في 16 كانون الأول/ ديسمبر 2014، عُرضت الحلقة العاشرة من الموسم الرابع من المسلسل الأمريكي “شخص مثير للاهتمام” (Person of Interest)، وكانت بعنوان “الحرب الباردة”. في مشهد شهير في هذه الحلقة، يرفع جيريمي لامبرت، وروت، ومارتين روسو، وجون ريس سلاحهم ضد بعضهم البعض في حركات تشبه السلسلة ويحبس الجميع أنفاسهم: مَن سيبدأ الطلقة الأولى التي ستفجر المشهد.
في أوكرانيا… الطلقة الأولى
بدأ عام 2022 والنظام العالمي يعاني من أزمات جائحة كورونا وحالة عدم يقين من قواعده زادت من أعداد المتمردين الراغبين في تحدي هذه القواعد. كانت الأسئلة قد بدأت تتصاعد حول دور حلف شمال الأطلسي (الناتو) بعد ظهور الميول الانعزالية الأمريكية وموجات صعود الشعبوية في أوروبا، والتي شككت في جدوى وجود اتحاد أوروبي، بالإضافة إلى انهيار أحلام الديمقراطية في الشرق الأوسط، وتراجع العقلانية وزيادة القومية الأوليغارشية في دوائر السيلوفيكي الحاكمة في روسيا، ورغبة الصين الملحة في أن تُعامَل كقوة عظمى تفرض شروطها في محيطها الحيوي، وهو ما يهدد بإعادة أزمة تايوان إلى الواجهة مرة أخرى، ويهدد وضع الولايات المتحدة في المحيط الهادئ. كل شيء أوحى بأن عالم ترتيبات ما بعد الحرب الباردة كان في طريقه إلى الزوال.
في شباط/ فبراير 2022، أقدمت روسيا على أخطر خرق أمني في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، فتعرّض النظام الأمني الأوروبي لأكبر صدماته وعاد العالم إلى حافة المواجهات الكبرى، تحت تأثير تصعيد روسي داخلي قاده قوميون يصفون أنفسهم بالنبلاء الجدد، ويهدفون إلى إعادة مجد الأيام الخوالي للإمبراطورية الروسية. قابل ذلك تصعيد غير مسبوق في خطاب النخب الأوكرانية الحاكمة الراغبة في الاتجاه غرباً والانضمام للأطلسي. غزت روسيا أوكرانيا في تصعيد كبير للأزمة الروسية الأوكرانية التي بدأت في عام 2014. وأدى الغزو على الأرجح إلى مقتل عشرات الآلاف من المدنيين والعسكريين، كما تسبب في أكبر أزمة لاجئين في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. فقد نزح ما يقدر بنحو ثمانية ملايين أوكراني داخل بلادهم بحلول أواخر أيار/ مايو، وفرّ 7.8 ملايين من البلاد بحلول الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، بينما شهدت روسيا، في غضون خمسة أسابيع من الغزو، أكبر هجرة عقول لفنانين ومثقفين وعلماء تشهدها البلاد منذ ثورة أكتوبر 1917.
وأدى الغزو إلى ضرب أوروبا والعالم بأكبر أزمة اقتصادية أطاحت بحكومات وأعادت اليمين إلى الحكم في عدد من البلدان الأوروبية. كان هذا هو الخبر السيئ، لكن الخبر الأسوأ أن لا بوادر للحل تظهر في الأفق. الحرب التي بدأت في أوروبا كصدمة للجميع تستمر كحقيقة يستفيد منها البعض ويعجز آخرون عن إيقاف كرة النار التي تشتعل في فناء أوروبا الخلفي وتهدد بإحراق العالم.
الغرب لا يزال قوياً لكنه ليس وحده
بعد ما يقارب العام، خلقت الحرب خريطة من الضحايا والمستفيدين خارج حدودها الجغرافية، ما أثّر على أوزان القوى في العالم. كانت ميادين المعارك أصدق إنباءً من حسابات السياسة. فروسيا ظهرت أضعف من أن تحقق نصراً حاسماً يبتلع أوكرانيا وينصّب حكومة موالية لها، لكنها ظهرت أقوى من أن تنهزم تماماً، فهي ما تزال تسيطر على ما يقارب خُمس الأراضي الأوكرانية رغم الانسحابات الأخيرة، كما أنها استطاعت المناورة ديبلوماسياً بأن تكسب حلفاء لها تجمعهم جميعاً رغبتهم في تغيير النظام العالمي والتمرد على قواعده. ورغم الأداء العسكري المتواضع بالمقارنة مع القدرات العسكرية المتخيلة، بدا النظام الروسي متماسكاً وقادراً على تسويق ادعاءاته لمواطنيه في الداخل وقادراً على كسب حلفاء في الخارج.
