حين وصلت أنباء الإبادة التي ارتكبها داعش بحق الأيزيديين في شنگال (سنجار) فجر الثالث من أغسطس/ آب 2014 إلى الأيزيديين في قرية كوجو النائية، كان الوقت قد أصبح متأخراً جداً على الهرب. لم يعد بإمكان سكان كوجو الفرار إلى جبل شنگال ملاذ أبناء الديانة الآمن على مر العصور.
وحين وصلت أولى سيارات الدفع الرباعي التي تقل العشرات من مسلحي داعش في العاشرة صباحاً من اليوم ذاته إلى أطراف القرية، كان القلق والخوف يسيطران على أبنائها. عدد قليل منهم هرب باتجاه الجبل، فيما أغلق الباقون أبواب بيوتهم منتظرين معجزة الإنقاذ، ومتتبعين أخبار الهجوم الشرس على شنگال عبر وسائل الاعلام.
“توقفت سيارات التنظيم المتشدد على أطراف القرية لتغلق الطريق أمامنا باتجاه الجبل”. بهذه الكلمات وبتنهيدة طويلة وصوت مُنهك بدأت الناجية جميلة (اسم مستعار) ابنة أحد شيوخ كوجو تروي حكاية القرية التي قتل داعش جميع رجالها وسبى واسترق نساءها وأطفالها دون استثناء.
تقع قرية كوجو إلى الجنوب الغربي من مدينة شنگال ، وتبعد عن مركزها قرابة 20 كيلومتراً. يبلغ عدد سكانها نحو 1700 نسمة يعيشون على الزراعة وتربية الحيوانات. تحيط بكوجو القرى العربية من ثلاث جهات باستثناء الجانب الشمالي منها، حيث تقع قرية الحاتمية الأيزيدية على بُعد 5 كيلومترات عنها ويبلغ عدد سكانها نحو ألفي نسمة.
حصار قرية كوجو
بعد أن تمركزت سيارات داعش رباعية الدفع على أطراف كوجو توجهت إحداها، وهي تحمل “وفداً تفاوضياً” يترأسه أبو حمزة أحد أمراء داعش إلى ديوان مختار القرية أحمد جاسو.
طمأن أبو حمزة مختار القرية وأبلغه أنه “لن يتم التعرض لأي من سكانها بسوء، شرط تسليم جميع الأسلحة الموجودة في البيوت وبقاء السكان في منازلهم”. وافق المختار على شروط داعش وطالب الأهالي بتسليم السلاح بالكامل لأعضاء التنظيم.
وبينما كان التنظيم منشغلاً بجمع الأسلحة من بيوت القرية كان مختارها، كما تقول جميلة، “يتصل بكل من يعرفهم سواء في حكومة بغداد أو حكومة الإقليم وكذلك شيوخ العشائر العربية المحيطة، والذي تجمعنا بهم روابط اجتماعية متينة ممتدة لعشرات السنين لإنقاذ سكان القرية من مصير مجهول ينتظرهم”.
“حصل المختار على تطمينات من بعض شيوخ القرى ووعدوه بتوفير الأمان”، تضيف جميلة. وفي اليوم التالي، “ضرب داعش طوقاً حولنا وبقينا محاصرين لعدة أيام في حال من القلق الدائم رغم وعود الأمان، فأخبار القتل والاختطاف كانت تصل لنا عبر وسائل الإعلام وعن طريق الاتصال مع الأقارب الذين يعيشون خارج القرية”.
خلال الأيام القليلة، التي حوصرت فيها قرية كوجو، كانت مناطق أيزيدية أخرى تتعرض إلى عمليات قتل وتشريد شملت أكثر من 250 ألف نسمة من سكانها.
