تمر هذه األيام الذكرى الخامسة والستين لثورة 14 تموز/يوليو 1958 العراقية المغدورة. وفي مثل هذه المناسبة من
كل عام يدخل العراقيون في جدال عنيف فيما بينهم. فالمؤيدون لها يرونها حتمية تاريخية ويسمونها ثورة، وأنها أبنة
ثورة العشرين، ومكملة لها في استكمال السيادة الوطنية للدولة العراقية. أما خصومها، وحتى البعض الذين كانوا من
المؤيدين لها في عهدها، وساهموا فيها، غيروا مواقفهم منها وتنكروا لها فيما بعد، فسموها إنقالب عسكري وضع
العراق على سكة االنقالبات العسكرية، وفتح شهية العسكر للحكم، و بالتالي جاء بحكم البعث الصدامي الذي أهلك
الحرث والنسل. لذلك يحاول هؤالء تحميل ثورة 14 تموز وقائدها الزعيم عبدالكريم قاسم كل ما حصل من كوارث
.منذ مؤامرة 8 شباط 1963 الدموي األسود وإلى اليوم
وكما قال الكاتب د. عامر صالح في مقاله القيم بمناسبة الذكرى 65 للثورة: )ولكن ماهو مضحك مبكي اليوم
ومفهوم لكل ذو بصيرة سياسية هو بكاء أيتام بقايا البعث وذيوله وقنواتهم الفضائية على الحقبة الملكية وهم
). ”
جزء من مسلسل األنقالبات الدموية في العراق وتاريخه األسود ما بعد ثورة تموز” شي ما يشبه شي
لم يكن بودي كتابة هذه المداخلة لوال التمادي والمبالغة في هذه االتهامات الباطالة المتكررة التي يشنها هذا البعض
على هذه الثورة الوطنية األصيلة، و قائدها في مواقع االنترنت، والتواصل االجتماعي، وأغلبها يدل على الجهل
:بتاريخ العراق، وطبيعة المجتمع العراقي، إذ كما يقول المثل اإلنكليزي
.أي )بعد الحدث كل واحد يدعي الذكاء( ،(clever is body every event the After(
أن أخرج من صمتي، وأرد على هذه االتهامات لحماية تاريخنا من التشويه والتضليل.
لذا رأيت من الضروري جدًا
والجدير بالذكر أن معظم األفكار الواردة في هذا المقال مكررة ذكرتها في مقاالت سابقة، ولكن ما العمل إذا كان
خصوم الثورة يعيدون نفس االعتراضات، لذلك أرى أن هذا التكرار ال يخلو من فائدة، كما في اآلية الكريمة )فذكر إن
نفعت الذكرى.(
نعم، لقد بدأ الحدث في صبيحة يوم 14 تموز/يوليو 1958 كإنقالب عسكري، ولكن بعد إذاعة البيان األول مباشرة،
للحدث الذي حولوه من إنقالب
خرجت جموع الشعب من أقصى العراق إلى أقصاه في تظاهرات مليونية، تأييدًا
عسكري إلى ثورة شعبية عارمة. وهذا التأييد الشعبي الواسع كان عبارة عن تصويت على شرعية الثورة، و خاصة
إذا ما أخذنا بنظراالعتبار التحوالت السياسية واالقتصادية والثقافية واالجتماعية في المجتمع العراقي، التي حصلت
بعد ذلك اليوم. ويشهد بذلك أكاديوميون أجانب من أمثال الباحث األمريكي من أصل فلسطيني حنا بطاطو.
“.والمستشرق الفرنسي ماكسيم رودنسن الذي قال: “إن ثورة 14 تموز العراقية هي الثورة الوحيدة في البالد العربية
له بعنوان: )هل سيتم
قبل أيام نشر الكاتب العراقي الدكتور قاسم حسين صالح على عدد من مواقع االنترنت مقاًال قيمًا
األحتفاء بذكرى ثورة 14 تموز؟()1(. و قد أنصف الكاتب بحق الزعيم، حيث بدأ بالقول: “كنت تابعت حكومات ما
بعد التغيير )2003( فلم اجد رئيس حكومة او رئيس حزب او كتلة يذكر عبد الكريم قاسم بخير، بل أن جميع رؤساء
تلك الحكومات لم يحيوا ذكرى استشهاد عبد الكريم قاسم في انقالب شباط 1963 الدموي، وكأن ذلك اليوم كان عاديا
لم يقتل فيه آالف العراقيين، ولم يحشر فيه المناضلون بقطار الموت، ولم يسجن فيه مئات اآلالف. والمفارقة أن
الطائفيين يحيون ذكرى مناسبات تستمر )180( يوما وال يحيون ذكرى يوم واحد استشهد فيه قائد من اجل شعبه..