على الجانب الآخر من نهر دينيبرو، ظهرت أوكرانيا أقوى من حسابات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لكنها أضعف من تمنيات الناتو بأن تحقق نصراً كاسحاً على آلة الحرب الروسية وإجبار بوتين على العودة إلى حدود ما قبل العام 2014.
أما الغرب ،فقد ظهر أكثر حكمة من أن يترك أوكرانيا وحدها أمام آلة الحرب الروسية، لكنه كان أقل قدرة على نزع فتيل الأزمة التي تهدد بالعصف بالرفاهة الاقتصادية التي تمتعت بها دول الاتحاد الأوروبي بفضل غاز روسيا القريب والرخيص.
أضعفت الأزمة أوروبا وأدخلتها في أكبر أزماتها الاقتصادية منذ الحرب العالمية الثانية، لكن تبقى الأزمة الأكبر في إضعاف قدرات الاتحاد الأوروبي على التعامل مع الغضب الشعبي الذي انفجر في مدن أوروبية بفعل ارتفاع أسعار الأغذية والطاقة، الأمر الذي أدّى إلى ارتفاع وتيرة الأزمات المالية للأوروبيين ودفع بمزيد من اليمين الشعبوي إلى مقاعد اتخاذ القرار.
“ظَهَر الغرب أكثر حكمة من أن يترك أوكرانيا وحدها أمام آلة الحرب الروسية، لكنه كان أقل قدرة على نزع فتيل الأزمة التي تهدد بالعصف بالرفاهة الاقتصادية التي تمتعت بها دول الاتحاد الأوروبي بفضل غاز روسيا القريب والرخيص”
على المستوى الأمني، تراجعت الخطط الأوروبية لإنشاء جيش أوروبي مشترك في الوقت الذي تصاعدت أهمية حلف الناتو الذي توسع تحت التهديد الروسي ليضم كلاً من السويد وفنلندا. كما تصاعد الاعتماد على الولايات المتحدة أمنياً لحماية الأمن الأوروبي بعد أن نشر الناتو 40 ألفاً من قواته على جبهته الشرقية المحاذية لأوكرانيا. وزاد الشك حول دور الاتحاد الأوروبي في حماية أعضائه سواء على مستوى الاقتصاد أو الأمن وهو ما يزيد الغموض حول فاعلية الاتحاد في مواجهة الأزمات الكبرى.
ظهرت الولايات المتحدة مستفيدة من استعادة دورها الأمني في أوروبا كما أعطتها الحرب فرصة لاستنزاف روسيا من ناحية، وكشف قدراتها التسليحية التقليدية من ناحية أخرى. استعرضت الولايات المتحدة تفوقها التسليحي في مجال الأسلحة التقليدية، إذ لعب التسليح الغربي بشكل عام والأمريكي بشكل خاص دوراً أساسياً في تغيير روسيا لتكتيكاتها، وانسحابها من مناطق كانت تحت سيطرتها والاعتماد على القصف الصاروخي والمُسيرّات لتقليل خسائرها.
فقد منحت نُظم الدفاع الجوي والمدفعية المتحركة ومضادات الطائرات والدبابات الأمريكية والغربية القوات الأوكرانية الأفضلية في الدقة وفي مدى النيران مما سمح للقوات الأوكرانية بأخذ زمام المبادرة في جبهات خيرسون وزابروجيا. غير أن الحرب أيضاً تركت أثرها على الاقتصاد الأمريكي وتركته يعاني من أكبر موجة تضخم معرضة للزيادة بفعل تضرر سلاسل التوريد العالمية وارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية. كما أضعفت الحرب الموقف الأمريكي أمام دول الخليج النفطية وأجبرت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على تغيير لغتها معها.
الصين تهدد… والهند تستمتع بعروض الشتاء
كما تخلق الحروب ضحاياها تخلق أيضاً زبائنها ومستفيدين منها وهو ما أظهر أن الغرب، على خلاف ما يتصور البعض، لم يستطع تسويق روايته للحرب خارج حدوده الجيوبوليتكية.
وفقاً لمراقبين، منحت الحرب الصين الجرأة على تبني مدخل أكثر عدوانية تجاه تايوان وأكثر حدة في علاقتها بالولايات المتحدة. ودخلت العلاقات بين البلدين مرحلة تصعيد خطابي شديد بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي للجزيرة في آب/ أغسطس الماضي، في خطوة أثارت الصين المتحفزة، ما دفع بالرئيس الصيني تشي جنبينغ إلى تهديد الرئيس الأمريكي بالنار في مكالمة تليفونية قائلاً: “مَن يلعب بالنار… ستحرقه”.