يقول مسؤول مكتب شؤون المختطفين الأيزيديين حسين كورو ، إن التنظيم المتشدد قَتل في الأيام الأولى من الهجوم 1293 أيزيدياً أغلبهم من الرجال، ودفن القتلى في أكثر من 80 مقبرة جماعية على أطراف البلدات والقرى التي تمت سرقتها وحرق منازلها أو تفخيخها وتفجيرها. كما قام التنظيم بتفجير 68 مزاراً أيزيدياً. ثم اختطف 6417 أيزيدياً، هم من تم إحصاؤهم، مقسمين إلى 3548 من الإناث بمختلف الأعمار والحالات الاجتماعية ، و2869 من الذكور.
الانضمام إلى داعش أو الموت
عاد أبو حمزة إلى القرية بعد عدة أيام من تسليم الأسلحة، كما تروي ابنة الشيخ : “كانت لهجته مختلفة هذه المرة، وتم تخيير السكان بين الانضمام إلى داعش والعيش تحت حكم شريعتهم مقابل الإبقاء على حياتهم ، أو الموت”.
صَدَم الطلب أحمد جاسو وحاول كسب بعض الوقت عبر “مهلة لعدة أيام بغية عرض الموضوع على سكان القرية وأخذ رأيهم. وخلال تلك الأيام حاول بكل الوسائل إيجاد طريقة آمنة للهروب. واتصل بجميع أصدقائه هاتفياً، لكن لم يساعده أي أحد”.
ولأن قرية الحاتمية القريبة كانت هي الأخرى تمر بظروف كوجو ذاتها، “تواصل شيوخ القريتين عبر الهاتف وطلبوا من مختار القرية تحديد موعد للهرب خلسة، إلا أن قرية كوجو كانت تحت المراقبة الشديدة بعد العرض الذي قدمه أبو حمزة للمختار”.
بعد انتهاء المهلة، حضر أبو حمزة من جديد إلى منزل المختار الذي أبلغه “أن الأيام القليلة الماضية كانت غير كافية لإقناع جميع سكان القرية بالانضمام إلى داعش، وأنه بحاجة للمزيد من الوقت”. كان رد أبو حمزة على المختار غير متوقع فقد قال إنه في حالة رفض سكان القرية عرض التنظيم، فإنه سيتم إجلاؤهم من القرية إلى جبل شنگال.
لكن بعد بضعة أيام نفذ سكان قرية الحاتمية خطتهم بالهرب خلسة تحت جنح الليل “ونتيجة لذلك حضر أبو حمزة إلى ديوان مختار كوجو وكان شديد العصبية ، واتهمه بالتواطؤ مع سكان الحاتمية للهرب، وقال إن ما حصل لن يمر دون عقاب”. كل ما تمكن المختار من فعله “هو التحجج بعدم علمه بسلوك أهالي قرية الحاتمية وأنه لم يبلغه أحد بنواياهم”. لم يقتنع أبو حمزة بكلام المختار “وخرج من الديوان وهو في أشد حالات الغضب”.
عفو عام
مرت عدة أيام من الرعب التي عاشتها مختار القرية وسكانها وهم يتوقعون إبادتهم في أية لحظة، قبل أن يعود أبو حمزة إلى ديوان المختار. كان ذلك في صبيحة الـ 15 من أغسطس 2014، أي بعد 12 يوماً من مجزرة شنگال . لكنه كان هذه المرة “هادئاً ومرتاحاً بشكل كبير ومبتسماً”، كما يقول كمال (اسم مستعار) أحد أحفاد المختار أحمد جاسو.
اجتمع أبو حمزة مع وجهاء القرية في ديوان المختار “وأبلغهم أن التنظيم أصدر عفواً عاماً عن سكان القرية وإنه سيتم إجلاؤهم إلى الجبل”. لم يكن لدى التنظيم سوى شرط واحد: “الحصول على الغنائم”.
لأجل تحقيق الشرط، “طلب أبو حمزة من المختار وسكان القرية التوجه إلى مدرسة كوجو مصطحبين معهم كل ما يملكون من أموال وذهب وهواتف نقالة وسيارات” يوضح كمال.
ويضيف: “فرح أهالي القرية بخبر إصدار العفو والإجلاء. ونفذ الجميع أوامر التنظيم واتجهوا إلى المدرسة وطُلِب من الرجال البقاء في الطابق الأرضي، فيما صعدت النساء مع أطفالهن إلى الطابق الأول”.
