يرافق كل تحول كبير في مسيرة شخص, خطوات ومراحل, تكون تجريبية وغير موثوقة النتائج.. وقد يصاحب كل ذلك مخاطر, وربما إقتراب من حافة الهاوية, إن لم يحسن العقلاء والحكماء, تدارك الأمور وتقويم مسار هذا التحول وصولا, لأقرب لبر الأمان.
كان التحول في المشهد العراقي كبيرا وقويا وصادما, ويكاد المصطلح المسرحي ” دراماتيكي” أن يكون الأدق والأقرب لتوصيف ما حصل.. فمن نظام غاية في الشمولية والدكتاتورية والفردية والوحشية, لبديل غاية في العشوائية والفوضى وضياع المحددات, وتعدد الرؤوس والقيادات, وكثرة اللاعبين المؤثرين محليا وإقليما ودوليا.
بالرغم من كل ذلك, وفداحة الثمن الذي دفعناه ولازلنا نفعل, في طريق التحول الديمقراطي.. فهناك بصيص أمل أننا نسير بالإتجاه الصحيح.. وكل الدلائل تشير لمن ينظر بعين الإنصاف والموضوعية, والتجرد من التحيز وبمقياس واقعي من خارج إطار التأثر, أن التجربة تقدمت بشكل أسرع مما كان يتوقعه أكثر المراقبون للشأن العراقي.
صحيح أن الوضع لازال هشا, وأن التقدم في كل المستويات لازال بطيئا, وهناك كم من المشاكل يفوق طاقة أي حكومة أو جهة تتصدى للقيادة, لكن هناك تقدم نسبي بما يخص الشؤون الإستراتيجية للبلد, فهناك تطور واضح وإنتقالة لا يمكن تجاهلها فيما يتعلق بوعي المواطن, وإنتباهه لدوره بالشأن العام.. وبنفس السياق, يظهر بوضوح إنتقال المواطن من دور المتفرج المشاركفي تكريس الطائفية, لصانع للحدث من خلال إحتجاجات شبه تلقائية, كادت أن تطيح بالحكومة, ودفعتها للرضوخ لمطالبه ولو جزئيا.
قابل هذا التطور, نضوج نسبي في طريقة تعاطي معظم الطبقة السياسية, وهي إستجابة ” قد تكون إجبارية”.. فبعد أن كانت لدينا عشرات التحالفات والقوائم, برز لدينا تحالفان هما ” الإصلاح والبناء”, لديهما القدرة على التنافس, وقدما أفكارا لكيفية إدارة الدولة.
رغم أنهما يتباينان في قابليتهما على الصمود والبقاء.. فالإصلاح يحاول الإعتماد على قدرات السيد عمار الحكيم في تنظيم ومأسسة تحالفهم بما لديه من خبرة وتجربة سابقة في التحالف الوطني, ومحاولته جعله مؤسسة لها أليات عمل وسياقات معروفة ورصينة.. يقابله محاولة السيد هادي العامري, لجمع قوى تحالفه والحفاظ على تماسكه, مستفيدا من دعم إقليمي, ومشتركاتلتلك القوى في مطالبها وتطلعاتها.
أهم ما يميز هاذين التحالفين, هو وجود تنوع “طائفي” حقيقي, وليس شكليا أو عدديا للزينة كما حصل سابقا, فهناك قوى “سنية” مؤثرة في تحالف ظاهره شيعي, وهذا تطور نوعي يجب أن يقيم إيجابيا.. ورغم أن القوتين الكرديتين الأكبر لم يعلنا إنضمامهما لأيهما, لكن تقارب الديمقراطي من البناء, وتوافق الإتحاد مع الإصلاح, ليس خافيا على أحد.
قوة هاذين التحالفين, وإدعائهما أنهما الكتلة الأكبر دون الأخرى, دفعهما للإتيان برئيس وزراء لا ينتمي لأي منهما.. ورغم كل المشاكل التي رافقت ولازالت تعرقل إكمال تشكيلة الحكومة, نتيجة لضغوطات إقليمية, وإمتدادات وإرتدادات لتنافس إيراني- أمريكي.. لكن التحول السياسي العام, يسير بشكل مضطرد بالإتجاه الصحيح.
رغم كثرة التوقعات بعدم قدرة تحالف البناء على الإستمرار, بناء على معطيات تتعلق, بكثرة تطلعات قادته لزعامة المشهد عموما والتحالف خصوصا.. والتوجهات المتنافرة والمتباعدة لقواه, وكثرة داعمي التحالف وإختلاف أجنداتهم, وصعوبة قبول قادة قوى التحالف لان يقادوا.. لكن قوة داعميه ورغبتهم سيتيح له البقاء قطبا ثانيا يتحكم باللعبة السياسية العراقية.
كما يعاب على تحالف الإصلاح, أن قواه رغم أنها أقرب لبعضها من حيث المواقف السياسية السابقة, إلا أنها كغيرها تبحث عن زعامة ما ولا يسهل قيادتها, وعدم وجود قوة إقليمية تدعمه بشكل واضح, وأخطر ما يواجهه أن قوته الأكبر عدديا ” سائرون” تضع رجلا في الحكومة ورجلا تهدد بالإنتقال للمعارضة, وسبق أن انتهجت مواقف إنفعالية كادت أن تطيح بالوضع كله..لكن خبرة زعيمه في مأسسة التحالف, ومقبوليته لدى جميع تلك القوى, بل وحتى لدى خصومه السياسيين في تحالف البناء, وقدرة قوتيه الأكبر ” سائرون والحكمة” على تحريك الشارع, ومعلومات ترشح من هنا وهناك, أنه فعلا التحالف الأكثر عددا, قد يتيح لهم أن يكونوا القطب الأول تأثيرا إن لم يكن عددا!
المنجز الأهم للعملية السياسية على عيوبها وعلاتها, هو إستجابة القوى السياسية ” إضطرار أو إختيارا” لتقليل عملية الفوضى السياسية, والتوجه نحو تحالفات قليلة, متنوعة الإنتماء, وتمثل واقع حال الشعب العراقي, وتمنع عمليا الشد والجذب القومي والطائفي.
هي خطوة ليست معجزة, لكنها خطوة متقدمة بالإتجاه الصحيح, يجب أن تتبعها خطوات.