.
على رأس كل عقد في عمرك، تقف في مفترق طرق، وعليك أن تختار ما بين سكة وصلت آخرها، وسكة ندامة، وسكة سلامة، وسكة «اللي يروح ميرجعش». تلمح أضواء قطار العمر قادمة من بعيد، تسمع صافرته، ترى تبدل القضبان، فإما أن تركب أو تهرب أو تتركه يدهسك.
كنت أعجب دائماً لمَ اختار الله تعالى سن الأربعين بالذات ليبعث فيه رسله؟! لماذا لم يجعله الثلاثين أو العشرين مثلاً، وقت أن يكونوا شباباً بكامل قوتهم؟! وبعد أن مررت بالتجربة عرفت أن الأكثر أهمية أن يكون النبي بكامل عقله.
لم أفهم لمَ كان الأنبياء يفضلون العزلة قبل البعثة، ولمَ كان رسولنا يختلي بنفسه في الغار، وتيقنت أن للأربعين فترة تحضير وإعداد تحتاج لكثير من التفكير الهادئ وسط صخب جاهلية متنوعة الكلاليب، فما بالنا بالأنبياء وهم يجهزون لأمور تنوء بحملها الجبال.
الآن وأنا أخطو خطواتي الأولى على درب عامي الرابع والأربعين أتوقف كالمعتاد بين مفترق طرقي لأختار، لأقيم ما فات، وأنظر فيما هو آت؛ لأغلق صفحات وأفتح أخرى لأدلّل الطفلة داخلي وأطمئن على أحوالها وأشعرها بالأمان، فطالما كانت بخير ، فأنا بخير .
أشبه الحياة الأربعينية ببحر واسع، وكم أحب البحر، تداعب قدميك فيه شطآن طفولتك وشبابك، تتقدم قليلاً فإذا بك تفاجأ بنحت أسفله، تخطو باطمئنان ساذج، فتزل قدمك، فإما أن تستجمع بكل ضعف ما بقي فيك من قوة لتستعيد توازنك، وإما أن تسقط فيتلاعب بك الموج فتغرق أو في أفضل أحوالك تظن أنك نجوت أو ربما تحلم بأنك قد تنجو. فتصبح كـ «مالكوم» في فيلم «الحاسة السادسة»، تظن أنك لم تمت، وتمارس دور الطبيب بينما تكون قد فارقت الحياة وأنت لا تدري.
وأحياناً يطغى عليّ شعور بأن الأربعين هي بلاد العجائب، وأنت ألِيس التي تسقط في حفرة الأربعين أو تعبر خلال مرآتها، لتكتشف حقيقة نفسك والآخرين، تطاردك ملكة القلوب وتتعاطى الحكمة من فم بائع قبعات مجنون، تتحدث مع قطة مبتسمة تختفي، وترشدك دودة إلى نفسك، تطرح أسئلة لا إجابات لها، تقنع نفسك في كل لحظة أنك تعيش حلماً لا بد أن تصحو منه، لا تفيق منه إلا بعد أن تكون قد عرفت كنه ذاتك، وواجهتها بما جهلته، فإما ذلك، وإما أن تظل سجين بلاد لا تشبهك، تصارع أيامك فيها لتستمر في سلسلة هروب لا تنتهي.
والفترة الأربعينية في نظري هي حجرة الإظهار (التحميض)، تلتقط عيناك ملايين الصور في طفولتك وشبابك، ربما يكون أجملها وأنقاها تلك التي التقطتها في صغرك بالأبيض والأسود، وهي المفضلة لدي أيضاً، فعادة يخفي الأبيض والأسود كثيراً من عيوب الصورة، ويضفي عليها وضوحاً من نوع صافٍ وصادق تحبه نفسي، ثم تكبر وتكثر الصور ويمر الوقت بسرعة بحيث لا يكون لديك متسع منه لتظهر صورك، وحين تثقل ذاكرتك فلا تحتمل المزيد، وتتداخل المشاهد، وتتشوش الأفكار، وينهار داخلك ، يعتزل عقلك في غرفة إظهار الأربعين، فتقوم على مهل وبخوف شديد لتحمض الصور وتعلقها وترتبها، ثم تتسع حدقتاك وأنت تواجه فيها تفاصيل أهملتها وتجاهلتها، فأنت لا تريد أن تصدق أن العالم ليس رسوماً كارتونية كما كنت تحب أن تراه، تجلس ساكناً مرتعباً لتستوعب، فإما أن تقف على قدميك وتخرج وتكيف ناظريك على مستوى الرؤية الجديدة، وإما أن تعيش بين الصور وتعتاد الظلام، وما يزيد طينتك بلة، أنك تفاجأ في خلفية صورك بحروب عالمية، ومجاعات، وخيانات، واغتيالات، ولاجئين وغرقى، وأراض تسلب، وأعراض تستباح، ودين يحارب، وأنت الذي لم تكن تلمح دمعة، ولم يتناه يوماً إلى مسامعك صرخة!! الشيء المفزع في هذا الأمر هو أن الطفل المختبئ المنكمش في زاوية قلبك قد شاهد كل ذلك الآن بعينيك.
يفيق كل من الأربعيني والأربعينية على قمة جبل العمر، وكأن كلاً منهما جمد لأعوام في كبسولة، أو نام في كهف لسنين لا يستطيع أن يحصيها، أو فقد ذاكرته ولا يدري ماذا حدث بعد أن كان يلعب بالكرة، أو بعد أن كانت تداعب دميتها!! يطل كل على ماض تخبو جذوته، وينظر إلى آتٍ يجاهد أن يحتفظ فيه ببعض منه. فهما الآن مسؤولان عن آخرين، يُنتظر منهما، ولا ينتظران من أحد. يتحولان هكذا بكل بساطة إلى «تنت، عمو، وماما، وبابا، وأونكل»!! يزحف الشيب، ويضعف البصر، وتنهك القوى، وتبهت الذاكرة فلا يتبقى فيها إلا مشاهد من الطفولة، وفي القلب تنساب الطبيعة الثابتة كالنهر والبحر والشمس والقمر والرمال وفصول العام وألوان الزهر فيبصرانها، وكأن أعينهما تقع عليها للمرة الأولى!
ينتبه بعضهم إلى أن الحياة أطوار، ولكل طور جماله، ويزاحم البعض الآخر الشباب فيما تبقى لهم من قليل حياة، فلا يفطنوا إلى خبرات واختبارات وتجارب وسنين تلفهم، إنها شرنقة الأربعين، فإما أن يخرجوا منها فراشات كبيرة القدر والقيمة، زاهيات العقل والقلب، وإما اختناق، فلا طالوا طور دود قز، ولا ارتقوا ليصيروا فراشاً.