“أنا كنت مع والدي وجدي في الطابق الأرضي. كان هناك أكثر من 100 مسلح بعضهم معروفون لنا طلبوا منا الجلوس على الأرض”، ثم وصل أبو حمزة إلى المدرسة. وقال: “نحن لم نأت لنؤذيكم. وإذا كنتم لا ترغبون بالانضمام لنا، فسوف نأخذكم إلى الجبل ولن يتعرض أحد لكم، فقط نأخذ الأموال والذهب والسيارات كغنائم”، ثم طلب ممن يرغب بالبقاء معه رفع يده “لم يرفع أي من الرجال يده، فلم يكن لدى أي منهم الرغبة بالبقاء”.
طلب عناصر داعش من الجميع إعطاء كل ما بحوزتهم من أموال وذهب ومفاتيح السيارات دون استثناء “حتى الحلق الذي ترتديه الفتيات الصغيرات وخواتم الزواج ، البعض تردد ولم يرغب بإعطاء مفاتيح سياراتهم فصرخ جدي قائلاً: أعطوهم كل ما يريدون فقط نريد النجاة بأرواحنا”.
وتقول جميلة أن مختار القرية “طلب من أكبر بناته سناً التقدم أولا لمنح داعش ذهبها. كانت تمتلك حزاماً من الذهب أعطته لأفراد التنظيم المكلفين بجمع المصوغات من النساء، فطلب منها والدها نزع خاتم زواجها والحلق الذي ترتديه هي وابنتها أيضاً”. وطلب منها “توجيه النساء بإعطاء كل ما يمتلكن وإلا سيتم تفتيش النساء والفتيات وستعاقب من تخبئ أي ذهب أو مال”. وختم كلامه بجملة “أعطيهم كل ما يريدون الله يرضى عنكم”.
أعلن التنظيم عن طريقة إجلاء سكان القرية المتجمعين في المدرسة إلى الجبل :”أولاً كبار السن من الرجال لتجنيبهم تعب الانتظار الطويل، ثم رجال القرية كونهم رفضوا الانضمام إلى داعش ويخشى التنظيم منهم بداية من سن 15 عاماً فما فوق ويبلغ عددهم 480 رجلاً”، وبعد ذلك “يبدأ إجلاء النساء مع الأطفال وكان عددهم يتجاوز 800 شخص إلى الجبل لتلتقي العوائل مع بعضها هناك ولا يعود الرجال يشكلون خطراً على التنظيم”.
أجلى داعش الرجال جميعهم باستثناء مختار القرية، الذي بقي بصحبة أبو حمزة في مدخل المدرسة.
وبعد ذلك بدقائق، كما تقول ابنة الشيخ، “سمعنا صوت إطلاق نار كثيف وبعيد، سألنا أحد عناصر التنظيم فقال إنهم أطلقوا النار على الكلاب السائبة بعد أن هاجمتهم في الطريق”.
الخدعة
كان إدريس بشار قد انتصفت به الأربعون، وله زوجة وخمسة من الأبناء الذكور، حين اقتاده مسلحو داعش ضمن وجبة الإجلاء الثانية رفقة ولده الأكبر ذو الـ17 عاماً، والذي كان طالباً في المدرسة ذاتها التي تم احتجاز أهالي قرية كوجو فيها.
يقول إدريس ، إنه حتى تلك اللحظة “لم يكن واثقاً من كلام أمير التنظيم أبو حمزة. وكان الجميع في حال من القلق مع ذلك لم نكن نمتلك أي خيار آخر”، لكن الشك تحول إلى يقين “حين خرجنا من حدود القرية لتغير السيارة طريقها من اتجاه جبل شنگال إلى بستان بعيد”.
