الثلاثاء, نوفمبر 26, 2024
Homeمقالاتلماذا تُكرِّر مَأساة الإمام الحسين نفسها عِراقياً؟ : مصطفى القرة داغي

لماذا تُكرِّر مَأساة الإمام الحسين نفسها عِراقياً؟ : مصطفى القرة داغي

سؤال يفترض بنا أن نطرحه على أنفسنا وعلى مجتمعنا، وأن نخضِعه لبحث موضوعي دقيق، لنخرج بنتيجة قد تساعدنا على تجَنّب تكرار هذه المأساة. هل هي لعنة مجهولة المصدر تَطال كل من تطأ قدَمه أرض العراق، وتحديداً من الحجاز، ومن نَسل بني هاشم؟ أم أن هنالك عوامل تتسَبّب في تكرارها لا بُد من تشخيصها، ومحاولة التعامل معها وعلاجها، لمنع تكرارها  في حاضر العراق ومستقبله، كما تكررت مَرّات ومَرّات في ماضيه البعيد والقريب!؟

الجواب على هذا السؤال إبتدائاً، يكمُن في طبيعة الشخصية العراقية المُعقدة، التي لم تتغير، رغم تغيّر الأنظمة والحكام، وما مَر بها من أحداث لم تُنضِجها، كما يحدث مع أي شخصية سَوية، لأنها سَلبية عَصِّية على التعَلّم مجتمعياً. فالمجتمع العراقي إتّكالي في كل شيء، لا يسعى للتعَلّم، ولا يُبادر بالفِعل. لا يُربّي الفرد على تحمل المسؤولية والإعتماد على النفس بالتفكير والمبادرة، بل أن يُلقي بحِمله على الغير وينتظر الفرج مِنه أو مِن السماء. لهذا هو أكثر المجتمعات إيماناً وتمَسّكاً بفكرة المُخَلِّص الذي سيظهر يوماً”ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلِأت ظلماً وجوراً”، ممثلاً بشخصية المهدي المنتظر الوَهمية. لكن في نفس الوقت الشخصية العراقية، وهذا جزء من تداعيات إزدواجيتها وشيزوفرينيتها، قلقة مَلولة لا يُعجبها العَجَب أعجَزَت كل حكامها. وفي الوقت الذي يُقنِع العراقيون أنفسهم، عَواماً ومثقفين، أن هذه ميزة في الشخصية العراقية ودليل تفرّدها بعَدم الخنوع لأي كان، يُثبت التأريخ العكس، فقد خنَعَت خلال مراحل التأريخ لنماذج مختلفة من الحكام.

هذا ما حدث مثلاً مع الامام الحسين، فأهل العراق لم يثوروا على يزيد ولا حتى عامِله على العراق زياد بن أبيه، رغم أنه كان ظالماً لهم، كما ذكروا في عشرات الرسائل التي بعثوها للإمام الحسين يستنجدون به ويبايعوه ليُخَلّصهم من ظلمه، بل طلبوا من غيرهم أن يقوم بهذه المهمة بدلاً عنهم، وعاهدوه أن ينصروه. وحينما فعلها نقضوا عهده وإنقلبوا عليه وغدروا به وقتلوه ومَثلوا بجثته في واقعة الطَف، خوفاً من يزيد وخنوعاً له، رغم أنهم كانوا يسُبونه في الخفاء! هذه الشيزفرينيا والإزدواجية والتناقض عَبّرت عنها بصِدق عِبارة الفرزدق التي قالها للإمام الحسين، حينما إلتقى به وهو قادم من الكوفه، التي تؤشِّر سلبية شخصيتهم وطبيعتهم كمجتمع: “قلوبهم معك، أما سيوفهم فعليك”! لتتكرر هذه الظاهرة بعدها في العراق تباعاً، مع الكثيرين من أحفاده، عِبر مراحل التأريخ المختلفة.

تَكَرر الأمر بعدها بسَنوات مع حفيده الإمام زيد بن علي، وبنفس الطريقة والسِياق. فقد أرسل اليه أهل العراق يبايعونه، ويدعونه للقدوم لنصرتهم وتخليصهم من ظلم يوسف بن عمر، عامل هشام بن عبد الملك على العراق، ثم نكثوا بيعته وإنقلبوا عليه، بعد حادثة قدوم وفد من وجهاء الكوفة وسؤالهم له عن رأيه في الشيخين، أي الخليفتين أبو بكر وعُمر، فقال لهم “ما سَمعت أحداً من آبائي تبَرّأ منهما، ولا يقول فيهما إلاّ خيراً”، فإمتعضوا من جوابه تمهيداً لغَرَضِهم الذي على ما يبدو كان يكمن خلف السؤال، وهو حَلّ عُرى العهود والمواثيق الصادرة منهم، وإتخذوا مِن عدم تبرؤه من الخليفتين ذنباً يستوجب عدم نصرته، فتركوه ليُحارب جيش هشام بن عبد الملك وحده مع أصحابه حتى قُتِل ودُفِن، ثم أخرِجت جثته بعد دفنها وقَطعُ رأسِها وصَلبها لما يقارب الأربع أسابيع، وليَتِم أخيراً إحراقها!

