عرف العراق التصوف الإسلامي منذ فترة موغلة في القدم. يذكر ابن تيمية في كتابه “مجموع الفتاوى” أن مدينة البصرة شهدت الولادة المبكرة للتصوف الإسلامي فيقول: “وكان جمهور الكلام والتصوف في البصرة. فإنه بعد موت الحسن -يقصد الحسن البصري- وابن سيرين بقليل… ظهر أحمد بن علي الهجيمي… ومن اتبعه من المتصوفة وبنى دويرة للصوفية، هي أول ما بُني في الإسلام وكان عبد الرحمن بن مهدي وغيره يسمونهم “الفقرية” وكانوا يجتمعون في دويرة لهم. وصار لهؤلاء من الكلام المحدث طريق يتدينون به مع تمسكهم بغالب الدين…”.
عاش العديد من أعلام الصوفية في العراق عبر القرون، ومنهم كل من رابعة العدوية، ومعروف الكرخي، والسري السقطي، والجنيد البغدادي، والحسين بن منصور الحلاج الذ اُتهم بالكفر والزندقة. حالياً، تنتشر العديد من الطرق الصوفية في الأراضي العراقية. ما هي أهم تلك الطرق؟ ومن أبرز قادتها؟ وكيف يؤثر الحضور الصوفي في الواقع العراقي؟
الطريقة الرفاعية
تُنسب تلك الطريقة لأحمد بن علي الحسيني الرفاعي المتوفى عام 578ه. يُعدّ الرفاعي واحداً من أشهر صوفية القرن السادس الهجري. جرى تنصيبه منذ قرون كواحد من الأقطاب الأربعة الكبار عند الصوفية. دُفن الرفاعي في مدينة الرفاعي التي نُسبت له. وهي تبعد بحوالي 300 كم جنوب العاصمة العراقية بغداد.
ينتشر أتباع الطريقة الرفاعية حالياً في كل من العراق ومصر وسوريا وتركيا. وتحظى الطريقة بأهمية كبيرة في أربيل وفي الكثير من المناطق الكردية على وجه الخصوص. يتحدث أحد شيوخ الطريقة الرفاعية في كردستان العراق عن شروط التحاق المريد بالطريقة فيقول: “الشخص بعد أن يأتي طوعاً، عليه لفظ اسم الله وسيدنا محمد فخر الكائنات مئة مرة ومرة في اليوم الواحد لمدة أربعين يوماً، لا يأكل خلاله سوى أربع تمرات خلال أربع وعشرين ساعة، ويفضل أن يمارس ذلك في مكان مظلم”.
في المعتاد، تُقام حلقات الذكر لدى الطريقة الرفاعية في العراق يوم الخميس من كل أسبوع. وتشهد تمايل الدراويش يميناً وشمالاً بشكل متعاقب “بينما يقوم البعض منهم بحركات لا إرادية تصل إلى حد الضرب بالسيف وآلات حادة أخرى وغيرها من الوسائل”.
حالياً، يتولى محمد عجان الحديد مشيخة الطريقة الرفاعية. ولا يولي الرفاعية اهتماماً يُذكر بالسياسة وبالشأن العام، فيما يشتهرون بحضورهم الدائم في الموالد والاحتفالات الدينية الشعبية وبطقوسهم المثيرة للجدل في التلاعب بالحيات والأفاعي، وبابتلاع النار والزجاج وطعن أنفسهم بالسيوف.
الطريقة النقشبندية
تُنسب تلك الطريقة إلى الصوفي بهاء الدين نقشبند محمد البخاري المولود في أوزباكستان، والذي توفى ودُفن في مدينة بخارى عام 791ه. حققت الطريقة الصوفية النقشبندية انتشاراً هائلاً في مناطق واسعة من آسيا الوسطى. وهي الطريقة الصوفية الوحيدة التي تدعي الاتصال الروحي بالنبي محمد من خلال الصحابي أبي بكر الصديق، إذ تزعم باقي الطرق الصوفية إنها ترجع إلى علي بن أبي طالب.