أوقف السائق سيارته المحملة بأضعاف قدرتها من الرجال “وطلب منا أفرادُ التنظيم الترجل والاصطفاف وظهورنا إلى مجموعة من عناصر التنظيم، بعضهم كان يحمل رشاشات بين يديه، والبعض الآخر اعتلى سيارات عسكرية ومدنية رباعية الدفع مثبت عليها أسلحة أُحادية”.
للحظة نسي إدريس أنه مرت على تلك المجزرة البشعة 8 أعوام، وبدا وكأن رعب لحظة الإعدام حاضرة مع تشنجات وجهه واتساع عينيه اللتين امتلأتا بالدموع، ليكمل حكايته: “أصبحنا نعرف أنه تم خداعنا واقتيادنا إلى فخ لإعدامنا”.
وما إن اصطف الجميع كما طلب منهم حتى ارتفعت أصوات الرصاص، “ولغاية هذه اللحظة ما زلت أسمع صدى وقوع خراطيش الرصاص على الأرض، وصرخات الموت الأخيرة وتكبيرات الدواعش ونحن نتساقط في حفرة أعدت مُسبقاً لتكون مقبرة جماعية لنا”.
كانت خدعة خبيثة، ما سمعته النساء والأطفال في المدرسة لم يكن صوت إطلاق رصاص على الكلاب السائبة، بل عملية قتل رجال القرية. لم يكن في نية التنظيم إجلاء الرجال إلى الجبل أولا، كما قال، بل فقط خدعة ماكرة لفصلهم عن النساء والأطفال وقتلهم في مكان بعيد.
لم يكن إدريس يعرف حجم إصابته فالدماء والجثث كانت تحيط بجسده من كل جانب “إحداها كانت جثة ابني ذي الـ17 عاماً، والذي كان حينها طالباً في الصف السادس الإعدادي”.
وحين بدأ عناصر التنظيم بالبحث عن ناجين أدرك إدريس أن نهايته اقتربت ولم ينقذه سوى “هدير الطائرات في السماء التي أجبرت أفراد التنظيم على الانسحاب من الموقع”، ليسمع بعدها أصوات بعض الناجين من حفلة الإعدام الجماعي ويزحف بصعوبة رفقة خمسة آخرين إلى خارج الحفرة وصولاً إلى أحد البيوت القريبة المهجورة.
معجزة الشفاء
كان إدريس مصاباً بأربع رصاصات، إحداها اخترقت عظمة ساقه، وتسببت اثنتان بجرح في رأسه ورقبته. كان الجرح خارجيا لحسن حظه. أما الرابعة فاستقرت في خاصرته “كانت نجاتي معجزة حقيقية لشدة الإصابة، حتى أني بعد وصولي للمنزل المهجور طلبت من باقي الناجين الهروب وتركي لأني سأعرقلهم فلم يكن لدي أمل بالبقاء على قيد الحياة”.
أشرقت شمس اليوم التالي وزادت فرص نجاته. “قررت الزحف إلى قرية عربية ليست بعيدة عن المكان، وبعد أربع ساعات وصلت وطلبت المساعدة وهناك تكفلت إحدى العوائل بعلاجي رغم مخاوفهم من التنظيم الذي كان يعاقب بقسوة كل من يساعد الأيزيديين الهاربين”.
ورغم تضميد جراحه، إلا أن حالته بدأت تسوء بعد عدة أيام، خصوصاً الكسر الذي كان يعاني منه في إحدى ساقيه ليقرر رب العائلة أخذه إلى الموصل للعلاج.
يقول إدريس إن رب العائلة “جاء بملابس تشبه الزي الأفغاني الذي يرتديه أفراد التنظيم، وكانت لحيتي طالت حتى أصبحت أشبههم في الشكل، لذلك كان دخولي إلى المستشفى للعلاج سهلاً”.
ونتيجة لاعتقاد كادر المستشفى أنه أحد عناصر داعش المصابين في القصف، حصل على العلاج اللازم لجميع جروحه وبقي لأكثر من يومين وسط الدواعش ملتزماً الصمت بحجة الجرح في رقبته كما أوصاه منقذه.
