نار نوروز رمز من رموز الحرية، نوره تنير دروب الثورات على الظلم والاستبداد، من لهيبه ينبت الطموح الدائم نحو الحضارة، سماته النقية جعله عيداً حيا طوال القرون رغم معاداة الأديان وتجاوزات الأنظمة ضده، أستمر يحمل طاقة للإنسانية ما لا تحمله وتتحمله معظم الرموز الدينية الأخرى، ومن ضمنها السماوية.
تراجعت العلاقة الجدلية بين نوروز والروحانيات الإلهية مع مرور القرون العديدة، لتسود مكانها السمات السياسية والثقافية إلى أن أصبح يوم ساطع مليء بحوادث التاريخ، وأخرها حادثة شهداء جنديرس، لذلك ظل الشعب الكوردي بشكل خاص، يحتفل فيه وبه، ويحافظ على سماته إلى جانب ما تعكسه خصوصية اليوم كبداية لوالدة الحياة الجميلة كل سنة، طوال التاريخ الماضي، وهو ما أدى إلى أن يتحول إلى رمز للشعوب التي تطالب بالحرية والاستقلال، ويعكس مطالب الأمم المعانية من الظلم كالشعوب السورية، فقد كان حريا بالمجتمع السوري ومعارضته الوطنية، الاحتفال بنوروز مع الشعب الكوردي، ليدركوا ماهيته وما فيه من بعد فكري والتي بوجه من أوجهه يعكس شعار إسقاط النظام.
فعندما أدركت الأنظمة المحتلة لكوردستان تأثير القوة الروحية لناره، نبهت المنظمات التكفيرية إلى مفاهيم عيد نوروز ووجه الثوري، والتي وجدتها تعري منهجيتهم وفسادهم وخيانتهم للشعوب السورية، فاستخدموا العنف لمنع الاحتفال به، وأجرموا ليس فقط بحق المحتفلين؛ بل بكل من يدرك سماته الروحية والمادية، وشهداء جنديرس هم ضحية هذا الصراع، الصراع بين النور والظلام، بين الحرية والاستبداد، بين المعرفة والجهالة، بين المحتلين والمدافعين عن الوطن.
الاحتفالات بعيد بنوروز تستمر حسب التاريخ لأسبوع أو أكثر قليلاً، وإن كنا اليوم نقتصرها بساعات، فأفراحه والاحتفال به تقع خارج الأبعاد الروحية الدينية، يرسخ الروح الإنسانية، ومعاني إشعال نارها أبعد وأعمق من مجال ومفاهيم العبادات الوثنية كما يدعيها الجهلاء بالتاريخ، فجل العبادات الدينية لا تقف على يوم، أو أسبوع، مثل عيد نوروز، بل تظل مستمرة وتختم عند النهاية بعيد، يطرح من خلاله المفهوم العبودي، ولا تحتضن سمات التطور والانتقال من منطق العبودية إلى الحرية كما يحمله عيد نوروز، الجدلية التي تختصر في اليوم والفصل وفي شعلة ناره، والتي تختلف عن أعياد الديانات السماوية، التي لا تتجزأ عن العبادة للخالق، ويتم تناسي مآسي الإنسان، وظلم الطغاة، وفجور الأنظمة السياسية. فالصيام يختم بعيد رمضان، وعيد الأضحى يكون بعد انتهاء شعائر العبادة الوثنية، وحيث الطواف حول الحجر الأسود، والذي قال فيه عمر بن الخطاب كلمته المشهورة، بعدما طاف: ” إني لَأعلَمُ أنك حجر لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيتُ رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – يقبِّلك ما قبَّلتك “. وكل هذا لا علاقة للإنسان على الأرض به.
فما بين عيد نوروز والأعياد السماوية، وناره والحجر الأسود، طموح فكري وعبادة مخفية، لا فرق بينهما إلا في سماتهما الجدلية، الأولى ثورة فكرية ومادية وفي طياتها الكثير من الروح الإنسانية علاقته مع الأرض مباشر، نوره وأفكاره موجه ضد الطغاة، أما الثانية عبودية للخالق وتناسي المستبدون على الأرض، أستمرت دون تطور رغم مرور القرون وتغيير الثقافات وظهور الحضارات العصرية، والله غني عن أن يكون الإنسان عبدا ذليلا لحجر صامت يرى الإنسان من خلاله ربه، ويرى فيه المستبدون في العالم الإسلامي غطاء للتغطية على مظالمهم.
