عوضاً عن هذا، عاد إلى تقليده الأميشي المتمثل في الزراعة، والتمتع بأسلوب حياةٍ بسيطٍ يتحاشى أشياء يعتبرها بقيتنا جزءاً من نسيج الحياة، مثل التلفزيونات وأحزِمَة السراويل، خشية أن تُلهِي المرء عن الإخلاص للرب. هذه الطائفة المتحدثة بالألمانية، والتي تطالب بحيواتٍ بسيطةٍ من الاعتماد على الذات بناءً على تعاليم الإنجيل، ربما تختلف مع سائر المجتمع اليوم، لكن على نحوٍ مفاجئٍ، فهي مزدهرةٌ، ولم تنطفئ شعلتها في عالمٍ سريع التطور متمثل في الهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي.
الجماعة الدينية الأسرع نموّاً
في عام 1989، كان هناك ما يقرب من 100 ألف من الأميش متفرِّقين في 179 مستوطنة في أنحاء أميركا الشمالية. ووَجد تحليلٌ أجراه مؤخراً بعض الأكاديميين في جامعة إليزابيث تاون بولاية بنسلفانيا أنَّ عدد أفراد الأميش ارتفع إلى 330265 في 546 مستوطنة. لذا فهي الديانة الأسرع نمواً على سطح القارة، وهناك تنبؤاتٌ بأن أتباعها قد يتعدُّون المليون بحلول عام 2050. ويدلُّ هذا على تحوُّلٍ استثنائيٍّ: إذ كان هناك 5000 من الأميش فقط في أميركا قبل قرنٍ واحد.
ولعل الشيء الأبرز هو أنَّ أسباب هذا التفجر السكَّاني لا تقتصر على عائلات الأميش التقليدية الكبيرة. فهناك أطفالٌ يختارون طواعيةً البقاء في المجتمعات الصغيرة، ويقاومون جاذبية النوادي والرياضة والموسيقى والتكنولوجيا. يقول مايكل، أحد أبناء دانييل الذكور الأربعة صاحب الـ15 عاماً، أثناء تناوله حساء الطماطم: «سمعت كثيراً عن فيسبوك Facebook، لكنه يبدو مضيعةً للوقت. يمكن أن أفعل أشياء أنفع بكثيرٍ من الذهاب إلى الحانات أو قضاء الوقت في النظر إلى هاتفٍ». يمكن للأطفال اختيار تعميدهم في الكنيسة في أواخر سنوات المراهقة، ويقول باحثون إن معدَّلات الالتزام بالديانة يبدو أنها قد ارتفعت في العقود الأخيرة.
وليست فقط الحواسيب والسيارات هي التي تُدير لها العائلات ظهورَها. بل يرفض كثيرٌ من الأميش منابع الكهرباء والبعض يرفض السباكة الداخلية، بينما يجب على الزوجات اتباع أوامر أزواجهن؛ والطلاق يُعَد إثماً لا يُغتَفَر. ويؤدِّي الأطفال الأعمال المنزلية منذ نعومة أظافرهم. إلا أن وراء تلك اللِّحَى الطويلة المميزة لدى الرجال والقلنسوات البيضاء لدى النساء، عقولاً تجارية ذكية، في ظلِّ ارتفاع أعداد المليونيرات بشدة. تحدَّثتُ إلى رجلٍ يدير شركةً لديها 500 موظفٍ أسَّسَها بعمر الـ50 في حظيرته، بينما كوَّن آخرون ثروتهم من ملكية الأرض مع توسُّع تعدادهم السكاني، مما أدَّى إلى ارتفاع قيمة الأرض.
يعيش معظم الأميش في مجتمعاتٍ صغيرةٍ تتألَّف من قرابة 20 أسرةً، محتشدةً حول كنائس تضع قواعدها بنفسها، يمكن أن تجدهم الآن في 30 ولايةً أميركية، بالإضافة إلى كندا والأرجنتين وبوليفيا.
