يدرك الشعب اليمني أنه ضحية صراع المصالح الإقليمية وتجارب السلاح وأرباح تجار السلاح والحروب والموت، ومع ذلك غير قادر على إيقاف قتال الأشقاء، لأن الدول الاستعمارية بأساليبها الجديدة وتلك المتطلعة لتكريس نفوذها أو تأمين نفوذ لها في المنطقة، لا تريد ذلك، فهي تسع فعلياً إلى تخريب المنطقة ومواصلة القتال التدميري، بل تريد وتعمل على سيادة “الفوضى الخلاقة في عموم المنطقة، كما جاء على لسان كونداليزا رايز، وزيرة خارجة الحزب الجمهوري في عهد جورج دبليو بوش (الابن)، لإمرار مشاريعها العدوانية ضد شعوب المنطقة وبالتعاون مع حكوماتها المستبدة والرجعية والتابعة لهذه الدولة أو تلك على صعيد الدول الكبرى أو على صعيد المنطقة. هذه هي الحقيقة المُرّة التي يجب ان يراها الشعب اليمني وكل شعوب منطقة الشرق الأوسط بعيون مفتوحة وذهن متيقظ ورؤية واعية ومضادة. والحرب لا تحل المشكلة اليمنية، بل المفاوضات المباشرة بين اليمنيين أنفسهم. ك. حبيب
رغم شعور الحوثيين الزيديين بالتمييز من جانب الحكومة المركزية في اليمن، إلا إنها لم تقم بتحرك سياسي وعسكري طوال عقود ضد الحكومة اليمنية المركزية التي يدين حكامها بالمذهب الشافعي في الإسلام. ورغم الاختلاف بين المذهب الشافعي المتسامح لحكام اليمن وبين المذهب الحنبلي الوهابي المتشدد لحكام السعودية، فقد ارتبط حكام اليمن خلال العقود الأربعةالأخيرة بحكام السعودية والتزموا بدعم سياساتهم، رغم تيني علي عبد الله صالح، الذي تسلم الحكم في العام 1978 لفكر البعث ونهجه السياسي القومي الشوفيني وأقام علاقات متينة مع القيادة القومية لحزب البعث بقيادة ميشيل عفلق، ولاسيما مع نظام البعث العراقي ومع صدام حسين شخصياً. ولم تجد السعودية في ذلك غضاضة مادامت العلاقات معها قوية ومتناغمة، كما كانت لها هي الأخرى، ولاسيما في فترة حكم الملك فهد علاقات كتينة مع حزب البعث وصدام حسين.
إلا إن الخميني، وبعد سرقته لثورة الشعب الإيراني واستيلائه على الحكم في العام 1979، عمد إلى تبني تصدير “الثورة الإسلامية الشيعية” إلى الدول ذات الأكثرية الإسلامية وتلك التي سجلت في دستورها “الإسلام دين الدولة”، علماً بأن الدولة لا دين لها باعتبارها شخصية معنوية. وقد بدأ التدخل الإيراني الفعلي في شؤون الدول الأخرى بشكل مباشر، ولاسيما في الدول العربية ومنها اليمن. وقد أثار هذا التدخل حفيظة النظم السياسية الأخرى، ولاسيما المملكة السعودية، مما أدى إلى نشوب صراعات ونزاعات، بل وحرب دموية مجنونة بين إيران والعراق لفترة دامت ما يقرب من 8 سنوات عجاف ومدمرة ومميتة. ثم كانت الحرب في سوريا التي بدأت قبل ما يقرب من سبع سنوات ولا تزال مستمرة ومدمرة ومميتة لمزيد من البشر والنازحين واللاجئين.
أما في اليمن، البلد المتخلف اقتصادياً واجتماعياً وسياسيا، فقد بدأ التدخل الإيراني بتشجيع الحوثيين على مواجهة التمييز والمطالبة بحقوق متساوية والمشاركة في الحكم. ورغم صحة تلك المطالب، إلا إنها كان مطالب حق يراد بها باطل وغطاء تسترت به إيران لتحقيق مصالحها في اليمن. ولكن الحكم المركزي بقيادة علي عبد الله صالح لم يلتف لهذه المطالب ولم يهتم بإيجاد حلول عملية وعادلة مع الحوثيين. مما وسَّع شقة الخلاف وحولها إلى صراعات سياسية ومن ثم إلى نزاعات دموية.