“!فلماذا؟
ويستطرد: “ثمة حقيقة سياسية، هي: ان الضّد في الحكم يظهر قبحه الضّد، والضدان هنا هما رؤساء وزراء حكومات
.”ما بعد 2003 ، وعبد الكريم قاسم.. رئيس وزراء حكومة 1958
ويضيف قائًال: “ولو انك سألت اي عراقي غير طائفي سيجيبك بسطر يغني عن مقال: )ألن سمو اخالق عبد الكريم
قاسم ونزاهته وخدمته لشعبه.. تفضح فسادهم وانحطاط اخالقهم وما سببوه للناس من بؤس وفواجع.”(
ويواصل الكاتب ذكر إيجابيات الزعيم، فيضيف: ))ولك ايضا أن تتغاضى عن انصافه الفقراء واطالقه سراح
المسجونين.. ولكن حتى أبغض اعدائه ال يمكنهم أن يتهموا الرجل بالفساد والمحاصصة والطائفية والمحسوبية
والمنسوبية.. وتردي األخالق، مع أن قادة النظام الحالي رجال دين، وأن عليهم ان يقتدوا بمن خصه اهلل سبحانه بقوله
)وانك لعلى خلق عظيم(.. فيما عبد الكريم قاسم ليس له اهتمامات بالدين، فالرجل لم يطل لحية وما لبس عمامة.((
انتهى
كل ذلك صحيح، ورغم ما في المقال من مبالغات في السلبيات التي وصف بها الزعيم ، فقد قمت بتعميمه على
.مجموعات النقاش، وإعادة نشره على صحيفتي في الفيسبوك
:ولكن األخ الكاتب، ولألسف الشديد قد بالغ في السلبيات التي وصف بها الزعيم حيث جاء في قوله
قد نختلف بخصوص عبد الكريم قاسم كونه عقلية عسكرية يعوزه النضج السياسي، ولك ان تدين شّنه الحرب على”
الكرد عام )61( واستئثاره بالسلطة، ومعاداته لقوى عروبية وتقدمية وما حدث من مجازر في الموصل، واصطناعه
حزبا شيوعيا بديال للحزب الشيوعي العراقي الذي عاداه رغم انه ناصره حتى في يوم االنقالب عليه )8 شباط
1963(. ولك ان تحّمله ايضا مأساة ما حصل ألفراد العائلة المالكة، وتصف حركته بأنها كانت انقالبا وضعت
“.العراق على سكة األنقالبات
أقول، أن ثورة عظيمة مثل ثورة تموز ال بد وأن تحصل فيها أخطاء، بل وحتى كوارث، إذ كما قال لينين: “الثورة
.” وعن تصرفات الجماهير في الثورات، قال أنجلز: “ال
هي مهرجان المظطهدين، وهناك مجال للمجرمين أيضًا
تتوقع من شعب مضطهد أن يتصرف بلياقة.” وهناك كتب تبحث في هذا الشأن، مثل كتاب )سايكولوجية الجماهير(
.لعالم االجتماع الفرنسي غوستاف لوبون، جدير بالقراءة
نعم، لقد بالغ الكاتب في هذه السلبيات، إلى حد أن أحد القراء علق قائال ما معناه أنه “لو قارنا بين السلبيات الزعيم
!!وإنجازاته لفاقت السلبيات على اإلنجازات
إخفاقات أو سلبيات عبدالكريم قاسم فاقت إنجازاته؟
فهل حقًا
لذلك أود هنا توضيح بعض ما ذكره الكاتب وما يردده خصوم الثورة عن السلبيات المذكورة أعاله وخاصة القول أن
.الزعيم قاسم شن حربًا على الكرد.. الخ
أوًال، هل كانت هناك ضرورة للثورة على النظام الملكي؟
الجواب وفق قوانين حركة التاريخ: نعم، فالنظام الملكي قد تجمد ولم يتغير، بينما حصلت تغييرات كبيرة في المجتمع
إطالقًا طوال تاريخه منذ تأسيسه عام 1921 إلى
العراقي اقتضى التغيير. خاصة وأن العهد الملكي لم يكن مستقرًا
.سقوطه في تموز عام 1958
وأفضل وصف لظاهرة الثورات جاء في كتاب )عصر القطيعة مع الماضي(، للمفكر األمريكي بيتر ف دركر قائًال:
“أن الثورة ال تقع وال تصاغ ولكنها )تحدث( عندما تطرأ تغييرات جذرية في األسس االجتماعية تستدعي )إحداث(
تغييرات في البنية االجتماعية الفوقية تتماشى مع )التغييرات( التي حدثت في أسس البنية المجتمعية، فإن لم ُيسَتبْق إلى
