بالرغم من أن الأميرة بديعة بنت الحسين لم تلعب أدواراً مؤثرة طيلة حُكم أسرتها الهاشمية للعراق، إلا أن التاريخ خلّد اسمها بسبب نجاتها من المجزرة الدموية التي أودت بعائلتها كلها، في أحداث ما يُسمى “ثورة” أو “انقلاب” 14 تموز/ يوليو 1958، التي أطاحت بالحكم الملكي في البلاد.
وبديعة ابنة الملك علي بن الحسين، وشقيقة الأمير عبدالإله ولي العهد والوصي على عرش العراق، حينذاك، وشقيقة الملكة عالية وخالة الملك فيصل الثاني.
وُلدت في دمشق 1920 وعاشت طفولتها في مكة بالسعودية، حتى انتقلت مع أسرتها إلى العراق عام 1926.
وتزوجت عام 1950 من الشريف الحسين بن علي بن عبدالله، وأنجبت منه ثلاثة أبناء هم: علي ومحمد وعبدالله.
وأعلن لاحقاً قادة الانقلاب وبينهم عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، عن تأسيس الجمهورية العراقية.
علاقتها بأخيها الوصي
تمتّعت الأميرة بديعة بعلاقة وطيدة بأخيها، حتى أنه كان يعتمد على رأيها في اختيار زوجاته، مثلما وقع عشية اقترانه بالمصرية فائزة الطرابلسي.
حكى غزوان غناوي في كتابه “الأمير عبد الإله: حياته ودوره السياسي”، أن الوصي أوفد شقيقته، بصحبة أختهما الأكبر الأميرة عابدية، إلى القاهرة، للقاء العروس المختارة فوجداها “جميلة الوجه ذات معانٍ حلوة” على حد وصف الأميرة بديعة، فعادتا إلى بغداد وأعطتا الوصي موافقتهما على الزيجة.
في 1939 شهدت بديعة يوماً مشؤوماً من حياتها حين خرج الملك غازي، زوج أختها الملكة عالية، من قصره ليقود سيارته بسرعة كبيرة. تقول: “إذا بصوت اصطدام مروع تصطك منه الآذان، ألحقه اصطخاب مدوٍ صاحَبه وميضٌ خاطف انقطعت على أثره الكهرباء وخيّم الظلام على المكان”، حسبما نقل عنها مأمون زكي في دراسته “ازدهار العراق تحت الحكم الملكي”.
ووفقاً لزكي، فإن الأسرة الملكية هبّت إلى مكان الحادث ليعثروا على الملك غازي مسجى أرضاً وقد فارق الحياة بسبب إصابة مباشرة وبليغة تلقاها في رأسه.
عقب وفاة الملك غازي جرى تعيين ابنه فيصل الثاني ملكاً على العراق، وبسبب صِغر سنّه كُلّف الأمير عبدالإله بالإشراف على العرش.
لاحقاً أعربت مجموعة من كبار ضباط الجيش العراقي، هم: صلاح الدين الصباغ، فهمي سعيد، محمود سلمان، كامل شبيب، عن معارضتهم لسياسات الوصي فدعّموا رشيد الكيلاني لتشكيل حكومة في 1941.
بعدها رتّب الكيلاني جلسة لمجلس الأمة صوّتت على عزل عبدالإله وتعيين الشريف شرف بن عون وصياً بدلاً منه، كما فُرض حصارٌ على قصر الزهور لمنع الأميرات من الاتصال بأخيهن قبل أن يتقرّر ترحيل العائلة بأسرها إلى مدينة أربيل.
خلال هذه الأجواء الساخنة، تسلّلت الأميرة بديعة بصحبة الملكة عالية من القصر الملكي مرتديتين العباءة للبحث عن مكان شقيقهما حتى علمنَ أنه يرتّب للاستعانة بالبريطانيين واستعادة منصبه مُجدداً.
وبحسب يعقوب كورية في كتابه “إنجليز في حياة فيصل الأول”، فإن الأميرة بديعة لعبت دوراً في إنقاذ شقيقها بعدما استدعت الدكتور البريطاني سندرسن، طبيب العائلة المالكة، إلى دار عمتها الأميرة صالحة المطلة على نهر دجلة.