فخلال الفترة الواقعة بين أوائل الثمانينيات من القرن الماضي والعام 2004 بدأ الحوثيون يسعون إلى امتلاك السلاح والتدريب عليه وتعزيز قدراتهم القتالية من خلال دعم إيران وحزب الله اللبناني-الإيراني لهم. وظهر ذلك بوضوح حين نشبت حروب ست بين الحوثيين وقوات الحكومة المركزية بقيادة رئيس الجمهورية علي عبد الله صالح بين عامي 2004-2010، وكلفت الشعب اليمني الكثير من التضحيات البشرية والخسائر المادية والتوقف الفعلي عن التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وخلال هذه الفترة كانت سياسة علي عبد الله صالح تزداد استبداداً، ولاسيما بعد تحقيق الوحدة مع اليمن الجنوبي في أيار/مايس 1990. ولكن حرباً تفجرت بين الجنوب بقيادة علي سالم البيض، والشمال بقيادة علي عبد الله صالح في العام 1994 انتهت بالسيطرة على عدن وإنهاء الانفصال الذي أعلنه قائد الجنوب. وقد حصل الشمال على تأييد السعودية الكامل، مما أوقع علي عبد الله صالح تحت نفوذ السعودية بشكل واسع جداً. وخلال الفترة الواقعة بين 1994-2011 مارس علي عبد الله صالح سياسة استبدادية فاسدة لم تضطهد وتستفز الحوثيين وحدهم، بل وبقية الشعب اليمني، مما أدى إلى انفجار ثورة شعبية ضده في العام 2011، انتهت بإجبار علي عبد الله صالح على التنازل عن رئاسة الجمهورية لصالح نائبه عبد ربه منصور هادي في العام 2011. وقد أيد حكام إيران هذه الثورة، في حين وقف حكام السعودية ضدها، مما جعل المعركة ليست يمنية فحسب، بل وعلى صعيد المنطقة.
لم تختلف سياسة الرئيس الجديد إزاء الحوثيين عن سياسة صالح السابقة، مما أدى إلى نشوب معارك بينهم وبين الحكم المركزي. وقادت هذه المعارك إلى بروز تحالف جديد بين أعداء الأمس، بين الجبهة الشعبية بقيادة علي عبد الله صالح وجماعة الحوثيين (حركة أنصار الله) التي أدت إلى احتلال صنعاء. عندها فرض على عبد ربه هادي منصور التنازل عن رئاسة الجمهورية لنائبه وفرضت عليه الإقامة الجبرية بصنعاء في كانون الثاني/يناير 2015. وفي شباط/فبراير 2015 تسنى له الهروب مع مجموعة من أعضاء حكومته إلى عدن وبدعم كامل من السعودية ودول عربية خليجية أخرى. ومنها أعلن سحب استقالته وإعلان الحرب ضد تحالف الحوثيين والجبهة الشعبية وبدعم من المملكة السعودية ودول خليجية، في حين وقفت إيران مع الحوثيين وبقوة أكبر من السابق.
شكل الحكم السعودي تحالفا لدول عربية وغير عربية ذات أكثرية مسلمة لخوض الحرب ضد الحوثيين لدعم عبد ربه هادي ناصر. حظي هذا التحالف على تأييد ودعم متنوع من جانب الدول الغربية، ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا. في هذه المرحلة بالذات أصبحت اليمن ساحة فعلية لحرب إقليمية بين التحالف الذي تقوده السعودية لدعم الحكومة اليمنية برئاسة منصور، وبين تحالف تقوده إيران لدعم الحوثيين بقيادة عبد الملك الحوثي. ويجري هذا الصراع تحت واجهة دينية، في حين أنه صراع مصالح بين إيران والسعودية ودول خليجية بامتياز، إذ إنها تخشى من النفوذ الإيراني على نظمها السياسية. إنها ليست حرب الشعب اليمني، حرب الأشقاء، بأي حال، وليست حرباً دينية مذهبية، وإن بدت كذلك للبعض، إنها حرب الحصول على نفوذ وهيمنة وتحقيق مصالح في منطقة الشرق الأوسط، ولاسيما لدول المنطقة ذات الأكثرية المسلمة. إن هذه الحرب التي بدأت منذ أواخر عام 2014 لا زالت مستمرة ولا زالت تقتل المزيد من البشر وتدمر الكثير من المدن وتزيد من بؤس وفاقة وجوع ومرض ونزوح المزيد من السكان من مناطق القتال الكثيرة أو الهجرة إلى خارج اليمن. ومنذ فترة غير قصيرة يستد القتال في مدينة الحديدة بهدف السيطرة على ميناء الحديدة لاستخدامه في الحرب الدموية الجارية بين الطرفين، كما تحاول الأمم المتحدة الاستفادة منه لأغراض إيصال المساعدات الإنسانية على اليمنيين. ولم يتوصل المتفاوضون إلى نتيجة فعلية إيجابية بصدد المينا، رغم الاتفاق على بعض الخطوات بهذا الشأن.