“منحت الحرب الأوكرانية السعودية ودول الخليج النفطية دوراً أكبر في اقتصاد العالم، بعد ارتفاع أسعار الطاقة عالمياً، كما منحت تلك الدول فرصة لفرض شروط على الغرب والولايات المتحدة التي تراجع دورها الأمني في الشرق الأوسط”
على الجانب الآخر من جبال الهيمالايا الفاصلة بين الهند والصين، تظهر الهند كشريك اقتصادي مفاجئ لروسيا، لا يلتزم بالرواية الغربية للحرب، بل يستفيد من الوضع الذي خلقته كمستهلك بديل للطاقة الروسية التي تبحث عن زبائن جدد. استفادت الهند من علاقات دافئة مع روسيا للاستفادة من أسعار تنافسية للنفط والغاز الروسي الذي فقد جزءاً من زبائنه في الغرب. فبعد تراجع الطلب الأوروبي استفادت الهند من العروض المخفضة للنفط الروسي. أصبحت موسكو ثاني أكبر مورد للنفط إلى نيودلهي، لتحل محل السعودية، بعد العراق. استيراد الهند للنفط الروسي يبدو أنه معادلة رابحة للبلدين. فالهند التي تطمح في أن تقود ما تسميه الثورة الصناعية الرابعة وأن تتحول إلى مركز عالمي للتصنيع ينافس الصين ستستفيد من الأسعار التنافسية للطاقة في تحقيق أهدافها، الأمر الذي سيعزز موقعها كقوى عالمية صاعدة.
الشرق الأوسط… نادي تبادل المصالح
في الشرق الأوسط، ينتهي عام 2022 وقد تغير المشهد. فتركيا التي أدت بها سياساتها إلى حالة شبه عزلة في البحر المتوسط وفي محيطها الحيوي، في نهاية 2021، استفادت من الحرب في بيع مسيّراتها “بيرقدار” التي لعبت دوراً كبيراً لصالح الأوكرانيين، لكنها أيضاً استفادت سياسياً بعد أن قدّمت نفسها كوسيط بين الغرب وروسيا للوصول إلى اتفاقات وتفاهمات لاحتواء تبعات الأزمة.
ومنحت الحرب السعودية ودول الخليج النفطية دوراً أكبر في اقتصاد العالم، بعد ارتفاع أسعار الطاقة عالمياً، كما منحت تلك الدول فرصة لفرض شروط على الغرب والولايات المتحدة التي تراجع دورها الأمني في الشرق الأوسط. فبايدن، الذي تعهد بجعل المملكة العربية السعودية دولة منبوذة بسبب اغتيال جمال خاشقجي، اضطر إلى زيارة السعودية في تموز/ يوليو والاجتماع بولي العهد السعودي محمد بن سلمان في خطوة وصفت بأنها دليل على أن الواقعية هزمت المثالية.
“على مستوى التحديث الديمقراطي، شهد عام 2022 انهيار أحلام الديمقراطية في دول الموجة الأولى والموجة الثانية من الربيع العربي”
غير أن السعودية وحلفاءها في أوبك بلس رفضوا المطالب الأمريكية وقرروا تخفيض إنتاج النفط للحفاظ على السعر في السوق العالمي، في ما وُصف بأنه صفعة لجهود الغرب في إقامة تحالف عالمي مضاد لروسيا وانتقام تم تقديمه على طبق بارد للإدارة الأمريكية الأكثر فتوراً في علاقتها بالشرق الأوسط. هذا الأمر قابلته الولايات المتحدة بعبارات تهديدية من بايدن نفسه موجهة للسعودية: “سوف تكون هناك عواقب (على السعودية)”.
وخلقت الحرب نادياً لتبادل المصالح بين الناقمين على الغرب. فإيران التي تعاني من أزمة شرعية لنظامها السياسي الذي يواجه إحدى أكبر أزماته بعد مقتل الشابة مهسا أميني، منحتها الحرب فرصة لاختبار أسلحتها وتحسين وضعها الاقتصادي وزيادة ثقتها في نفسها بعد الاستخدام المكثف للمسيرات الإيرانية كأدوات تدمير رخيصة وفي أحيان كثير أكثر فاعلية من الأسلحة الروسية المعقدة التي تملك تكنولوجيا أكبر، لكنها أقل جدوى نظراً إلى ارتفاع تكاليف إنتاجها وتشغيلها.