اللحظة الأكثر اضطراباً التي عاشها إدريس في المستشفى، كانت حين زار أحد قادة داعش المكان للاطمئنان على المصابين ورفع روحهم المعنوية، ومنحهم مبلغ مئة دولار لكل مصاب. حينها “كان تفكيري بأكمله منصباً على فكرة واحدة وهي البقاء حياً والعثور على زوجتي وأطفالي الذين بقوا في مدرسة كوجو ولا أعرف مصيرهم”.
المختار أحمد جاسو
أعطى أبو حمزة أمير داعش نفحة من الأمل في قلوب أهالي قرية كوجو بأن الخلاص بات وشيكاً، بعد الاستيلاء على جميع المصوغات الذهبية والأموال والسيارات، وبدء عملية إخلاء الذكور الوهمية بسيارات حمل كبيرة على شكل وجبات متتابعة إلى جبل شنگال.
كانت عائلة أحمد جاسو ضمن الوجبة الأخيرة التي تم إجلاؤها من مدرسة القرية. “كنت متمسكاً بيد والدي وخرجت برفقته”، يقول كمال الذي كان بعمر 12 عاماً حينها. “لكن أحد المسلحين أوقفني وقال ارجع إلى المدرسة أنت صغير في السن”، وعندما حاولت التشبث بوالدي “أشهر الداعشي سلاحه في وجوهنا ثم دفعني بقوة باتجاه البناية، فعدت إلى الداخل بإيعاز من والدي الذي أمرني بالعودة والبقاء مع والدتي”.
لم يبق من رجال القرية أحد سوى مختارها أحمد جاسو. تقول جميلة إنها رأت عنصرين من داعش صغيري السن يتوجهان إلى المختار وهو جالس على كرسي في غرفة إدارة المدرسة. وضع أحدهما يده على كتفه وقال ” يا الله شيخ. جاء دورك”.
نهض المختار مُرهقاً وممتثلاً لأوامر مراهقين لا يتجاوز عمرهما 16 عاماً. بحسب شهادة حفيده “أمسك الثاني بيده وكان جدي يرتدي خاتماً فأخرجه من إصبعه وسار معه باتجاه الباب الخلفي للمدرسة، وكانت هذه آخر مرة أراه فيها”.
حين تحول الموت إلى أمنية
عندما كانت ابنة الشيخ تنتظر مع بقية النساء إجلاءهن أُسوة برجال وشباب القرية، عاد أحد الأطفال الذي أخذ خطأ مع وجبات الإعدام وهو يصرخ: “إنهم يقتلون الرجال” في ذلك الوقت “رفضنا التصديق”. تقول ابنة الشيخ موضحة: “كيف يمكن أن يتم قتل مئات الرجال دفعة واحدة؟”.
قال لنا عناصر التنظيم “الطفل واهم نحن أطلقنا النار على الكلاب السائبة وهو اعتقد أننا قتلنا الرجال”.
تطلب إجلاء الرجال ساعتين من الزمن. وحين فرغ الطابق الأرضي بالكامل “قيل لنا أن الرجال وصلوا إلى الجبل، وبانتظارنا، وهكذا صعدت النساء مع الأطفال إلى السيارات، وكنا نعتقد أنه سيتم إطلاق سراحنا، لكن عندما توجهت المركبات إلى معهد صولاغ (معهد طبي تقني في قرية صولاغ على أطراف شنگال) بدلاً عن الجبل، عرفنا أن لا هرب من قبضتهم”.
عندما توقفت السيارات عند بناية المعهد في صولاغ “كنا خائفين ولا نعرف مصيرنا”، يقول حفيد المختار أحمد جاسو الذي رافق والدته في رحلتها الطويلة إلى السبي الداعشي. “على باب المعهد كانوا يفتشون النساء ويفرزون بين الكبيرات في السن والصغيرات”.
وحين حل الليل أعلن أفراد التنظيم أنهم سيوزعون الطعام. وعلى هذا الأساس “وضعت الأمهات مع اولادهن الصغار حتى سن خمس سنوات في غرف، والفتيات بلا أبناء في غرف أُخرى، ثم الذكور من عمر خمس سنوات فما فوق معاً”.
