السبت, نوفمبر 23, 2024
Homeمقالاتجوبلين بحري رواية وطن : زياد جيوسي

جوبلين بحري رواية وطن : زياد جيوسي

هذه الرواية هي الإصدار الثاني للكاتبة الفلسطينية دعاء زعبي المقيمة في الناصرة المحتلة عام النكبة 1948م، وسبق أن تشرفت بقراءة كتابها الأول “خلاخيل” والكتابة عنه، وهذه الرواية الأولى لها صادرة عن دار ورد للنشر والتوزيع في دمشق عام 2021 م تقع في 200 صفحة من القطع المتوسط وتصميم الغلاف من تصميم الفنان الشاب ورد حيدر، وهو عبارة عن مشهد لمفاتيح العودة التي ارتبطت بالتهجير القسري لأبناء فلسطين بالقوة والمجازر ورمزيات من ذاكرة الفلسطيني كطابع بريدي مختوم بكلمة يافا وريشة كتابة وأطراف لصور فوتغرافية، بينما الغلاف الخلفي ضم تعريف بالرواية للأستاذ المرحوم حيدر حيدر وصورة الكاتبة على خلفية لصورة تراثية من يافا، وكان الإهداء برمزية للشعب وبقيته لأرواح أمها وأبيها، مع ملاحظة أن الكاتبة تميزت باختيار العنوان للرواية فالجوبلين هو فن قديم يتم من خلاله نسج لوحات فنية يدويا أو على النول تزين الجدران الداخلية للبيوت وأخذ اسمه من عائلة فرنسية احترفت هذا الفن، والبعض يسمونه “نسيج الكنفه” بينما في مصر حمل إسم القباطي نسبة للأقباط المصريين الذين احترفوه، وحين نقرأ الرواية نكتشف لماذا اختارت الكاتبة هذا العنوان.

  الرواية تقوم على محورين أساسين هما:

   محور الرواية الأول هو كيفية مقاومة الاحتلال من خلال سلاح العلم ولذا بدأت الرواية برسالة من ميار ابنة يافا موجهة للصهيونية سارة فنكلشتاين وهي كابتن طيار عسكري ملوثة بالدم العربي وأصبحت مدرسة في الجامعة والتي قالت للراوية ميار يوسف: “أتركي العلم والدراسة لصالح الزواج والأطفال”، فقررت ميار تحديها وهزيمتها بالدراسة والوصول لأعلى الدرجات العلمية، اضافة لأستاذها الصهيوني الذي جعلها ترسب في الامتحان ثلاث مرات لاختيارها غسان كنفاني أنموذجا لمدينة يافا، وفي رسالتها تظهر للصهيونية كيف انها انتصرت عليها بالتفوق العلمي والتحدي بعد منعها من اكمال الدراسة في الصحافة والاعلام، فسافرت الى برلين مدعومة بأهلها رغم أنهما لم ينجبا غيرها، فوالدها يودعها بالقول: “امضي نحو حلمك بقدمين ثابتتين وقلب واثق متين”،  وهذا القرار بالتحدي والسفر اجبرها أن تتخلى عن قصة حبها مع نديم، فكانت بين خيارين: التحدي للإحتلال أو الحب والبقاء وترك العلم والدراسة لصالح الزواج والأطفال، فاختارت التحدي والوطن وداست على قلبها.

   والمحور الثاني هو الاصرار على التمسك في الوطن والبقاء فيه رغم كل المضايقات لتهجير من تبقى في فلسطين  فتقول ميار عن الغربة بفترة دراستها “غرباء نحن كغربة التاريخ في هذه المدن”، وتتذكر همسات والدها لوالدتها قبل سفرها: “لن تترك العش للغربان تنهش قشه، ولا الحقل للجرذان تنهب زرعه، ستعود لتكمل الحلم وتزرعه من جديد سنابل قمح وزيتون بقاء، فهما لم يتركا أرضهما وبلادهما كي تفعلها هي”، وتقول وهي تعاني من الغربة “وجع الأوطان المسلوبة والمنهوبة حارق”، وهذا ما نلمسه برفض ميار اسلوب صديقتها “جيدا” بمزج العربية بالعبرية وتقول: “لطالما طلبت من جيدا عدم اقحام الدخلاء أرض الضاد المقدسة”، لذا نجدها في غربتها “داومت على تذكير العالم أن هناك حقا مؤجلا لا بد أن يعود، دينٌ يجب أن يسدد”، متذكرة دوما عبارة والدها لها: “صاحب الحق يا ابنتي هو الأقوى دائما”.