في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، انتشرت الطريقة النقشبندية في العراق على نطاق واسع على يد الصوفي الكردي خالد البغدادي. وعلى العكس من الطريقة الرفاعية، ظهرت الطريقة النقشبندية كلاعب مؤثر على الساحة السياسية في العراق ولا سيما بعد سقوط نظام صدام حسين في سنة 2003م. تم الإعلان وقتها عما عُرف بجيش رجال الطريقة النقشبندية. وتحدثت بعض التقارير عن قيادة هذا الجيش من قِبل النائب الأسبق لرئيس الجمهورية عزة الدوري.
برزت أهمية تنظيم جيش النقشبندية بعد إعدام صدام حسين في ديسمبر عام 2006. نشط التنظيم في المناطق ذات الأغلبية السنية في العراق ولا سيما في كل من محافظة ديالي ومناطق جنوب غرب كركوك ومحافظتي نينوى وصلاح الدين، شمال غرب العراق. وامتلك النقشبنديون الكثير من الدبابات والصواريخ والسيارات المصفحة والسيارات رباعية الدفع والأسلحة المتنوعة التي حصل عليها التنظيم من الجيش العراقي، كما أن قادة العمليات الميدانية للتنظيم كانت من ضباط الجيش العراقي السابق الذين يملكون خبرة كبيرة في أعمال القتال والمناورة.
في البداية، استهدفت عمليات التنظيم القوات الأميركية والقوات المتحالفة معها. مع ظهور تنظيم داعش، وقع التحالف لفترة بين النقشبنديين وداعش. ولكن سرعان ما دب بينهما الخلاف ونشبت بين الجهتين الكثير من المعارك المسلحة.
بشكل عام، يروج النقشبندية لأنفسهم باعتبارهم المدافعين عن الهوية العربية الإسلامية السنية في العراق. ظهر ذلك بشكل واضح في منشوراتهم على موقعهم الإلكتروني. جاء في أحد تلك المنشورات التعريف بأهداف جيش النقشبندية “..جيشنا يؤمن بأن العراق دولة عربية مسلمة، وهو جزء لا يتجزأ من الأمة العربية والإسلامية… جيشنا يؤمن بوحدة العراق أرضاً وشعباً. جيشنا يؤمن بأن الحرية والديموقراطية والاستقلال والسيادة والأمن والسلام والمواطنة والتعايش السلمي هي من الحقوق الأساسية لكل العراقيين على مختلف معتقداتهم وقومياتهم وانتماءاتهم ومناطقهم بلا تمييز. جيشنا يؤمن بتحريم أي دعوة تمهد لتقسيم العراق وتحت أي ذريعة ومسمى وهي جريمة بحق العراق وشعبه وأمته العربية والإسلامية…”.
الطريقة القادرية الكسنزانية
تُنسب تلك الطريقة إلى الشيخ الصوفي عبد القادر الجيلاني المتوفى عام 561ه. والمدفون في الحضرة القادرية الواقعة في منطقة باب الشيخ من جهة الرصافة من بغداد. يُعدّ الجيلاني واحداً من أشهر الصوفية الذين عرفتهم الحضارة العربية الإسلامية. وجرى تنصيبه منذ قرون كواحد من الأقطاب الأربعة الكبار عند الصوفية.
ظهرت الطريقة الكسنزانية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي في كردستان العراقية باعتبارها إحدى الطرق الصوفية المتفرعة عن الطريقة القادرية. يرجع اسم الكسنزانية إلى الشيخ عبد الكريم حسين الشاه الكسنزان الحسيني. تذكر تقاليد الطريقة أن اسم كسنزاني يرجع بالأصل إلى الكلمة الكردية “الكسنزان” والتي تعني “لا يعلم عنه أحد”. كان السبب في ارتباط تلك التسمية بالشيخ عبد الكريم أن الناس لمّا سألوا عنه أثناء صعوده للجبل للخلوة، فإن الجواب الذي كان يسمعونه دائماً كان “لا يعلم عنه أحد”. ولذلك عُرف الشيخ بالكسنزان. وبالتبعية عُرفت طريقته بالكسنزانية تمييزاً لها عن باقي الطرق التي ترجع في أصولها للطريقة القادرية.