تقول كارين جونسون وينر، أستاذة علم الإنسان ومؤلفة عددٍ من الكتب عن الأميش (مع أنها نفسها ليست من الأميش): «حين تكون لديك أُسَرٌ من 13 شخصاً ويلتزم معظمهم بالدين، ينتهي بك المطاف بعددٍ كبيرٍ من الناس. في أغلب الأحيان، رأيت تقسيماً للعمل وحساً تعاونياً لم نعد نملكه نحن. لطالما كان أكثر ما يثير إعجابي هو ترابطهم الأسَري».
مجموعة من نساء الآميش
عوامل مختلفة عزلتهم عن بقية العالم
أدى عددٌ من العوامل، مثل إنهاء التجنيد الإجباري في الولايات المتحدة عام 1973، الذي أرغم شباب الأميش الذكور (بصفتهم معارضين للخدمة العسكرية) على تأدية أعمال مجتمعية، والتوجُّه الأحدث المتمثل في تعليم أطفال الأميش في مدارسهم الخاصة، إلى الحدِّ من التفاعل مع العالم الخارجي. وقد عزَّز هذا حسَّ الانفصالية وترتَّب عليه ارتفاعٌ في معدَّلات الالتزام بالديانة عن السنوات السابقة للحرب العالمية الثانية، حين كانت الخلافات مع المجتمع الأشمل أقل حدَّةً.
يعد مجتمع الأميش في نيويورك من المجتمعات الأسرع نمواً، إذ توجد به 58 مستوطنةً يقع معظمها شمال الولاية. وينجذب المستوطنون نحو الأراضي الأرخص ثمناً من معاقل الأميش في ولايات أوهايو وإنديانا وبنسلفانيا (وهي التي ظهرت في الخلفية المتألقة لفيلم Witness، بطولة هاريسون فورد حيث يلعب دور شرطيٍّ يختبئ وسط مجتمع الأميش). وفي بلدة موريس السوقية الصغيرة، حيث يعيش آل ويفر حالياً، ثمة سبع أُسَرٍ من الأميش يعيشون بمنطقةٍ شَهِدت كساد عشراتٍ من المزارع الصغيرة.
ولكن يبدو أن جيرانهم يرحِّبون بهم، لا سيما لأنهم أعادوا إحياء مزارع مهجورة. يقول ليزلي ستروه، وهو ناشرٌ كان يعمل في حقول دانييل في صباه: «إنهم محبوبون هنا. لا يندمجون مع الآخرين، ولمَ ينبغي لهم ذلك؟ لكنهم ما زالوا يفتحون أذرعهم لنا». مع ذلك، نشبت توتُّراتٌ في مناطق أخرى بسبب بعض المشكلات مثل روث الخيل على الطرق، ورفض تركيب كشافات الإضاءة التحذيرية على العربات.
طاعة الزوج من طاعة الرب
عند توقُّفي في مركز هذه البلدة الهادئة، قابلت رجلاً مُسِناً من الأميش يزور مكتب البريد على دراجته، اكتشفت أنه والد دانييل، ويُدعى روي. وهو أرمل انتقل إلى هنا منذ سنة، سائراً على خطى ابنه، وأجاب بأدبٍ على أسئلتي وأطلعني على بعض المعتقدات الأساسية لمجتمع الأميش، عن اتباع «الطرق القديمة» كما وصفها الإنجيل. وعرفت لاحقاً أن ما دفع الأسرة إلى الانتقال كان رُخص سعر الأرض، والتوترات حول التكنولوجيا في كنيستهم السابقة، ورغبة دانييل في قضاء مزيدٍ من الوقت رفقة أسرته. إنه يشيِّد متجراً لبيع المحصول المحلي، بينما يدير سام، أكبر أبنائه، مزرعة ألبان.
في تلك الأمسية، طلب مني دانييل مرافقة أسرته على العشاء، وهي دعوةٌ غير اعتياديةٍ. لكن ارتفعت أصوات القهقهة أثناء تناول الوجبة، بينما وصف آل ويفر طريقة حياتهم التي تتمحور حول الإيمان والعائلة والعمل. يقول دانييل: «أشعر أنك جديرٌ بالثقة، لذا تجلس على مائدتي. ولكن على مستوى الصداقة، قِيَمنا مختلفةٌ تماماً. ما كنا نريد الاختلاط بك، لأن أبناءنا لو زاروا منزلك، لربما جلسوا لمشاهدة التلفزيون».
