أن ساحة الابداع في الفن الروائي الحديث واسعة جداً , في آفاق التحديث في الفن الروائي مهما كان حجم الرواية طويلة أم قصيرة , فأن الباب مفتوحاً لبراعة الأديب في قدرته في التحديث واختيار الصيغة واسلوبية الطرح الحدث السردي , بما ينسجم مع ضرورات العصر , الذي يهتم بالسرعة والمباشرة في تناول , دون إطناب زائد في منصات الحبكة الروائية . ولا ينكر احداً بأنه في السنوات الاخيرة , جرت محاولات تجريبية تكللت بصيغة حديثة بالابداع في شكل الصياغة الفنية , ومقومات البناء الروائي في المتن السردي في الرواية القصيرة , لهذا شهدنا جنس جديد أو الوليد الجديد والحديث في الجنس السردي , هو الرواية القصيرة جداً , هذا يدلل أن آفاق الابتكار والخلق , هي علمية جارية لم تتوقف في تهذيب الشكل الفني أو الصيغة الفنية , التي تعتمد على الاختزال والتكثيف والتركيز الشديد في منصات سرد الحدث الروائي , لذلك خرج هذا الجنس الجديد والحديث غير مألوف في الاوساط الثقافية والادبية , هو ما يسمى الرواية القصيرة جداً ( Very Short Novel ) والذي اشتغل عليه الاستاذ ( حميد الحريزي ) في مجهره الابداعي , بما يملك من كفاءة وخبرة طويلة في منصات السردي الروائي , ان يهتم بهذا الجنس الروائي الوليد , في الابتكار المبدع , بدون شك ان للاديب الحق في اختيار الصياغة في الشكل والمضمون بما يملي ذوقه الادبي , وبما يختار من حدث سردي ساخن في رؤيته الفكرية العميقة الدالة ان تصل الى القارئ مباشرة , دون الاسهال في الاطناب الزائد , ان يبسطه بجمالية الصياغة الحديثة , في اعطى زخم مضاعف في المدلولات التعبيرية والفكرية الملتهبة, التي تحمل معنى ومغزى ورمزية عميقة , في الوصف والتصوير المركز والشديد , وفي هذا المجال أصدر لحد الآن أربع روايات تحت مسمى , الرواية القصيرة جداً وهي :
1 – المقايضة
2 – القداحة الحمراء
3 – أرض الزعفران
4 – المجهول .
يؤطر هذا الجنس الأدبي الجديد , بما يحمله من مقومات جمالية في اللغة الرشيقة , التي تجذب القارئ والمتابع الى الاهتمام والقراءة , وتأثير النفسي في المنطلقات الفكرية المعبرة , لأنها تعبر عن معطيات الواقع ومفرداته الفعلية , في مدلولات المعنى والمغزى والرمز , في الاتجاه الواقعية الحديثة . وهذه الرواية القصيرة جداً ( القداحة الحمراء ) , مشبعة في جمالية الشكل الفني والمضمون الفكري , وهي تتحدث عن حقبة سياسية في زمن سلطة البعث , ونهجه وسلوكه الارهابي بالقمع والاضطهاد , في الارهاب السياسي والفكري لقوى اليسار العراقي , رغم أنه مرتبطاً معهم في جبهة وطنية آنذاك , لكنه اتخذها كغطاء لتصفية اليساري العراقي , وإخراجه من المعادلة السياسية , وتشديد قبضته الحديدية على عموم الشعب عامة , عرباً وكرداً وأقليات , أي أنه لا يترك أية بذرة للتعبير السياسي وحرية الرأي , ويتوغل الحدث السردي بظواهر الواقع السياسي والاجتماعي في تلك الحقبة المشؤومة , في تهديد كل مواطن بالعواقب الوخيمة , إذا رفض الدخول في اسطبل البعث , هكذا كانت السلطة الشمولية تدير دفة الصراع السياسي في ادارة الدولة , والواقع يغوص في الإهمال والحرمان والمظلومية , وخاصة سكنة الاهوار , يعيشون حالة البؤس والفقر , ولكن رغم اسلوب التنكيل والبطش , فأن الصراع السياسي لم يتوقف , بل أخذ أشكال متنوعة من النضال ولم يستسلم لارادة السلطة الشمولية ( نعم يا ( عاصف ) هذا طريق النضال , فهو ليس معبد بالورود هذه طبيعة الصراع الطبقي ) . ويتحدث الحدث السردي الى تلك الاساليب الارهابية , من خلال شخصيتين تدير دفة الأحداث السردية وهما: (عاصف ) الموظف الصحي والمبعد السياسي الذي رفض الدخول في اسطبل البعث , و( كاكه حسن ) المهجر من مدينته ( زاخو ) في أقصى الشمال , يبعد الى اقصى الجنوب في محافظة ذي قار ( الناصرية ) في ( ناحية الفهود ) ويعين كناس في البلدية . بعد انهيار الثورة الكردية عام 1975 عقب اتفاقية الجزائر الموقعة بين صدام وشاه ايران , ارتبطا بعلاقة صداقة حميمة كأنهما احدهما يكمل الآخر , أو مثل ما يقول المثل : الغريب للغريب نسيب , ولكن في الرواية يكون المنطق الأصح : المنفي للمنفي رفيق .
هذا الارتباط الحميم بين عاصف و كاكه حسن في تجوالهما اليومية وفي الاهوار أو في الناحية , أو من خلال تواجدهم في المقهى والمطعم الوحيدان في ( ناحية الفهود ) , يثيران استغراب الناس وازلام البعث بالريبة والتساؤل والاستغراب , فعاصف موظف ( معتبر ) و ( كاكه حسن ) كناس في البلدية بائس , فما الذي يجمعهم ؟! .
×× أحداث السرد :
الحدث السردي يمتلك واقعية فعلية , فهو من صلب تلك الحقبة السياسية المشؤومة . من هذا المنطلق فأن الشخصيتين ( عاصف ) و ( كاكه حسن ) يجمعهما قاسم مشترك واحد الابعاد والتهجير , ونفس التربية والثقافة الثورية اليسارية , ونفس الروح النضالية التي تقاوم تداعيات الواقع القاهرة , في المعاناة والاضطهاد , الأول رفض الدخول في اسطبل البعث فكانت عاقبته الابعاد , والثاني ضمن سياسة التهجير التي مارستها سلطة البعث , في تهجير الأكراد من مناطق سكناهم من اقصى الشمال الى اقصى الجنوب , كعقاب جماعي بعد انهيار ثورتهم , وممارسة تشتيت العوائل حتى تفتيت العائلة الواحدة , كل واحد منهم في مناطق مختلفة بعيدة عن الآخر , ويستغرب (عاصف) من العناق الحار والشوق المرهف حينما يلتقي الاكراد احدهما بالآخر . كأنه وجد روحه ورئته في الاخر , ويوضح ( كاكه حسن ) عن هذا الحب الذي يجمع الكرد المهجرين والمشردين من مناطقهم , كأنهم عائلة واحدة ( كاكه هؤلاء الكرد من عائلة واحدة, فرقتهم الاحداث ولا يعلم أحدهم بمصير الآخر , عندما سفرتهم السلطة ووزعتهم على المناطق الجنوبية , ووضعهم في صرائف من القصب والبردي أعدت لهذا الغرض ) وكان نصيب ( كاكه حسن ) التهجير من اقصى الشمال ( زاخو ) الى اقصى الجنوب في محافظة ذي قار ( الناصرية ) في ( ناحية الفهود ) ويعين كناس في شارع البلدية , تقبل الأمر برحابة صدر , وكان يتفانى في تنظيف شارع البلدية حتى يستمر بالتنظيف ما بعد الدوام , وكان يصحب مكناسته على الدوام , وكان معجباً في بيئة الاهوار, وخلال تجواله في بيئة الاهوار بصحبة ( عاصف ) ويرى وجود الأضرحة والمقامات الدينية الكثيرة والمنتشرة , ويراقب حركة الطيور فوق الماء الاهوار, وصيد الصيادين وهم يعودون في الغروب وهم يحملون رزقهم اليومي من الصيد . وينبهر في هالة الغروب حين يطل قرص الشمس على الاهوار ( يغط الصديقان في صمت طويل كالمسحورين , وهما يراقبان مغيب الشمس عند الغروب , ويبدأ باقتراب قرص الشمس من سطح الماء رويدا رويدا ) هذا المنظر الخلاب جعل ( كاكه حسن ) يعشق بيئة الاهوار, التي تملك ارث ثوري , هو انتفاضة الاهوار بقيادة الثائر ( خالد احمد زكي ) . رغم أن ( كاكه حسن ) لا يعرف القراءة والكتابة , لكنه يحمل عقلية منفتحة على الثقافة والوعي الثوري , يملك الحس الذي في تمييز الأشياء ببصيرة ذكية , كأنه مترس بالوعي والخبرة والذكاء , فكان يسرد الحكايات والاساطير , منها حكاية كاوه الحداد الذي هشم رأس الملك الضحاك , وحكاية جلجامش وبحثه عن عشبة الخلود التي سرقتها الافعى منه , ويذكر بكل احترام وتبجيل العادات والتقاليد الثورية التي يحملها الشعب الكردي , ويهتم في شكل خاص بالتحضير بالفرح الغامر في عيد نوروز , يلبس الملابس الكردية الجديدة , ويشعل النار في قداحته الحمراء , الغريبة الشكل والنوعية ويرقص حول النار مبتهجاً بقدوم العيد . و(عاصف ) يشعر أنه امام مثقف كبير مشبعاً بالثقافة الثورية , وليس في حالة كناس بائس , أو كأنه ( الفيلسوف الكبير المسحور في لباس كناس بائس ) , لذلك تراوده المقارنة الثورية بين شخصية الثائر ( خالد احمد زكي ) جيفارا الاهور , وبين ( كاكه حسن ) كاوه الاهوار , هذه المفارقة لها طعم في التذكير بأن أرواح الثوريين تتناسل و تتشكل في اشكال مختلفة , ولكن هدفهم واحد هو التحرر والحرية من سلطة الاستبداد والطغيان . وفي يوم ممطر فقد ( عاصف ) صديقه الحميم , وفتش عنه في كل مكان فلم يجد له أثر , راوده القلق على حياة ومصير رفيقه ( كاكه حسن ) ربما تعرض الى اختطاف أو قتل من قبل ازلام البعث , و بدأت تساوره الكوابيس القلقة على حياته , عندما تطول الأيام الغياب ولم يعثر على صديقه , لا في ( ناحية الفهود ) ولا في المقهى والمطعم الوحدين في الناحية ولا في الاهوار , , ولكنه عرف بعد ذلك من الصيادين , حيث وجدوا ( البلم ) والمكناسة المرتبطة بسلسلة ( البلم ) وقداحته الحمراء الغريبة , احتفظ بها لصون الأمانة الثورية , ولم يجدوا ( كاكه حسن ) وضاعت اخباره, ولم يسلم جثته الى احد افراد عائلته , وهذا ما يثير الحزن والقهر في نفس ( عاصف ) فقد اعز صديق ورفيق , بهذه النهاية المأساوية .