتية في وطنه، ولمّا قوبل بالرفض من أهله، هرب إلى مكان جديد، وتمتع بحماية أحد الملوك، ولم يلبث أن دخل الناس في دينه بعدها بشكل كثيف.
وصلتنا أهم التعاليم الزرادشتية من خلال سبعة عشر نشيداً، تُعرف باسم “الغاثا”. أما الكتاب المقدس عند الزرادشتيين فيسمى بـ”الأفيستا”. دُون هذا الكتاب المقدس في القرن الخامس الميلادي وحفظ لنا الكثير من معتقدات الزرادشتيين القدماء.
يذكر الباحث السوري فراس السواح، في “موسوعة تاريخ الأديان”، أن الزرادشتيين يتميزون ببعض السمات الظاهرية في الملابس والأزياء. على سبيل المثال، يرتدون الحزام المقدس المعروف باسم “كوستي”، والذي يتكون من 72 خيطاً مصنوعا من صوف الخروف الأبيض، وتشير عدد خيوطه إلى فصول “الياسنا”، وهي أهم أجزاء الأفيستا. يرتدي الزرادشتيون أيضاً القميص الأبيض الذي يُعرف باسم “السادري”، والذي يرمز للدين الزرادشتي.
يؤدي الزرادشتيون الصلاة في خمس أوقات يومية، ويمارسون احتفالات خاصة في الأحداث المهمة في الحياة، ومنها الولادة وسن البلوغ والزواج والحمل والموت. أما بخصوص طقوس الدفن والجنائز، فالزرادشتيون تاريخيا لا يدفنون موتاهم في الأرض أو يحرقون جثامينهم كحال أغلب الديانات المعروفة. يقومون بنقل جثامين الموتى إلى أبراج دائرية مقامة في الهضاب في الصحراء، وهي التي تُعرف باسم أبراج الصمت أو “الداخما”. يتم غسل جثمان الميت ثم يوضع على ثياب بيضاء ناصعة ليلقي عليه أهله النظرة الأخيرة. يُنقل الجثمان بعدها للداخما، ويُقرأ عليه مجموعة من الصلوات المخصوصة، ثم تُنزع عنه الأثواب، ويُترك للنسور والطيور الجارحة التي تلتهم الجثة. يتم جمع العظام الباقية وتُلقى في حفرة واسعة موجودة في وسط الداخما. لكن هذه الطقوس بالكاد موجودة اليوم، وباتت تمارس على نطاق ضيق في الهند تحديدا.
أهم أفكار الزرادشتية
عبر زرادشت عن معتقده في مجموعة نقاط رئيسة، منها أنه تلقى هذا المعتقد رأساً من الإله أهورامزدا، وأن هذا الدين “هو الدين الأخير ودين الحق”، وثانيها هي الاعتراف بإله واحد لا شريك له. آمن زرادشت “أنه بإرادة الرب العلي أهورامزدا قد ظهر كل شيء إلى الوجود”، وثالثها أن أهورامزدا قد خلق العالم والموجودات عبر وسائط متنوعة للفعل الإلهي، ومنها على سبيل المثال كل من الروح القدس المسمى “سبينتاماينو”، والكائنات الخالدة القدسية، “الأميشاسبينتا”، والتي تعبر عن الأفعال الأخلاقية، وغيرها من الوسائط التي كانت تميل إلى أن تكون مفاهيم وأفكار وروحانيات أكثر من أن تكون كائنات مادية حقيقية.
النقطة الرابعة تتمثل في الاعتقاد بوجود الشر، وأنه يعارض الخير. فإذا كان أهورامزدا هو إله الخير والحق، فإن هناك أيضاً الروح الخبيثة المسماة بـ”أنغرا ماينو”. وإذا كان زرادشت قد أكد في النقطة الخامسة أن روح كل إنسان هي مركز الجهاد بين الخير والشر، وأن أهورامزدا قد منح الإنسان الحرية الكافية ليقرر أفعاله، وليختار بين الحق والباطل، فإنه قد أقر في النقطة السادسة بأن الخير والشر غير محددين بوضوح، “فالناس الأخيار بالنسبة لزرادشت هم أولئك الذين قبلوا الدين الحق، والناس الأشرار هم الذين رفضوا هذا الدين، ولا سيما أولئك الذين استمروا في ممارسة طقوس الديانة الشعبية بالإضافة لعبادتهم للآلهة القديمة”.