هناك التقى سندرسن بالأمير عبدالإله ووجده متهيجاً بسبب الأحداث، فاتفقا معاً على خطة لتهريبه من بغداد بمساعدة السفارتين البريطانية والأميركية وكانت البداية لإفشال حركة الكيلاني ونجاح عبدالإله في العودة إلى بغداد وإلى منصبه مُجدداً.
وخلال حرب 1948 تطوّعت الأميرة بديعة لعلاج جرحى الجيش العراقي خلال الحرب، منهم 3 ضباط، أحدهما وصفته بأنه كان “عابساً، مصفرّ الوجه”، ستعرف لاحقًا أنه عبدالكريم قاسم الذي سيقود “الانقلاب” ضد عائلتها.
وفي 1950 توفّيت شقيقتها الكبرى الملكة عالية متأثرة بإصابتها بمرض السرطان، ثم في العام نفسه كانت تترقّب ولادة ابنها.
وحسبما ذكر الطبيب كمال السامرائي الذي أشرف على الولادة في مذكراته “حديث الثمانين: سيرة وذكريات”، فإن “حالتها كانت صعبة لأن رأس الجنين كانت منحشرة في عظام الحوض، وهو ما أثار المزيد من قلق الأميرة بديعة، لكن الطبيب العراقي أدار عملية الولادة باقتدار ورُزقت الأميرة بمولودها الأول سليماً معافى البدن”.
“عائلتك ماتت جميعها، اخرجي بسرعة”
في يوم 13 تموز/ يوليو 1958، اجتمع الملك فيصل بأفراد أسرته لتناول العشاء معهم، وخلال الجلسة أبدى فرحته بقُرب سفره إلى لندن للقاء خطيبته الأميرة فاضلة التي كان يستعد للزواج بها في هذه السنة، وكان مقرراً أن يرافقه في تلك الرحلة خالته الأميرة بديعة وزوجها الشريف الحسين على أن يبقى الأمير عبدالإله لإدارة أمور الدولة.
وبحسب كتاب “الليلة الأخيرة: مجزرة قصر الرحاب”، فإن أفراد العائلة شاهدت فيلم “لعبة البيجاما” من بطولة الممثلة والمغنية الأميركية دوريس داي (Doris Day)، وحينما قرّرت الأميرة بديعة الانصراف عانقت الملك وراحت تقبّله بحرارة، الأمر الذي استدعى استغراباً من إحدى الحاضرات، فقالت لها متعجبة: “لماذا هذا الوداع، إنك ستسافرين معه غداً إلى إنجلترا؟!”.
انتهى اليوم برحيل الأميرة بديعة بصحبة زوجها إلى دارهما التي تقع في منطقة المنصور ببغداد.
في مذكراته “خواطر السنين”، كشف المعماري العراقي الشهير محمد مكية، أنه تولّى تصميم هذه الدار، وأضافت الأميرة الهاشمية في كتابها “وريثة العروش”، أن بناء هذا المنزل كلّفهم 30 ألف دينار، والغريب أنهما عقب الانتهاء من فرش منزلهما قرّر زوجها أن يكتب البيت بِاسمه تحسباً لأي مصادرة قد تحدث للمنزل إذا أُطيح بحُكم الهاشميين.
قال الشريف “أرى أن عبدالناصر سيفعل ما من شأنه أن يضرّ العراق، وربما سيتحوّل البلد إلى مثل مصر”!
في صباح اليوم التالي، صُعقت العائلة الهاشمية بأنباء وقوع “انقلابٍ” عليها، داخل منزلها تلقّت الأميرة بديعة أخبار تمرد الجيش ولما حاولت الاتصال بالملك طمأنها أن كل الأمور بخير، بعدها قُطع الاتصال وكانت هذه آخر مرة تسمع فيها الأميرة بديعة صوت ابن أختها.
في تمام الساعة 8 صباحاً أخرج الجنود العائلة المالكة إلى حديقة القصر، وما أن اقتربوا من حوض الماء حتى أطلقت عليهم الرصاصات وأردتهم جميعاً عدا الأميرة هيام زوجة عبدالإله، حسبما أوضح محمد حمدي الجعفري في كتابه “نهاية قصر الرحاب: تفاصيل ما حدث ليلة 14 تموز”.