إن المجتمع الدولي لا يريد إيقاف القتال رغم تحرك الأمم المتحدة ورئيسها وتشكيل لجنة ومسؤول للتفاوض بين الفرقاء المتقاتلين، إذ أن الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية تنشط هذه الحرب من خلال استمرارها لا في بيع المزيد من السلاح إلى السعودية وبقية الدول المشاركة في التحالف “العربي الإسلامي” بقيادة السعودية فحسب، بل وفي تأييد هذا التحالف في حربه في اليمن لأن الدول الغربية الكبرى ضد إيران ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، كما إن إيران تمارس تزويد الحوثيين بمزيد من السلاح الذي تبيعه لها الدولة الروسية ودول أخرى من تجار السلاح والموت، إضافة إلى السوق الموازي الناشط في منطقة الشرق الأوسط. والتقارير المتوفرة تشير إلى خسائر هالة تحملها المجتمع اليمني بسبب هذه الحروب. فتقرير صادر عن منظمة حقوق الإنسان في صنعاء تشير إلى الأرقام التالية:
بلغ عدد القتلى 296834 يمني و24000 طفل لأسباب كثيرة منها المرض وسوء التغذية والغارات الجوية والقصف المدفعي والتفجيرات المستمرة. إضافة إلى أعداد كبيرة من الجرحى والمعوقين. أما الخسائر المادية فتشير الإحصائية إلى تدمير “271 مصنعا و19 مؤسسة إعلامية مقروءة ومسموعة ومرئية و28 مركز إرسال إذاعي وتلفزيوني وميكرويف، وتم تدمير 400 منشأة وشبكة اتصالات حكومية وخاصة و420 منشأه وشبكة ومحطة كهرباء و450 منشأة ومحطة وناقلة نفطية وغازية و85 منشأه رياضية، هذا بجانب تدمير 9 مطارات مدنية و14 ميناء و5000كم من الطرق و95 جسر. كما أشار البيان إلى أن عمليات التحالف قد دمرت 2641 منشأة تربوية وتعليمية منها 293 تدمير كلي و2348 تدمير جزئي ودمر 68 مرفقا إداريا تربويا، وتم قصف وتعطيل 23 جامعة حكومية وأهلية كليا وجزئيا وتدمير 60 معهدا وكلية مجتمع، وتشريد ٢.٥ مليون طالب لا يذهبون للمدارس والجامعات نتيجة الحرب. كما استهدفت الحرب 1016 مزرعة للمحاصيل و535 سوقا مركزيا للمنتجات الزراعية و40 سوقا زراعيا ريفيا و81 سوقا فرعيا ومخزنا للتبريد و8010 منشأة مائية و1090 مضخة مياه و10 وحدات طاقة شمسية.” راجع: خسائر اليمن البشرية والمادية بعد ثلاث سنوات من الحرب، موقع سبوتنيك عربي، 28/03/2018). ولا شك في أن المعارك الأخيرة في الحديدة وغيرها كلفات الشعب اليمني الكثير من القتلى والجرحى والمعوقين والنازحين والمشردين.
إنها واحدة من أكبر الجرائم التي ترتكب ضد الشعب اليمني، وهي الحرب التي لا بد لشعوب منطقة الشرق الأوسط والرأي العام العالمي من النضال الدؤوب والجاد لإيقافها، لمنع إيران والسعودية ودول خليجية وغيرها مواصلة الحرب المدمرة، إذ ستكون وبالاً لا على الشعب اليمني فحسب، بل وعلى شعوب المنطقة بأسرها. إن الحرب الجارية في اليمن لن تحل مشكلة الحكم، ولن تحقق لأي من الطرفين النصر على الآخر، ولكن الجرح الكبير سيبقى مفتوحاً ونازفاً ما دام هناك تدخل خارجي مستمر ومشين في شؤون الشعب اليمني، والحل الوحيد يكمن في إيقاف القتال فوراً والبدء بمفاوضات مباشرة بين اليمنيين أنفسهم لضمان إقامة دولة ديمقراطية ومجتمع مدني ومشاركة فعلية من جانب جميع اليمنيين في حكم البلاد، وبعيداً عن المحاور الإقليمية والدولية التي لا تريد للشعب اليمني الأمن والسلام والخير والتقدم، بل تريد تحقيق مصالحها الخبيثة في اليمن وفي عموم منطقة الشرق الأوسط. إن هذا يمكن أن يتم حين تمتنع الدول المنتجة والمصدرة والبائعة للسلاح عن ارساله لأطراف النزاع الدموي، حين تمتع عن تزويدها بالمال لشراء السلاح من السوق الموازية، بل تقديم الدعم للشعب اليمني لمواجهة جوعه وجراحه. الحل يكمن في أجبار المتقاتلين في الركون إلى التفاوض ودون تدخل خارجي غير مساعد على إعادة الأمن والسلام لليمن الحزين وشعبه المستباح بالحرب.