يؤكد الباحثون أن هناك الكثير من التطورات التي لحقت بالديانة الزرادشتية. على سبيل المثال تطور أنغرا ماينو إلى أهريمان، وصار هذا الأخير هو الشيطان الأكبر المناظر لأهورامزدا نفسه، واعتبرت الأدبيات الزرادشتية المتأخرة أن خلق العالم كان فعلاً مشتركاً فيما بينهما، وأن أهورامزدا هو خالق الحق والجمال والخير، وأن أهريمان هو خالق الشر والظلام والباطل.
هذا التطور نتج عنه ظهور ما يُعرف باسم “الزروانية”، وهو المعتقد الذي ادعى أصحابه أن زروان هو الأب الذي أنجب كل من أهورامزدا وأهريمان، وأن الأخوين وإن كانا متساويين في القوة والمكانة، فإنهما كانا مختلفين في الموقف من الحق والباطل.
أيضاً، وقع تغيير فيما يخص صورة الحياة الأخروية وتفاصيل ما سيحدث بعد الموت. حظيت مسألة حساب الفرد بالمزيد من الاهتمام، وصار من المعتقد أن روح الميت تمكث عند رأسه وتتأمل لمدة ثلاثة أيام في ماضيها، ويتم مواساتها أثناء ذلك، فإذا ما كانت روحاً صالحة، فإن الملائكة تحمل لها البشرى، وإذا ما كانت روحاً خبيثة، فإن الشياطين تنذرها بالعقاب الأليم. وفي شتى الأحوال، تؤخذ الروح في اليوم الرابع بعد وفاتها لتمر فوق الجسر الفاصل، وليقيس الآلهة أعمال المتوفى بالميزان، لينظر في حسناته وسيئاته، وبعدها يتم اتخاذ القرار ويُصدر الحكم. وهي الصورة التي تتشابه كثيراً مع تفاصيل يوم القيامة سواء في كل من الديانات المصرية القديمة أو الدين الإسلامي.
تغيرت أيضاً نظرة الزرادشتيين إلى الزمن. تم الترويج للفكرة التي تقول بأن العالم يدور في دورات، وأن كل دورة تأخذ ثلاثة آلاف عام، وأن زرادشت قد ظهر في بداية الدورة الأخيرة، وسوف يأتي بعده ثلاثة مخلصين، كل منهم سيأتي على رأس ألف عام، أولهم هو أوشيتار، وثانيهم هو أوشيتار ماه. أما الثالث والأخير فيعرف باسم سوشيانس، وسوف يظهر في نهاية تلك الدورة، في نهاية الزمان. وهو الاعتقاد الذي يتشابه كثيراً مع فكرة المسيح الموعود أو المهدي المنتظر التي اشتهرت في الأديان الإبراهيمية.
بحسب الاعتقاد الزرادشتي، فإن زرادشت هو والد المخلصين الثلاثة، ذلك أن بذور زرادشت المقدسة قد حُفظت في بحيرة في بلاد فارس، وعندما تنزل الثلاث عذراوات –أمهات المخلصين- للاستحمام في تلك البحيرة بفارق ألف عام كاملة بين كل عذراء والتي تليها، فسوف تنتقل البذور إليهن، ليحبلن بالمخلصين العظام.
الزرادشتية في كردستان العراق
عرف العراق القديم الزرادشتية في عصوره الغابرة. من أهم الأماكن التي مورست فيها الطقوس الزرادشتية قديماً كل من “طاق كسرى/ إيوان كسرى” في المدائن، وكهف قزقابان الذي يحتوي على منحوتات أثرية زرادشتية ويبعد 50 كم غرب السليمانية، وكهف جارستين الذي يقع في دهوك، ومعبد دربندخان في شمال شرق العراق على الحدود مع إيران.