جرى بيننا نقاشٌ عن آرائهم حيال قضايا اجتماعيةٍ كحقوق المرأة والفتاة، واستمر الحديث حتى اليوم التالي. قال سام، ذو الـ28 عاماً، وهو يملك أربعة أبناء: «يقول الإنجيل إن على الزوج أن يحب زوجته، وإذا أطاعته زوجته، ستعيش أسرتهم سعيدةً. إذا اتُّبِعت تعاليم الرب، سينشأ من ذلك أسرةٌ راضيةٌ وفقاً لثقافتنا». وحين سألته عن مدى عدالة ذلك، جادل بأنهم جميعاً -رجالاً ونساء- يطيعون أمراً سماوياً. وبينما تصرُّ العائلة على أن جميع القرارات الرئيسية تكون مشتركةً، فمن الملحوظ أن النساء قليلات الكلام في هذه النقاشات التي يستحوذ عليها الذكور. ومن الأرجح كذلك أنَّهن يؤدين المهام التقليدية من التنظيف والطهي. وصفت إيرا، زوجة دانييل، يومها لي قائلةً: «وقت هادئ للصلاة»، ثم «تساعدني الفتيات في إعداد الفطور وننتهي بحلول السابعة لكي يستطيع الرجال الخروج». وأخبرني زوجها بأن إيرا ليست من مؤيدات حقوق المرأة.
انضم إلينا على المائدة نايثان، حفيد الزوجين الحيوي في سنِّ الواحدة، بصحبة والده، جوش. توفِّيت زوجة جوش -كبرى بنات دانييل وإيرا- بمرض لمفومة هودجكين وهي في الـ23 من عمرها، بعد مولد نجلهما مباشرةً. أخبروني بأن هذا كان مفجِعاً وبأنهم يفتقدون إليها بشدةٍ، لكنهم يؤمنون بوجود غايةٍ أسمى من خسارةٍ كهذه. إذ قال دانييل: «بالنسبة لنا، الموت ليس عقاباً من الرب. فالحياة والموت بيد الرب».
نساء الآميش يرضون رجالهم تقربا للرب
تقاليد يصعب التمسك بها
جديرٌ بالذكر أنَّ الأميش هم أتباع جاكوب آمان، وهو أسقف سويسري متشدد انفصل عن طائفة المينونايت في عام 1693. وشرع الأميش في الهجرة إلى الولايات المتحدة في القرن الثامن عشر، واستوطن معظمهم في بنسلفانيا. وفي ثلاثينيات القرن الماضي، لفتوا الانتباه العام ونشأت عنهم صورة رومانسية بسبب مقاومتهم النداءات المُطالبة بإغلاق المدارس الصغيرة التي كان يذهب إليها أبناؤهم. ووجدت الأجيال اللاحقة إعجاباً بجوانب أخرى من أسلوب حياتهم؛ ففي الستينيات، نظر إليهم متمرِّدو الثقافة المضادة باعتبارهم رواداً في الاعتزال، وفي الثمانينيات، احتُفِي بهم لمهاراتهم الحرفية التقليدية، وحديثاً، كان مصدر جاذبيتهم هو زراعاتهم العضوية، في ظل افتتاح متاجرهم التي تحمل علاماتٍ تجارية في مدينة نيويورك.
يُسمَح للغرباء بالانضمام إلى المجتمع، لكنَّ واحداً فقط من كل ثلاثةٍ هو الذي يلتزم بالعقيدة، ويُحَثُّون على إمضاء الوقت في العَيش على أسلوب الأميش لمدة أشهر قبل تعميدهم في الكنيسة.