تكلفة الحرب في الشرق الأوسط
تركت الحرب أثرها على الدول ذات النظام الاقتصادي الهش، فالأموال الساخنة غادرت مصر وكشفت هشاشة نظامها الاقتصادي الذي يعتمد على قطاع البناء الحكومي. كما أدت الأزمة في سلاسل توريد الحبوب والقمح إلى أزمات في ليبيا ولبنان ومصر والعراق وعدد من الدول العربية، تاركةً هذه الدول تحت تأثير هشاشة اقتصادية تتزايد مع استمرار الحرب، مما يؤثر على استقرارها السياسي والأمني.
في اليمن جنوباً وصلت الأطراف المتصارعة إلى قناعة بأن لا أحد منها قادر (على الأقل حالياً) على تحقيق نصر حاسم. لكن فاقمت الحرب من الأزمة الإنسانية في اليمن الذي يستورد 40% من القمح من روسيا وأوكرانيا، وزادت معدلات الفقر والجوع.
وعلى مستوى التحديث الديمقراطي، شهد عام 2022 انهيار أحلام الديمقراطية في دول الموجة الأولى والموجة الثانية من الربيع العربي. فقد ظلت الأوضاع الأمنية والسياسية في السودان هشة بعد تعثر مسار الانتقال رغم توقيع اتفاق إطار في كانون الأول/ ديسمبر الجاري يتعهد فيه الأطراف بالانتقال إلى حكم مدني. وفي تونس، تصاعدت أزمة الشرعية بعد انتخابات تشريعية أجريت في ظل أزمة سياسية تؤثر على الوضع الاقتصادي في البلاد التي شهدت تراجعاً كبيراً عن مسارها الديمقراطي.
كل هذه الأزمات أدّت إلى تفاقم ظاهرة الهجرة غير النظامية من جنوب البحر المتوسط إلى شماله، مما يزيد من تفاقم حالة عدم اليقين وتنامي المشاعر القومية المعادية للأجانب واليمينية الشعبوية التي تؤثر على الاستقرار الأمني في قلب العالم وحوض البحر المتوسط.
نظرة إلى العام 2023
توضع القواعد الدولية في الحروب وتنتهي في حروب أخرى. يبدو أن الحرب الروسية في أوكرانيا إحدى تلك الحروب التي ستشكل نظاماً عالمياً جديداً غير محدد الملامح بعد.
كانت هذه الحرب مركز الزلزال للنظام العالمي الذي يتشكل الآن. فروسيا رغم خسائرها الأخيرة لا زالت متماسكة عسكرياً وقادرة رغم الصعوبات الاقتصادية على تشكيل تحالفات سياسية واقتصادية بديلة تجعلها تستمر في المواجهة لفترة أطول. والناتو قادر على إبقاء أوكرانيا في حالة مقاومة وإلحاق أضرار بالعسكرية الروسية ذات الأداء القتالي الضعيف على الأرض، مما ينبئ بأن الأطراف لم تصل بعد إلى حالة الإنهاك المتبادل اللازم لبدء المفاوضات. فالرئيس الأوكراني يرفض المفاوضات لأن الانتصارات العسكرية الأخيرة أقنعته بأنه قادر على تحقيق الانتصار العسكري. والروس لا يريدون مفاوضات تجبرهم على قبول شروط هزيمة، خاصة أنهم ليسوا مضطرين لها إلى الآن وهم يختمون العام بقصف صاروخي وهجوم بالمسيّرات يهدد محطات الطاقة والبنية الأساسية الأوكرانية، بما يؤشر على أن صندوق الحيل الروسية لم ينضب بعد.
تظهر أوروبا كأحد أكبر الخاسرين من الحرب من خارج أوكرانيا، كما لو كانت تتجرع الدواء المر. فالعقوبات الاقتصادية على روسيا أثّرت على الاقتصاد الروسي لكن كان تأثيرها على الاقتصاد الأوروبي أشد. خلقت الأزمات الاقتصادية أزمات سياسية وأدت إلى وصول المتشككين في جدوى الاتحاد الأوروبي إلى الحكم في أوروبا الغربية، وهو ما يهدد مستقبل الاتحاد نفسه.
وخلقت الحرب واقعاً جديداً تظهر فيه الصين والهند وإيران وتركيا والسعودية ودول الخليج كفاعلين لهم دور في النظام العالمي الذي يتشكل. يدخل الأطراف عام 2023 بتوقعات باستمرار الحرب مما يؤشر بعام صعب أمنياً واقتصادياً. لكن ثمة خبراً جيداً ربما يلوح في الأفق من بعيد، وهو أن الأطراف لن تتحمل الاستمرار في ضغوط الحرب لفترات طويلة وعلى الجميع البحث عن مخرج آمن. فهل سيكون عام 2023 عام البحث عن هذا المخرج؟ ربما!