وهناك محورين آخرين ظهرا في رحلة الاغتراب هما:

   الأول هو: حلا صديقتها السورية الأب والألمانية الأم والتي كانت الشخصية الثانوية الأساس في الرواية وأخذت مساحات جيدة حيث روت حكايتها في عشرين صفحة تعادل عُشر الكتاب، وأصبحت صديقة ميار حين التقتا في معرض فني، وأصبحتا لا تتفارقان وسافرتا الى اسبانيا معا حين اصيبت حلا بدوار ظنته ميار دوار البحر، لكنها غادرت بعد فترة تحت عنوان اشتياقها لأهلها في سوربا ولم تعد فقد توفيت بمرض اخفته عن ميار، وفعليا لم أجد علاقة بين ما روته حنين عن حياتها بهذا العدد من الصفحات وبين محاور الرواية، فهي اصبحت صديقة ميار التي لا تفارقها وتحدثت ميار عن ذلك وعن ألمها بعد وفاة حلا وعن ذكرياتها معها بالغربة حتى أنها كتبت لها رسالة وأرسلتها عبر الهاتف رغم أنها متوفاة، وأعتقد أن هذا كان يكفي حتى لا تخرج الرواية عن سياقها وتفقد وحدة الفكرة فيها.

   الثاني هو نديم: وهو الحب الذي لم يفارقها ولكنها تخلت عنه في سبيل تحقيق حلمها وتحديها للمحتل متمثلا بسارة فنكلشتاين، فهي ما زالت تحن له وتسأل عنه من يعرفه، ولكن في لحظة قررت أن تكتب له رسالة وترسلها على أمل وصولها له إن لم يغير رقم هاتفه بعد هذه السنوات، وفي هذه الرسالة ظهر الصراع الذي اعتمل بداخلها في سنوات الغربة حول خيارها بين الحب والوطن واختيارها الوطن.

      وخلال السرد الروائي نجد الكاتبة تحدثت بحرقة عن معاناة الفلسطينيين بالسفر لبعض البلدان العربية التي تمنع دخول الفلسطيني الذي يحمل جواز السفر الصادر عن دولة الاحتلال مرغما، دون إستيعاب أن الفلسطيني في اراضي 1948 مجبر على حمله واستخدامه بحكم الاحتلال، وبدون فهم أن هناك: “مجتمع فلسطيني يعاني غربة انتماء داخل مجتمع اسرائيلي يحاول طمس هويته وتغذيته ببذور لغته وسطوته وأسطورة بقائه على هذه الأرض كشعب الله المختار”، وبدون استيعاب وفهم أنه مجتمع يحاول “الحفاظ على ملامح هويته الأصلية وعلى تراثه وعاداته، مع تحديه الأكبر، التصدي لوجود هذه (الأسطورة)” فأصبح سفر الفلسطيني الذي أجبر على هذا الجواز “أشبه برحلة على صفيح ساخن أو جولة في حقل الغام”.

   كما لجأت الكاتبة لاستخدام الأساطير فمدينة يافا ترتبط بأسطورة واله اسطوري حيث نسب اليونان اسمها إلى ابنة إله الريح الروماني، فتذكر في سياق الرواية وزيارتها لاسبانيا وسبتة الآلهة الاسطورية مثل “بوسيدون، غايا، كاوس، انتايوس او عنتي وزوجته طنجة، كما تألقت بوصف الأمكنة وخاصة في اسبانيا وتخيل القائد الفاتح طارق بن زياد واستذكار حضارتنا في الأندلس، كما تألقت بوصف برلين من خلال صديقتها حلا الفنانة من أم المانية وأب سوري وكذلك وصف أسواق دمشق التراثية.

   ميار تفكر بطفل تروي له حكايات الوطن ولكنها تبتعد عن فكرة الزواج من أجل تحقيق حلمها بأن تصل لمستوى علمي متقدم ودور مميز بالإعلام، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل العلم وحده وسيلة المقاومة؟ اليس الوطن بحاجة لأبناء يقاومون؟ اليس التكاثر السكاني الفلسطيني وخاصة بالجزء المحتل عام 1948 م  هو ما يقلق مؤسسة الكيان؟

   ميار ترفض فكرة تفرغ صديقتها نورا لتربية ابنائها، فإن كانت ظروف زوجها المالية تسمح بذلك فمن المؤكد أن التفرغ لتربية الأبناء أهم من العمل، وخاصة أننا نلاحظ مدى انتشار العصابات والمخدرات وقضايا القتل في الوسط العربي بالعمق الفلسطيني والتي بلغت منذ بداية هذا العام 2023 م حتى كتابة هذا المقال أكثر من مئة ضحية، وتغض شرطة الاحتلال بتعليمات من “الشاباك” النظر عن ذلك من أجل تدمير المجتمع الفلسطيني من داخله.

   هناك بعض من الحوارات في الرواية أخذت الطابع الخطابي المباشر، ويمكن أن أعزي ذلك انه أتى من أناس جاؤوا ليودعوا ميار قبل السفر، وتلجأ ميار باستمرار لاستذكار الماضي فتتذكر مدرستها ندى وموقفها المعادي للحب وكذلك استاذ الرياضيات الذي وجد كلمات شعر على دفترها فوقفت امامه بحوار يدل على شخصية قوية، واستذكارها للماضي هو بعض من الحنين وهو: “نقطة ضعفها في غربتها”،

   وفي الرواية كان هناك العديد من الشخوص الثانوية لها دورها في الرواية إضافة لشخصية حلا، فكانت شخصية حسام وهو فلسطيني من شمال فلسطين لجأ اهله الى ميار لمساعدته في ترتيب أموره حين أتى طالبا ليدرس الطب حيث أنه في الوطن المحتل “وضعت جامعاتها الكثير من العقبات أمام الطلاب العرب الفلسطينيين الراغبين بدراسة موضوع الطب البشري”، فأصبح بمقام الأخ الأصغر لها وخاصة ان هناك علاقة قربى ونسب كما طبيعة المجتمع الفلسطيني حيث نقول دوما بمثل شعبي: “النساء شبكة”، وخفف من غربتها رغم فارق العمر بينهما حتى عاد الى الوطن.