وفي لقاء مع تمارا الداغستاني، التي كانت مقربّة من الأميرة هيام، وعاصرت المجزرة. قالت الأميرة لها، إنها مع بقية العائلة المالكة كانوا يحاولون الهرب بعدما سمعوا أن الجنود قادمون للقصر، لكن بسبب تأخرها عن اللحاق بهم، أصيبت برصاصة غير مميتة، وفقدت الوعي مباشرة، لتجد بعد استعادته الملك مقتولاً وأجزاء من رأسه تغطي ثيابه.
عقب نصف ساعة من المجزرة الهاشمية طرق أحد ضباط الحرس الوطني دار الشريف حسين والأميرة بديعة، وما أن فتحا له صرخ فيهما “لقد ماتوا جميعاً، اخرجوا بسرعة”.
ووفقاً لكتاب “نوري السعيد: رجل الدولة والإنسان”، فإن الأميرة بديعة فور وقوع الانقلاب تلقّت زيارة من الدكتور صالح البصام الذي شغل عدة مناصب وزارية إبان العهد الملكي للاطمئنان عليها وتحذيرها مما جرى.
وداعاً العراق
كشف لطفي جعفر في كتابه “الملك فيصل الثاني: آخر ملوك العراق”، أن الزوجين، بصحبة أبنائهما الثلاثة، هربوا إلى السفارة السعودية ببغداد، التي وفّرت لهم الحماية حتى خرجوا إلى القاهرة، قبل أن يغادروا إلى مستقرّهم الأخير في لندن.
عن لحظة مغادرتها للعراق حكت بديعة في مذكراتها “حسبتُ أن الطيّار سيحلّق فوق قصر الرحاب، لعلّي ألمح أحداً من أهلي ربما نسوا أن يقضوا عليه فانزوى مختبئاً هنا أو هناك، غير أن الطيّار خيّب ظنّي للأسف”.
طبيبها الخاص كامل السامرائي قابلها بعد تلك الوقائع بعام خلال زيارة لها، بصحبة زوجها إلى لبنان، حيث كانا يقيمان في شقة بمنطقة “الروشة” في بيروت.
كشف السامرائي انطباعاته عن أول مرة قابل فيها الأميرة بعد مقتل عائلتها قائلاً: “ذوَى وجهها الجميل غير أن وجهها النبيل ما زال في قمة عنفوانه”.
كما لفت انتباهه أنها لم ترتدِ السواد حداداً على أسرتها إنما التزمت باللون الأبيض وفاءً لتقاليد أهالي الحجاز بارتداء البياض في لحظات الحداد، ولاحظ أن الاميرة علّقت صور جميع أفرادها المقتولين على أحد جدران الشقة.
في لبنان تلقّت نبأ مقتل عبدالسلام عارف 1966 فاشترت كمًا كبيرًا من الألعاب النارية أشعلتها كلها خلال احتفالها بوفاة الرجل الثاني في “الانقلاب”، وفي مصر عاصرت وفاة عبدالناصر 1970 فسجدت على الأرض “شكرًا لله”.
نظرت تمارا إلى الملك وهو يفتح الرسالة، والتي تعتقد أنها رسالة من دولة أجنبية كونها تشبه أوراق السفارات، مكتوب فيها باللغة الإنجليزية “أحذر الليلة
وفي عام 1988 أجرى المفكر العراقي حسن العلوي لقاءً مع الشريف الحسين في لندن، كشف بعض تفاصيله في كتابه “أسوار الطين: في عقدة الكويت وأيدولوجيا الضم”، حينها كان الحسين في السبعين من عمره لكنه “في لياقة صحية عالية تضفي على مهابته قامة باسقة وملامح حجازية عريقة لرجلٍ يتوازن فيه وقار الانتساب بعِظم المُصاب” على حد تعبير العلوي.
خلال اللقاء اعتبر الشريف الحسين أن عودة الأسرة المالكة لحُكم العراق “أفضل خيار للتخلُّص من حُكم صدام حسين، وأن ابنه الشريف علي هو الوريث الشرعي للحُكم والأحقُّ بعرش العراق”.
من أجل تنفيذ هذه الفكرة قام الشريف الحسين بجولة خليجية للترويج لفكرته لكنه صادف اعتراضاً كويتياً أردنياً وتجاهُلاً سعودياً، فأُجهضت الفكرة مبكراً وبقيت طيَّ الأدراج حتى توفي صاحبها عام 1996، أما الأميرة بديعة فقد عمّرت بعده طويلاً حتى توفيت في بريطانيا عام 2020.