تنتشر الطريقة القادرية الكسنزانية -حالياً- بشكل كبير في العراق وإيران، كما أنها أوجدت لنفسها موضع قدم في كل من باكستان والأردن والسودان والهند وماليزيا وإندونيسيا. في سنة 2020، تولى الشيخ شمس الدين محمد نهرو محمد عبد الكريم الكسنزان الحسيني مشيخة الطريقة الكسنزانية بعد وفاة والده في إحدى مستشفيات الولايات المتحدة الأميركية. اهتم الشيخ الجديد بالمشاركة في العمل العام، وبالتفاعل مع الأحداث السياسية التي يشهدها العراق. ولذلك قام بتأسيس ما يُعرف بـ”تجمع الوحدة الوطنية العراقي” والذي عرف نفسه باعتباره تجمعا “يؤمن بأن العراق بلد الحضارات والتعايش السلمي مع كافة الشعوب المحبة للأمن والسلام … ويؤمن بالشورى إيماناً راسخاً للوصول إلى أفضل الصيغ في التعامل وترجيح الآراء وهذه الديمقراطية الحقة… كما يؤمن بضرورة بناء العراق بناءً عصرياً علمياً متطوراً مع الحفاظ على الخصوصية الوطنية لأبناء البلد…”.
على الجانب المقابل، يشرح الشيخ شمس الدين الكسنزاني أهم المعالم المميزة لطريقته فيقول: “الطريقة ليست طقساً خاصاً ولا مجموعة طقوس بل هي منهج في الحياة قوامه النصح والإرشاد وحث الناس على التحلي بالأخلاق الحقيقية للإسلام والتحلي بالأخلاق المحمدية التي تدعو إلى المحبة والسلام والتعايش مع الآخرين بشكل حسن. أما عن لون أتباعها، وهل هم من الكرد أم العرب، فالجواب هو ما تراه العين، فمشاهدة أي جمع كسنزاني بشكل عشوائي ومن دون سابق تنظيم، سيرى المطلع أن العربي والتركماني والسني والشيعي في حلة ذكر واحد وفي صف صلاة واحد”.
ويؤكد الشيخ أنه “لا توجد طقوس خاصة في الطريقة وإنما هي أوراد وأذكار وإنشاد صوفي، وهذه موجودة في كل الطرق الصوفية وعند كل المحبين لحضرة النبي محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وإن كان كل المسلمين مأمورين بذكر الله تعالى والتسبيح باسمه، وإن اختلفت الصياغات من شخص لآخر ومن طريقة لأخرى”.
يتميز أعضاء الطريقة الكسنزانية بطول شعورهم. ويتحدث أحد قيادات الطريقة مبيناً سبب حرص الكسنزانيين على إطالة الشعر فيقول: “…يُعتبر طوله مقدساً جداً وأسباب اطالته لكون أن النبي محمد كان يطيل شعره، وكذلك أحفاده الحسن والحسين والصحابة… هذا الشعر هو نور في القبر بعد وفاتنا، لقد كان شعري طويلاً جداً لكنني اضطرت وبعد ظرف عصيّ على قصه، والاحتفاظ به لما بعد وفاتي، عدت اليوم لإطالة شعري لأنه الشيء الوحيد الذي سيبقى منا في القبر وسيجعل قبورنا مليئة بالنور”.
من جهة أخرى يعرف أتباع الطريقة الكسنزانية مجموعة من الممارسات الغريبة مثلها في ذلك مثل الطريقة الرفاعية. من تلك الممارسات تناول الزجاج وإدخال السكاكين في الجسد، واللعب بالأفاعي، وابتلاع أمواس الحلاقة، وأيضاً الضرب بالمطرقة والخنجر على الرأس. يدافع بعض أتباع الطريقة عن تلك الممارسات فيقول: “القوة الروحية الموجودة في الطريقة الكسنـزانية هي قوة مطلقة مستمدة من الرب، ما نفعله ليس بدعاً أو خرافات وضلالة كما يشيع البعض، بل كرامات من الرب، ذلك أن المريد “الكسنزاني” يستطيع إدخال سيخ طويل من الحديد في بطنه دون أن يصرخ ولو للحظة واحدة وفي أجواء يتخللها الذكر وتكرار التسبيح لمئات المرات، ثم يقوم بإخراج السيخ من نقطة حساسة في جسده فتخرج بضع قطرات منه ويعود إلى منزله، وكأن شيئاً لم يحدث لأن القدرة الإلهية قادرة على حمايتهم”!
محمد يسري