    وهناك شخصية هاشم عبد الكريم الصُحفي في أحد الصحف الرقمية في غزة المحاصرة الذي تعرفت اليه ميار عبر وسائل التواصل الاجتماعي و”دأبت ميار طوال الوقت أن توصل صوته المحاصر داخل رقعة من البازلت والإسمنت وشظايا القذائف إلى العالم الذي تعيش فيه”.

   أبو شاهين اليافاوي الكهل بائع البن ذو الذاكرة الخصبة الحاضرة والتي تروي حكايات يافا أم الغريب وذاكرتها وتاريخها الحضاري والفني والاعلامي، وكانت ميار تبتهج حين تزوره “وهي تراه يمسح آثار الغبار المتكدس عن وجه يافا المغبرّ بحار التهويد وتغيير أسماء الأماكن وهدم الهوية”، وهو يروي ما عاشه وما سمعه وعن دور الاحتلال بشطب يافا بتاريخ يزيد عن خمسة الآف عام لصالح تل ابيب ذات ما لا يصل الى خمسين عام.

  كما أشارت الكاتبة لشخصية يهودية هو بروفيسر شفارتس الكهل اليهودي ومن المتدينين من أصل نمساوي وأستاذها بالجامعة ولطفه بالتعامل معها، ومع ذلك وبعيد عن انسانيته ولطفه مع ميار فهو يبقى بعض من الاحتلال وقد أتى لفلسطين مهاجرا من بلد أوروبي ويسكن في بيت أحد أجدادنا التي استولى عليها الاحتلال.

   في الربع الأخير من الرواية تبدأ المفاجئات بالظهور، فالصهيونية سارة فنكلشتاين ستشارك في مؤتمر مشاركة به ميار أيضا بعد خمسة عشر عاما من حكايتها مع سارة في يافا، هذا المؤتمر الذي تنتصب فيه ميار أمام الحضور”كانتصاب زيتونة تجذرت عميقا في الأرض”، والمفاجئة الثانية أن نديم استلم الرسالة ورد عليها مظهرا حبه بعد هذه السنوات أيضا حيث “عاد نديم يدق ترانيم عشقها القديم”، وسأترك للقارئ أن يقرأ الرواية ونهاية المفاجئات سلبا أو ايجابا حتى لا أفسد على القارئ متعته.

   وعودة للعنوان نجد أن الراوية قالت عن أمها: “لم تعد قادرة على على القراءة أو حياكة الصوف أو نسج لوحات الجوبلين التي أحيت بها بيتنا الصغير” وقبلها وصف الأم: “لم يتضائل عشقها للبحر وحكاياته يوما”، فكان العنوان رمزية للرواية التي نسجت بدقة حكاية التحدي لأنموذج من الشعب الفلسطيني من خلال ميار يوسف، فالأم عاشقة للبحر مبدعة بنسيج الجوبلين فكان العنوان للرواية “جوبلين بحري”.

   والخلاصة أن الكاتبة دعاء زعبي في روايتها الأولى تمكنت من أن تكون نبض شعبنا المحتل في العمق الفلسطيني في عام النكبة، ورغم ملاحظات أوردتها على الرواية في سياق المقال إلا أن الكاتبة تمكنت بشكل جيد من التعبير عن الدلالات النفسية في شخوص الرواية، فكان لكل شخصية دورها الذي جعل الرواية كنسيج لوحة الجوبلين، وبإسلوب سلس ولغة قوية جندت جميع عناصر السرد الأدبي لترسم شخصية ميار وتبرزها وتفرضها بقوة في روح القارئ، علما أن الكاتبة من مدينة الناصرة وتسكنها إلا أن من يقرأ الرواية سيعتقد من تفاصيل الوصف وقوة العشق أنها من يافا، وقد أحكمت الكاتبة يدها على عنصرين مهمين بالرواية هما الزمان والمكان واهتمت بالحبكة القصصية وكذلك بالسرد والحوار وايراد رأي الكاتبة عبر الرواية، وأعتقد أنها اتقنت ايضا عناصر مهمة وهي البداية والتأزم والنهاية والأبعاد الفكرية والسياسية والاجتماعية.

  وأنهي الحديث عن هذه الرواية بعبارة غوته التي استشهدت بها الراوية والتي تلخص فكرة الرواية بكلمات: “نحن بجبلتنا نصدق أبعد الأشياء عن التصديق، ومتى نقشت في الذاكرة فالويل لمن يحاول محوها”.

“عمَّان 17/6/2023”

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular