في الأفق تلوح ملامح تغيير في أشكال النضال تبشر بنماذج متقدمة من المقاومة الشعبية للاحتلال ، تبني على ما هو متعارف عليه كمقاومة سلمية وتطوره كحالة صدام ليس فقط مع قوات وشرطة الاحتلال وأجهزته الأمنية ومع المستوطنين وجمعياتهم الاستيطانية ومنظماتهم الارهابية ، بل ومع مؤسساته المدنية وشبه العسكرية الملحقة سواء بوزارة الجيش او وزارة الأمن القومي ، مثل الادارة المدنية أو ما يسمى بمكتب منسق المناطق في الضفة الغربية المحتلة .
ملامح التغيير هذه تأتي من القدس وضفافها ، وهي واعدة استنادا الى تجربتنا مع نضالات أهلها ، الذين خاضوا مع الاحتلال سلسلة من المعارك في الاعوام الأخيرة ناجحة بكل المقاييس ، بدءا بمعارك البوابات الاليكترونية عام 2017 مرورا بمصلى باب الرحمه عام 2019 وانتهاء بحواجز الاحتلال في باب العمود 2021 ، التي أكدت جميعها بأن القدس الموحدة هي مجرد سراب وبأن القدس الشرقية كانت وسوف تبقى عاصمة أبدية لدولة وشعب فلسطين وبأن عودتها الى السيادة الفلسطينية مسألة حتمية .
وما يبعث على مثل هذا التفاؤل هو الدعوة الأخيرة ، التي اطلقتها القوى الوطنية والإسلامية في العديد من البلدات والأحياء الفلسطينية في القدس الشرقية المحتلة ، في مخيم شعفاط وفي عناتا والعيساوية والرام وكفر عقب والسواحرة للعصيان المدني ، وبما يشمل دعوة العمال إلى عدم التوجه إلى أماكن عملهم في الداخل المحتل، ودعوة أبناء الشعب إلى مقاطعة الاحتلال وعدم التعامل معه بشتى الطرق (المعاملات الرسمية، دفع الفواتير والرسوم والضرائب، بلدية الاحتلال… )، وإغلاق الطريق المؤدي إلى حاجز مخيم شعفاط ومدخل بلدة عناتا وعدم السماح للعمال التوجه إلى أماكن عملهم في الداخل المحتل ، وذلك رداً على ” غطرسة المحتل الذي بات يؤذينا في كل زمان ومكان ويريد حرماننا من أبسط حقوقنا، بهدم بيوتنا، وقتل زهرات شبابنا، واعتقالات في كل يوم وحين للأطفال والشباب والشيوخ والنساء ونزع ملابس شبابنا ومعاملتهم بطرق بشعة لا تحتمل واقتحام بيوت الأسرى المحررين ومصادرة مقتنياتهم وإغلاق حساباتهم البنكية، ومصادرة أموالهم بذريعة أنها أموال غير قانونية، وهي أموال يتقاضاها كل أسير عن طريق الأهل ويتم تحويلها مباشرة لأبنائهم داخل السجون لتلبية احتياجاتهم اليومية، وأيضاً قيام زعران الاحتلال بتسليم إخطارات هدم لعدد كبير من المنازل ومنهم من قام بهدم بيته بيده، وغيرها الكثير من المضايقات والقرارات الجائرة ، كما جاء في بيان هذه القوى .