تعود قصة إحياء الزرادشتية في كردستان العراقية في العصر الحديث إلى ثلاثينات القرن العشرين. في تلك الفترة أصدر جلادت أمين عالي بدرخان باشا مجلة هاوار (النجدة) في دمشق في عام 1932م، وخصصها لمناقشة القضايا المتعلقة بالشأن الكردي. أبدت المجلة اهتماماً كبيراً بالديانة الزرادشتية بصفتها أحد مصادر الهوية الثقافية الكردية الأصيلة. عمل القوميون الأكراد على إيجاد صلة قرابة بين الزرادشتية والديانة الإيزيدية المنتشرة في كردستان. وتم الترويج لكون الإيزيدية ذات أصول زرادشتية قديمة.
في السنوات الأخيرة، تسببت الهجمات التي شنتها عناصر تنظيم داعش في 2014م في إعادة الاهتمام بالزرادشتية. أقبل الكثير من الأكراد على دراسة هذا الدين بوصفه أحد الأديان القديمة الداعية للسلام والمناهضة للعنف. تزايد هذا الإقبال بشكل كبير في السنوات الأخيرة بعد أن أصدر إقليم كردستان القانون رقم 5 عام 2015م، المتعلق بحماية حقوق المكونات في الإقليم.
بدأ الزرادشتيون بممارسة طقوسهم في العلن وبكامل الحرية للمرة الأولى. وسمح ذلك بالنظر للدين الزرادشتي على كونه أحد الأديان المهمة والمُعترف بها. حالياً، يقع المركز الرئيس للزرادشتيين العراقيين في مدينة السليمانية الواقعة شرقي إقليم كردستان العراق، قرب الحدود مع إيران. يوجد تباين كبير في تحديد عدد الزرادشتيين العراقيين. فبينما يذهب بعض الناشطين الزرادشتيين إلى أن عددهم داخل العراق يقترب من 300 ألف. فإن تقارير أخرى قدرتهم ببضعة آلاف لا أكثر.
افتتح معبد للديانة الزرادشتية في مدينة السليمانية سنة 2015م، وبعدها بسبع سنوات افتتح معبد آخر في مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق في سنة 2022م. وقبلها بعامين، أي سنة 2020، أُسست منظمة ياسنا لتطوير الفلسفة الزرادشتية في دهوك. لم يمر ذلك بسهولة، تعرضت بعض المؤسسات الزرادشتية للاستهداف من قِبل بعض المتشددين. على سبيل المثال في سبتمبر سنة 2020م، ذكرت ممثلة الديانة الزرادشتية في إقليم كردستان، آوات حسام الدين طيب، أن عناصر من الجماعات الإسلامية المتشددة هاجموا مبنى منظمة “ياسنا” الذي اُفتتح في دهوك، وأنزلوا اللوحة والشعار الزرادشتي وبدأوا بإطلاق التهديدات والشتائم.
في سياق آخر، يحتفل الزرادشتيون العراقيون بالعديد من الأعياد الزرادشتية القومية التي تختلط فيها سمات القومية والدين في آن. على سبيل المثال يُعدّ عيد الأربعاء الأحمر واحداً من أشهر أعيادهم. الأربعاء الأحمر هو آخر أربعاء يسبق رأس السنة الكردية التي هي عيد نوروز. ويسمى هذا اليوم بالأحمر تيمناً باللون الأحمر الذي يعبر عن الحب. “في هذا اليوم يتم نشر الفرحة والتسامح من خلال ارتداء ازياء ملونة وتقديم أكلات خاصة احتفاءً بهذا العيد”. وبحسب بعض المعتقدات فإن أرواح الأموات تحل على الناس في ذلك اليوم ولذلك يجب ارتداء الالبسة الملونة تعبيراً عن فرحة استقبال تلك الأرواح.
محمد يسري