ومن ضمن مُعتَنِقي العقيدة مارلين ميلر، وهي عضوة سابقة بفرقة موسيقية تابعة لإحدى المدارس الثانوية، وقد انضمَّت إلى طائفة الأميش منذ نصف قرن، بعد الزواج برجل من الأميش. وفي مذكِّراتها، كتبت أن أصعب التحديات كانت تعلُّم الألمانية والحياكة، والتزم ثلاثةٌ فقط من أبنائها العشرة بالعقيدة.
ورغم وضوح تديُّن سام، إذ تحمل طاولة مطبخه أوراقاً عليها ترنيماتٌ لتغنِّيها أسرته معاً، فقد اعترف لي في اليوم التالي بعد عشائنا أنه قد شكَّك في إيمانه إبَّان سنوات مراهقته، وتساءل «إن كان أمراً مكتَسَباً وليس هو الحقيقة». لديه أصدقاء غادروا لينضموا إلى «الإنكليز»، وهو المصطلح الأميشي للغرباء. واعترف كذلك بأنَّه يحب مشاهدة الطيور؛ لذا يودُّ أن يمتلك كاميرا. «لكن قيمنا مرتكزةٌ على ارتباطنا بإيمانٍ سنفقده إذا تبنَّينا التكنولوجيا»، على حدِّ قوله.
وقال سام، الذي سافر إلى الخارج، إنه كبيرٌ بما يكفي ليذكر الحقبة قبل الرقمية، قبل الحواسيب والهواتف الذكية. وأضاف: «بإمكاني رؤية التغيرات الكبيرة التي أحدثوها في المجتمع، والتي لن يراها أبنائي أبداً. هناك مزيدٌ من الاستقلال على المستوى الفردي، لكنَّ الناس قد صاروا أنانيين، يريدون كل شيءٍ لأنفسهم. أمَّا نحن، فنحترم فكرة العمل لأجل مصلحة الجميع. لقد أمرنا المسيح بأن نكون نوراً إلى العالم. لا نقول إننا نريد من الجميع أن ينضموا إلى الأميش، أو إننا خيرٌ منهم، لكن هدفنا في مجتمعٍ أنانيٍّ هو أن نُرِيَ الناس قيمة الصدق في تعاملاتنا واحترام الناس ومساعدتهم».
وفي أثناء مشاهدتي له وهو يقود أحد أبنائه الصغار في الحقول الخضراء ويَحلِب أبقاره، بمساعدة أخٍ أصغر وماكيناتٍ آليةٍ، بدا لي أن هذا الرجل الحَنون يحب الحياة الريفية، حيث أبقاره الـ800 ومبانيه القديمة المُرَمَّمة. لكنه يبغض الفلاحة المصنَّعة، حيث توجد عشرات آلاف المواشي في مكانٍ واحدٍ. إذ يقول: «في أميركا، من شدة ولعنا بالرأسمالية يجب لكل شيءٍ أن يزداد كبراً على كبر».
قد يستخدمون خيلاً وعربةً لجولاتهم بالمدينة، وتسمع صوت طقطقة عرباتهم على الطرق إلى جانب الشاحنات الهادرة، لكنَّ الأميش يستقلون سيارات الأجرة والقطارات عند الحاجة. تفاجأتُ بمعرفتي أن سام ودانييل قد سافرا إلى الخارج بالطائرة، إلى أماكن مثل غواتيمالا وهايتي لتأدية أعمالٍ خيريةٍ. وأوضح دانييل ذلك أنَّ الأميش يرفضون كثيراً من السلع الحديثة خشية التشبُّه بغيرهم. لذا لا يملكون سياراتٍ مثلاً لأن الآلات تعزل الناس عن عائلاتهم الممتدَّة بسهولةٍ كبيرةٍ ويمكن أن تخلق الحقد، ليس لأنها تُعد «آثمةً» في حد ذاتها.
الجهل نعمة.. التكنولوجيا نقمة
ولا يشتري دانييل الجرائد، لأنه لا يريد لأبنائه أن يصبحوا مهتمين بالرياضة – «تبدو الرياضة هي إله أميركا، تنافسية جداً ومادِّية للغاية»- لكنهم يلعبون الكرة الطائرة، وهو يسعَد بقراءة الجرائد إذا وجد واحدةً على متن قطارٍ. لذا فهُم يعلمون بأمر رئيسهم الأميركي المثير للجدل، رغم تفضيلهم الامتناع عن العملية الانتخابية. لكني حين ذكرت حديث دونالد ترامب العدواني تجاه كوريا الشمالية، سألني أحد الشباب إذا كانت دولته قد خاضت حرباً من قبل.