وإذا كانت الدعوة الى العصيان المدني مفهومة بالنسبة لأبناء القدس ، باعتبارهم يحملون هوية تختلف عن تلك التي يحملها أبناء بقية المحفظات في الضفة الغربية ويعيشون حالة ضبابية من الناحية القانونية يفرضها عليهم الاحتلال ، فإن هذا العصيان المدني يمكن بل يجب ان يكون رافعة للعصيان الوطني في جميع الاراضي الفلسطينية المحتلة في عدوان حزيران 1967 . عناصر العصيان المدني في القدس حددها بيان القوى الوطنية والاسلامية بدءا بالامتناع عن دفع الضرائب مرورا بدفع الرسوم والفواتير على المعاملات الرسمية وانتهاء بعدم التوجه الى اماكن العمل وإغلاق الطرق وغيرها من مظاهر العصيان ، وهي تتقاطع في جوهرها مع عناصر العصيان الوطني الّي ندعو إليه في المناطق الخاضعة للسلطة الوطنية ، أي في المحافظات الأخرى للضفة الغربية المحتلة ، بداء بتحرير سجل السكان وسجل الاراضي من سيطرة الكومبيوتر الاسرائيلي في بيت ايل ، مرورا بمد ولاية المحاكم الفلسطينية لتشمل جمع المقيمين على اراضي دولة فلسطين تحت الاحتلال وانتهاء بمقاطعة منتجاته وبدء مقاطعة الادارة المدنية وما يسمى مكتب منسق المناطق بخطوات تدريجية ، خاصة امام المخاطر المحدقة إذا ما تولى بتسلئيل شؤون الادارة المدنية وما يسمى المنسق .
ندرك ان ذلك ليس بالأمر السهل ، خاصة في ظل الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي وما ترتب عليها من التزامات مذلة ومهينة فرضتها تلك الاتفاقيات على السلطة الفلسطينية . غير ان ما يدفعنا للضغط في هذا الاتجاه هو الحقيقة الماثلة للعيان وهي ان الجانب الفلسطيني وحده ما زال مقتنعا بأن تلك الاتفاقيات ما زالت قائمة بينما تؤكد الحياة والوقائع اليومية ان اسرائيل تحللت تماما من التزاماتها في هذه الاتفاقيات ، منذ اعلن دوف فايسغلاس ، مستشار رئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق ارئيل شارون قبل اكثر من عشرين عاما ان تلك الاتفاقيات لم تعد قائمة وان اسرائيل تحتفظ بها في مادة الفورمالين كي لا تتعفن وتفوح رائحتها ، على حد تعبيره .
وخطوات كهذه ليست بالأمر السهل امام التوقعات بالضغوط التي سوف تمارس على الجانب الفلسطيني من الادارة الاميركية وغيرها من الحكومات بما فيها حكومات في دول الاتحاد الاوروبي وحكومات في المنطقة ، التي ترى ان الحفاظ على الوضع القائم هو خيارها الجوهري وأن إدارة أزمة العلاقة مع الاحتلال هو المتاح في الظروف الراهنة . غير أن حسابات المصالح الفلسطينية غير حسابات مصالح تلك القوى الحكومات ، بعد ان أصبح الجانب الفلسطيني يقف وظهره الى الحائط أمام انسداد آفاق التسوية السياسية للصراع مع الاحتلال . وعندما يكون الأمر كذلك ، وهو كذلك بل أسوأ على كل حال في ظل صعود اليمين الفاشي الى السلطة بعد انتخابات الكنيست الخامس والعشرين في نوفمبر الماضي وبعد تشكل حكومة في اسرائيل يمينية متطرفة وفاشية ومنسجمة في توجهات أطراف الائتلاف المكون لها ، فإن إدارة الصراع مع الاحتلال بنفس الوسائل القديمة تصبح عديمة الجدوى وعبئا على المصالح الوطنية الفلسطينية يجب التخلص منه . عندما يبلغ التناقض في المصالح السياسية الوطنية والمصالح المادية بين الاحتلال والشعب المحتل ذروته ، يجب البحث في روافع جديدة تجعل الاحتلال مكلفا للمحتل بتطوير المقاومة الشعبية بكل أشكالها وصولا الى العصيان الوطني باعتباره الخيار الوطني ، الذي يوحد الشعب بجميع قواه وفئاته وطبقاته الاجتماعية وتهون أمامه التضحيات .