هذه األحداث تنخلق حالة من التناقض بين القواعد التي تتغير وبين البنية الفوقية ]السلطات[ التي جمدت على حالة
الالتغيير. هذا التناقض هو الذي يؤدي إلى الفوضى االجتماعية التي تقود بدورها إلى حدوث الثورة التي ال ضمانة
إنسانية إيجابية.” انتهى
على أنها ستكون عمًال عقالنيًا ستثمر أوضاعًا
.يعني أنه يجب الحكم على الثورة بأسبابها وليس بنتائجها، رغم أن الثورة حققت نتائج باهرة خالل عمرها القصير
و يؤكد ضرورة وحتمية ثورة 14 تموز العراقية المؤرخ الدكتور كمال مظهر أحمد فيقول: “وفي الواقع إن أكبر خطأ
قاتل ارتكبه النظام ]الملكي[ في العراق يكمن في موقفه من الديمقراطية، فعلى العكس من منطق األشياء، سار الخط
البياني لتطور الديمقراطية في العهد الملكي من األعلى إلى األسفل، ال من األسفل إلى األعلى، ويتحمل الجميع وزر
.”ذلك، ولكن بدراجات متفاوتة
، تهمة أن الزعيم قاسم وضع العراق على اإلنقالبات العسكرية
ثانيًا
، أن قبل ثورة تموز حدثت
هذه التهمة هي األخرى لم تصمد أمام أية محاكمة منصفة. لقد نسي هؤالء أو تناسوا عمدًا
نحو 8 إنقالبات عسكرية، بين ناجحة وفاشلة، وأول هذه االنقالبات هو االنقالب الذي قاده الفريق بكر صدقي عام
،1936. والذي كان أول إنقالب ليس في العراق فحسب، بل وفي البالد العربية كلها
، حول اتهام الزعيم عبداكريم قاسم بشن الحرب على الكرد، واالتهامات األخرى
ثالثًا
حاول الكاتب قاسم حسين صالح أن يلقي اللوم على الزعيم حيث قال أن من أخطائه أنه شن حربًا على الكرد،
وسلبيات أخرى حصلت خالل حكم الزعيم. وهذا خطأ، إذ هناك بحوث أكاديمية تؤكد أن األغوات اإلقطاعيين الكرد
مثل حسين المنكوري وغيره، هم الذين بدأوا بشن الحرب على الثورة، و بتحريض ودعم من شاه إيران الذي كان
من وصول عدوى الثورة واإلصالح الزراعي إلى الشعب اإليراني. وكذلك دور بريطانيا حيث الصراع مع
خائفًا
.الشركات النفطية وقانون رقم 80
وأفضل رد على هذه االتهامات جاء من األستاذ مسعود بارزاني في خصوص من خان من؟ ومن شن حربًا على من؟
:وبقية الصراعات الحزبية التي آلت إلى اغتيال الثورة، وإدخال العراق في نفق مظلم لم يخرج منه إلى اآلن، فقال
در لها أن تنشب فلتكن»
ُق
كنت في قرارة ضميري أتمنى أن ال تنشب ثورة أيلول في عهد عبد الكريم قاسم، وأنه إذا
قبل عهده أو بعده، ورَّبما َعذرني القارئ عن خيالي هذا حين يدرك أنه نابع عن اإلحساس بالفضل العظيم الذي ُندين
، والعشيرة البارزانية بنوع خاص
ُكردي عمومًا
…به لهذه الشخصية التاريخية، وأنا أقصد الشعب ال
إني أسمح لنفسي أن أبدي مالحظاتي وأستميح كل مناضلي الحزب الديمقراطي الكردستاني والشعب الكردي الذين»
السماح للسلبيات بالتغلب على
كبيرًا
مارسوا أدوارهم في تلك الفترة عذرًا ألن أقول وبصراحة بأنه كان خطًأ
اإليجابيات في العالقة مع عبدالكريم قاسم، مما ساعد على تمرير مؤامرة حلف السنتو وعمالئه في الداخل والشوفينيين
وإحداث الفجوة الهائلة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وعبدالكريم قاسم. فمهما يقال عن هذا الرجل فإنه كان قائدًا
إلى طبقة الفقراء والكادحين وكان يكن كل
. ال شك أنه كان منحازًا
له فضل كبير يجب أن ال ننساه نحن الكرد أبدًا
فذًا