لم يتصور أحد أن يكون هذا التقسيم خدعة جديدة.
“بقي الذكور في الغرف نحو ساعتين ثم جاء عناصر التنظيم بعد منتصف الليل وطلبوا منا النزول إلى ساحة المعهد لتقديم الطعام”، لكن ما إن وصل الجميع إلى الساحة حتى تم “اقتيادهم إلى باصات كبيرة ونقلهم إلى الموصل و تلعفر”.
لم يكن كمال من بين من تم اقتيادهم إلى تلعفر، فقد فضل التنظيم الاحتفاظ به لهدف آخر.
وهكذا انفرد التنظيم بنساء كوجو وأطفالهن الصغار في بناية المعهد، ليبدأ فصل جديد من المأساة.
في تلك الليلة، تقول ابنة الشيخ، “كنا نتمنى لو تم قصفنا جميعاً في المدرسة وقتلنا، على أن نرى أبناءنا ورجالنا يتم اقتيادهم أمام أعيننا لتنفيذ حكم الإعدام بهم”، وحتى بعد أن عرفنا أنه تم قتلهم “كان يتم التلاعب بنا بالقول إنه لم يتم قتلهم جميعاً، ليدب الأمل من جديد في قلوبنا، ثم يأتي من يسخر منا ويقول لم يعد لكم رجال أنتن جميعاً لنا الآن”.
مقبرة الأمهات في صولاغ
حل الصباح على نساء كوجو المفجوعات، طلب التنظيم من كبيرات السن التوجه إلى ساحة المعهد للتشمس والتمشي وتناول الطعام. كانت والدة ابنة الشيخ وعمتها من ضمنهن: “تجاوز عددهن 80 امرأة، وبعضهن لم يصلن إلى سن الخمسين بعد”. مرت عشر دقائق على خروج الأمهات “سمعنا صوت رصاصتين أو ثلاثة فقط، ولم تعد أي منهن إلى المعهد من جديد”.
لاحقا، عرفنا أنه “تم اقتياد الأمهات خارج أسوار المعهد، ودفنهن احياء في حوض أسماك بمزرعة غير بعيدة. أما الإطلاقات النارية التي سمعناها فكانت لترويعهن” تقول ابنة الشيخ بحزن واضح.
منذ ذلك اليوم تقول ابنة الشيخ “كان أفراد التنظيم يصلون إلى المعهد على شكل مفارز، ويدخلون إلى غرف المعهد ويسحبون أي فتاة يرغبون بها، والتي ترفض يتم سحلها وضربها حتى تكاد تفقد الوعي”. فيما تم “أخذ الاطفال جميعهم إلى مراكز التدريب، وغسل أدمغتهم إلى درجة تحويلهم إلى انتحاريين فجر بعضهم أنفسهم على القوات الأمنية”.
أما بنات شيوخ القرية “فتم توزيعهن بين أمراء داعش وتشتت الجميع ما بين الموصل وتلعفر والرقة، بعضهن قُتلن خلال محاولاتهن الهرب من قبضة التنظيم، أو خلال استهداف قوات التحالف لبيوت أمراء التنظيم”.
أما كمال، فكان مع والدته من حصة أحد قادة داعش الذي أخذه إلى المعهد الشرعي في تلعفر بعدها، حيث ظل سنوات في قبضة التنظيم.
وفي عام 2017، حُررت ابنة الشيخ مع اثنين من أولادها الخمسة فقط من السبي (أعدم اثنان آخران مع زوجها وقتل الثالث في قصف لمنزل أمير داعشي)، وتم تحرير كمال حفيد المختار بعد تجنيده في مراكز التدريب التي خصصها داعش للأطفال، كما تم تحرير 3 من أبناء الناجي إدريس بشار الذي تمكن من إعادتهم بعد أن قضى عامين كاملين في البحث.
ولم يعد أي من الناجين إلى كوجو التي تحولت إلى قرية أشباح.