فما أقدم عليه مجرمو أحرار الشامية، مبني على الجهالة الدينية والثقافية والتاريخية التي تقرأ رموز وأعياد الإسلام بجمود مطلق، وخلف جهالتهم تقف الأنظمة الإقليمية، فجريمتهم بحق من كانوا يشعلون نار الحرية في مدينة جنديرس، كانت لحماية الطغاة الذين يجمدون الإسلام لتظل صالحة لمصالحهم، ويحاربون بهم الثورات في المنطقة، ومنها الثورة السورية التي ضاعت بأياديهم، وبأفعالهم، وبمخططات أولياء أمرهم، قادة الدول المعنية بالقضية السورية.
جريمة مدينة جنديرس الكوردية، تعكس الصراع الفاضح ما بين الروحانية النقية والجهالة بالأديان والتاريخ. فهناك عتم فكري يسود معظم المنظمات المعارضة العسكرية السورية، تؤدي بهم إلى الأحكام الفاسدة، والتي تغيب عنهم، معاني الاحتفال بعيد نوروز، حيث مباهج الحياة، وظهور جمال الطبيعة، وبداية الحياة في كل سنة، وما تعكسه من الرموز الإنسانية العديدة، كالحرية، والحب، والطموح، ومساعدة الشعوب المظلومة، والعائلات المعانية، وغيرها، بعكس ما يعنيه العبادة على حائط المبكى، أو تقبيل الحجر الأسود القابع في زاوية الكعبة والذي لا يزال الاختلاف موجودا حول قدسيته الإلهية أو تطويره من صنم سابق إلى رمز ديني إسلامي، وحسب شعائره، الذي لم يتم تطويره مع القرون من سمة الأصنام السابقة التي كانت هناك قبل الإسلام، إلى رمز إلهي ضد الجهالة والعنصرية والاستبداد على الأرض، كما هي عليه اليوم عيد نوروز بناره، وللأثنين طقوس قداستهم، لكن نوروز تطور ليظل على الأرض ومع الإنسان، والثانية ظل مع السماء، لم يحاول أو يتمكن الفقهاء وأصحاب الفتاوى تثقيف الجهلاء الذين كانوا وراء جريمة جنديرس أو الحثالة التي نفذتها، بأن عيد نوروز أعمق وأنسب من مناسك الحجر الأسود للأرض والإنسان، فلا حاجة لله بالإنسان وخدماته.
لا شك هذه الجدلية ستدرج ضمن خانة الكفر، طبعا الكفر حسب مفاهيم المجرمين التكفيريين، الخانة التي دفعت بمرتزقة أحرار الشامية القيام بالجريمة الشنعاء، تحت غطاء الكفر، وكأننا أمام أول أيام الغزواة، فسقطت عائلة جنديرس شهيدة حول رمز الحرية، بأيادي الأوباش الجهلاء التكفيريين، الذين لا يقبلون التطوير والتحليل والنقاش، لقنوا بأبعاد روحية موبوءة، ومفاهيم غارقة في الجمود، وحيث النقل دون العقل، تخلف مطلق رغم تتالي الحضارات.