بالنظر إلى الاضطرابات السياسية في العالم، يكاد هذا الجهل يبدو نعمةً. لكنَّ بعض مَن خرجوا عن مجتمع الأميش تحدَّثوا عن جانبٍ مظلمٍ لواجهة الأميش المسالمة: وهو أنَّ من يغادرون الكنيسة قد تقاطعهم عائلاتهم لبقية حياتهم. إذ سمعت، على سبيل المثال، عن امرأةٍ مُنِعت من حضور جنازة والدتها، بسبب خروجِها من الطائفة.
وكتب العضو السابق بالكنيسة إيرا واغلر كتاباً تَصدَّر قائمة الأعلى مبيعاً باسم Growing Up Amish، يحكي فيه قصة هروبه في ستار الليل، حين كان في السابعة عشرة من عمره، ومغادرته الكنيسة أخيراً بعد تسعة أعوامٍ، في محاولته الخامسة. وقال لي واغلر: «لقد قدَّس الناس الأميش لكنَّهم مجرد بشرٍ. هناك جوانب طيبةٌ جداً في ثقافتهم أحترمها، حتى بعدما انضممت الآن إلى عالم الواقع. لقد أُخِذت إلى سطح منزلنا ذات مرةٍ، وأُعطِيت جناح أوزةٍ، وأُمِرت بكنس درجات السلَّم وأنا في سن الثالثة. رسالتهم هي أنك لا تستحق شيئاً ما لم تَعمَل لنَيلِه. لكن إذا نشب حريقٌ في حظيرة أحدهم، تساعده على ترميمها».
وأخبرني واغلر بأنَّ أطفال الأميش لا يعرفون سوى القليل عن العالم الخارجي. وقال: «كانت طفولتي آمِنةً للغاية، بحدودٍ واضحةٍ قاطعةٍ في مجتمعٍ دافئٍ جداً. شَبَبت في مزرعةٍ، لذا كنا نعمل ونلعب بالخارج في الحقول أو نصيد السمك في جداول المياه. لديَّ ذكرياتٌ دافئةٌ جداً». لكنه أشار إلى الجانب السلبي من هذه العُزلة، والضغط القوي للالتزام بالولاء إلى الكنيسة، قائلاً: «إنه تحكُّم في الفكر. كنت تعرف أنك لو خرجت عن هذه الثقافة لذهبت إلى الجحيم. لم أُدرِك حتى منتصف العشرينيات من عمري أنني لا يجب أن أكون من الأميش».
ومثل الآخرين، تحدَّث عن أثر التكنولوجيا، التي يعترف كثيرٌ من الأميش بأنها تُمثِّل لهم معضلاتٍ وجوديةً. فبعضهم يستخدم بالفعل الهواتف المحمولة، ويستخدم الأطفال سِراً مواقع التواصل الاجتماعي، وأصحاب الأعمال غالباً ما يحتاجون إلى بريدٍ إلكتروني وموقعٍ إلكتروني. وفي هذه الأثناء، قلَّ اعتماد الشركات وبائعي التجزئة على الأوراق المالية والعملات المعدنية؛ إذا نشأ مجتمعٌ بلا نقودٍ قد يُجبِر حتى أشد الجماعات محافظةً على تبنِّي التكنولوجيا.
وقال إريك ويزنر، مؤسِّس موقع Amish America الرسمي: «تُشكِّل الهواتف الذكية تهديداً على الأميش ليس فقط بسبب جوانب الإنترنت المظلمة، مثل قابلية الوصول إلى المواد الجنسية، بل كذلك طريقته في تغيير سلوكياتنا. لقد اعتدنا جميعاً بسرعةٍ إيجاد الحلول الفورية على الإنترنت. وهذه النوعية من الحلول قد تقضي على القيم التقليدية التي يبجِّلها الأميش، كالصبر والاعتماد على مجتمعاتهم. وعلى عكس السيارات أو عربات الشحن، يمكن إخفاء الهواتف الذكية بسهولةٍ».