لو أحسن التقدير. ُيَتَهّم
يحب العراق والعراقيين وكان التعامل معه ممكنًا
الحب والتقدير للشعب الكردي وكان وطنيًا
عبدالكريم قاسم باإلنحراف والديكتاتورية، أتساءل هل من اإلنصاف تجاوز الحق والحقيقة؟ لقد قاد الرجل ثورة
عمالقة غَّيرت موازين القوى في الشرق األوسط ، وألهبت الجماهير التواقة للحرية واإلستقالل وشكل أول وزارة في
العهد الجمهوري من قادة وممثلي جبهة اإلتحاد الوطني المعارضين للنظام الملكي ومارست األحزاب نشاطاتها بكل
من انقلب على من؟ إن بعض األحزاب سرعان ما عملت من أجل المصالح
حرية. ولكن لنكن منصفين ونسأل أيضًا
الحزبية الضيقة على حساب اآلخرين وبدًال من أن تحافظ أحزاب الجبهة على تماسكها الذي كان كفيًال بمنع عبدالكريم
قاسم من كل إنحراف، راحت تتصارع فيما بينها وبعضها تحاول السيطرة على الحكم وتنحية عبدالكريم قاسم ناسية
أولويات مهامها الوطنية الكبرى إني أعتبر أن األحزاب تتحمل مسئولية أكبر من مسئولية عبدالكريم قاسم في ما
حصل من انحراف على مسيرة ثورة 14 تموز )يوليو( ألن األحزاب لو حافظت على تماسكها وكرست جهودها من
أجل العراق، كل العراق ووحدته الوطنية الصادقة، لما كان بإمكان عبدالكريم قاسم أو غيره اإلنحراف عن مبادئ
أن أعداءه الذين قتلوه بتلك الصفة الغادرة فشلوا في
الثورة. إن عبدالكريم قاسم قد انتقل إلى العالم اآلخر، ويكفيه شرفًا
العثور على مستمسك واحد يدينه بالعمالة أو الفساد أو الخيانة. واضطروا إلى أن يشهدوا له بالنزاهة والوطنية رحمه
اهلل. لم أكره عبدالكريم قاسم أبدًا حتى عندما كان يرسل أسراب طائراته لتقصفنا، إذ كنت امتلك قناعة بأنه قدم كثيرًا
لنا، كشعب وكأسرة ال يتحمل لوحده مسئولية ما آلت إليه األمور. وال زلت أعتقد أنه أفضل من حكم العراق حتى
« .اآلن
مسعود البارزاني، زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، فصل عن ثورة 14 تموز ،1958 من كتاب: البارزاني
.والحركة التحررية الكردية.(( انتهى
ولمن يرغب في معرفة المزيد عن هذه الثورة وقائدها الزعيم عبداكريم قاسم، أدرج في الهامش مجموعة من روابط
.مقاالت كنت قد نشرتها في السنوات السابقة، كلها موثقة بمصادر ال يشك في حياديتها
abdulkhliq.hussein@btinternet.comm
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
روابط ذات عالقة بالموضوع
قاسم حسين صالح: هل سيتم األحتفاء بذكرى ثورة 14 تموز؟ 1-
https://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=970099&catid=325
*د.عبدالخالق حسين: أسباب ثورة 14 تموز ،1958 )الوضع قبل الثورة( 2-
https://www.ahewar.org/debat/s.asp?aid=684592
م انقالب؟
َأ
:د. عبد الخالق حسين 3-هل ما حدث يوم 14 تموز ثورة
https://akhbaar.org/home/2012/07/132954.html
كتاب د.عبد الخالق حسين: )ثورة وزعيم( عن الزعيم عبد الكريم قاسم وثورة 14 تموز 1958 4-
https://www.akhbaar.org/home/2019/7/260100.html
:عبد الخالق حسين 5- منجزات ثورة 14 تموز1958*
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=605277
منجزات الزعيم عبدالكريم قاسم خالل فترة حكمه 6-
http://www.akhbaar.org/home/2018/7/246337.html
رابط صحيفة الكاتب على الفيسبوك
https://www.facebook.com/abdulkhaliq.hussein.1?fref=photo