على الأرجح أن أغلبية الأمة الإسلامية لا تعرف على أن القرامطة الذين كانوا يحتفلون بعيد نوروز، مثل العديد من الخلفاء الأمويين والعباسيين والفاطميين، وألغيت في عصر الأنظمة العنصرية، رغم أنهم كانوا مسلمون زهاد، تجاوز القرامطة الجميع، ورفضوا عبادة خارج العبادة الروحية لله، فمنعوا التوجه نحو الكعبة وعبادة الحجر الأسود، لأنها في عرفهم كانت شعائر لا تختلف عن عبادة أي صنم، فضلوا التوجه إلى رب يحكم الكون على العبادة من خلال مناسك الكعبة. مع ذلك ظلوا يحتفلون بيوم نوروز مع اختلاف في التقويم المختلف حينها عن التقويم الميلادي الحالي. التأويلات التي لاحقت ثورة القرامطة والتي دامت قرابة نصف قرن، بعدما تم القضاء عليهم، شوهت تلك المفاهيم، وأزال الحكام ادبياتهم وتفسيراتهم للإسلام ومحاولاتهم عزل الروحانية عن العبادة المادية، فعلوها لئلا تضيع مكانة مكة والتي عليها تقف عزة العرب.
كثيرا ما أتذكر مقولة لأحد المصريين الغلابة، قبل عدة سنوات، عندما قال من على قناة العربية “ديمقراطيتنا تشبه أصنام الجاهليين، يأكلونها عندما يجوعون” وهكذا مرتزقة المنظمات العسكرية وقادتهم التكفيريين، أكلوا الثورة السورية، ومفاهيم الوطن، والتعايش بين الأديان والقوميات، عندما أجاعهم أردوغان ودولة قطر، وبدأوا يصنعون أصنام جديدة بدل مفاهيم الثورة السورية، فكان أردوغان وأمير قطر في قمة أصنامهم، يهرعون إليهم ويبرزون الذات أمامهم، ويبينون قوة حضورهم، وعلى أنهم قادرون ومستعدون لتنفيذ كل ما يطلبون منهم، يجرمون، ويخلقون الفوضى، ويطرقون الأجراس لهم، على أنهم أدوات عند الطلب، يصعدون في بشائعهم كلما شعروا بأن المساعدات ستقطع عنهم، أو عليهم أداء مهمة، والجريمة الأخيرة كان بأمر من أردوغان الذي طلب الطعن في التاريخ والثقافة الكوردية وإلا فسيتاجر بهم مع النظام في موسكو.
فجريمتهم بحق أبناء جنديرس، كان أمراً، كبداية لتنفيذ المخطط الذي سيدرس في موسكو عند اجتماع وزراء خارجية الدول الأربع، وتبيان مدى قدرتهم على الطعن في الرمز الكوردي، وإن كانوا على مقدرة لأضعاف الكورد وتدمير رموزهم وعزلهم عن الساحة السورية، إلى جانب خلق شرخ جديد بين المكون العربي المهاجر إلى منطقة عفرين وأبناءها الكورد، لتسهل للدول الراحلة إلى التطبيع إلغاء الحضور الكوردي من قادم سوريا.
والسؤال:
هل أخطأت الدول الثلاث المعنية بالقضية السورية، ومعهم موسكو، في العملية؟
أم كان هذا هو المطلوب؟ لإلهاء الفصائل التكفيرية، بالصراع الداخلي وتناسي ما يجري في الأروقة الدبلوماسية حول التطبيع مع النظام والاتفاق على صفقة الإتجار ببعض المنظمات التي يجب أن تزال من على الساحة.
وفي البعد المعيشي، التعتيم على مآسي الزلزال، لتضييع النهب الجاري في المساعدات التي ترسل إلى جنديرس وعفرين، وتوزيع القادم منه على مرتزقتهم.
والأهم:
رسالتي لكل من يقف وراء الجريمة والذين أمروا بتنفيذها ولمنفذيها ومؤيديهم، أن يعلموا أنهم سيفشلون كما فشل قبلهم الكثيرون، مهما أبشعوا وأجرموا وحاولوا الانتقاص من رمزية عيد نوروز، ومحاولة فصل الكورد عن سماته السامية، وتخويف الشعب الطامح إلى الحرية، عمل أخرق، فعيد نوروز بناره سيظل وفي شهره النابض خالداُ لدى الشعب الكوردي، وقريبا ستقتنع الشعوب بعظمة سمات هذا العيد.
المجد لشهداء نوروز، وآخرهم شهداء جنديرس.
الخزي والعار للقتلة، والمجرمين، وجهلاء الأديان، والتاريخ.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
26/3/2023م