لكنَّ ويزنر يؤمن بأن الأميش سيتكيَّفون، في ظلِّ مقاومة الجماعات المحافِظة العصر الرقميَّ لأطول مدةٍ ممكنةٍ، كما يقاوم البعض الكهرباء والسباكة الحديثة بينما تحتفظ الغالبية بالصفات المميِّزة كالملابس المتقشِّفة وحظر امتلاك السيارات. وقال: «هم يتغيرون بالتدريج، ولكن بوتيرةٍ أبطأ».
لايزال أتباع طوائف الأميش يفضلون العيش بطريقة بعيدة عن التكنولوجيا الحديثة
وكان أحد التكيُّفات الحديثة نسبياً هو التحوُّل من الفلاحة إلى إدارة الأعمال. إذ وجدت دراسةٌ أن ما يزيد على 10 آلاف من الشركات المملوكة للأميش في الولايات المتحدة -حيث معدلات الإفلاس أدنى من المتوسط- تجعل منهم على نحوٍ مفاجئٍ روَّاد أعمالٍ، مع أنَّ معظم الأميش يتركون المدارس في سنِّ الرابعة عشرة.
ومن أكبر هذه الأعمال هي ورشة لتصنيع خزانات المطابخ أنشأها أولاً يودر في حظيرته منذ عقدَين من الزمان. وهي تنتج الآن 6000 وحدةٍ في اليوم من منطقةٍ صناعيةٍ في إنديانا، ويعمل لديها 500 موظفٍ. وعلى نحوٍ غير معتادٍ، أمضى يودر، صاحب الـ72 عاماً، سبع سنواتٍ خارج طائفة الأميش في أوائل العشرينيات من عمره. وقال: «رأيت الطريقة التي يعيش بها الآخرون وقررت أنها ليست مناسبة لي ولذريتي»، مع أنه ما زال يملك كثيراً من الأصدقاء «الإنكليز». وقد عمل كذلك بعض الوقت لحساب شركةٍ كبرى. وفي حديثه عن هذا يقول: «كانت لديهم قواعد بشأن العقاقير والسُّباب، لكن لا أحد كان ينفذها. في المؤسسات الأميركية، الهدف الأوحد هو ارتقاء السلم».
يحظر يودر استخدام الهواتف المحمولة في عمله، ويتساءل عن السبب الذي يجعلك ترغب في توظيف شخصٍ يراسل معارفه نصياً على الدوام، وأكَّد أنه يلتزم بقِيَم الأميش في عمله. وقال: «جوهر النجاح هو الوصول إلى السلام داخل ذاتك وأسرتك. الأميش يعتبرون الأموال مجرَّد أداة تمكِّنُك من ممارسة دينك. فما جدوى أن تملك سيارات ذكية وتطير إلى جميع أنحاء العالم؟».
قبل مغادرتي موريس، بأراضيها الزراعية الممتدة ولافتاتها التحذيرية التي تحثُّ السائقين على الاحتراس من العربات التي تجرها الخيل، أخبرني دانييل بأنه يعرف أن الغرباء يرون نهجهم في الحياة عسيراً وعفا عليه الزمن. واستدرك قائلاً: «لكن جميع الساعين نحو التحرر يبدو أنَّ أمامهم فخاخاً أكثر من أي وقتٍ مضى، كل سياراتهم وحواسيبهم وتلفزيوناتهم يبدو أنها تجعل حياتهم أشد كآبةً. في الواقع، أرى أنَّ أسلوب حياتنا أسهل».
قد يكون هذا صحيحاً. لكن مع استمرار أعدادهم في الازدياد، لن نعرف إلا مع مرور الوقت إن كانوا سيصمدون في وجه ما يطلق عليه سام ويفر «البذخ والأبهة» اللذين يتصف بهما العالم الحديث.