ثم تكرر الأمر بعدها بقرون مع أحفاده وأحفاد أخيه من أفراد العائلة الهاشمية المالِكة، الذين كان لهم فضل تأسيس دولة العراق الحديثة، من ثلاث ولايات عثمانية خَرِبة، ولملوم مكونات متشرذِمة، بتفان وإخلاص، بعد أن بايَعهم العراقيون بأنفسهم، وطلبوا مِنهم أن يكونوا ملوكاً عليهم، ثم غدَروا بهم وجازَوهم بمَجزرة يَندى لها جبين الإنسانية. فقد إنقلبوا عليهم  وقتلوهم وسَحلوا جثثهم وأحرقوها وعلقوها على أعمدة الكهرباء. وإذا كانت بقية مِن مروءة مَنعت جُند يزيد وزياد بن أبيه عَن قتل نساء آل البيت في واقعة الطف، وإكتفوا بقتل الرجال فقط، فإن جنود عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، الذين كان للملوك فضل تأسيس جيشهم، ولهم في رقبتهم عهد وقسَم ولاء، لم يُقيموا حُرمة لأحد ولم تَسلم منهم حتى النساء!

آخر من تَكرر مَعه الأمر ببشاعة غير مُبرّرة، لكنها ليست غريبة على تطرف الشخصية العراقية، هو السيد عبد المجيد الخوئي، نجل الإمام الراحل أبو القاسم الخوئي، أحد أكبر مراجع الشيعة، الذي كان مِن القلائل الذين إجتمع غالبية الشيعة على تقليدهم. كان السيد مجيد مقيماً في بريطانيا قبل سقوط نظام صدام، يدير مصالح مؤسسة والده الخيرية التي مقَرّها لندن، وبفضل إسمه وجاهِه تمكن من بناء شبكة علاقات مع شخصيات وحكومات عربية وغربية. كان يحلُم، بعد عودته الى العراق بتوظيفها، الى جانب مكانته بين أبناء طائفته والعراقيين عموماً، لخدمة بلاده. لكنه لم يكن يعلم بأن الزمن قد تغير، وبعد موت والده، الذي كان يُوَجّه المرجعية ومقلديه بعقلانية، ظهَر لاعبون جُدد على ساحة المرجعية، إستقطبوا الناس بالتهييج. فبعد يوم واحد مِن عودته للعراق، وحين كان في مرقد الإمام علي، هاجمه أتباع مقتدى ووالده، بحجة أنه كان برفقة حيدر الكِلدار سادِن مرقد الإمام، الذي إتهموه بأنه من أتباع صدام والبعث، رغم أنهم كانوا فدائي صدام وآبائهم كانوا بعثيين، وقتلوه مع الكِلدار في مرقد جَدّه وإمامهم، الذي يدعون بأنهم شيعته! ومثلوا بجثته وسَحلوها في باحته، ولم تشفع له لا مكانة والده، ولا عمامة جده، ولا حَضرته التي سالت دِمائه على أرضها!

إن السَبب في تِكرار هذه الأحداث المُريعة في سيرة حياة العراقيين، إضافة الى طبيعة شخصياتهم الشيزوفرينية المُلتبسة، التي تفعل الشيء ونقيضه، وتُبطن غير ما تُظهِر، وتقول غير ما تفعل، والتي ما في قلبها ليس الذي على لسانها، وغيرها من تناقضات مُرعبة شَوّهت المجتمع العراقي ودَمّرت العراق، هو أنهم لا يقرأون التأريخ جيداً، ولا يتعلمون مِن دروسه لتغيير أنفسهم وإصلاح عيوبها، كما تفعل الأمم والشعوب الواعية، لأن الغريزة هي التي تتحَكّم بوَعيهم، وليس العقل، ولا حتى العاطفة. لذا نجدهم متطرفين بمشاعرهم ومواقفهم، ونراهُم يَجترون نفس المَفاهيم المُشوهة التي تدفعهم لتكرار نفس الأخطاء. لا تزال ثقافة الموت تَتمَلّكَهُم مُتجسِّدة بشعار”الموت لنا عادة، وكرامتنا من الله الشهادة”، الذي يُردّدونه هيستيرياً بفَخر في كل مناسبة تسنح لهم. ولا تزال عقلية الثأر تَتَلبّسهُم مُتجسِّدة بشعار”كل يوم عاشوراء، وكل أرض كربلاء”،الذي يُهَلوسون به كلما تسنح لهم الفرصة. وهي نفسها التي دفعتهم لترسيخ سُلطة الشِلّة الفاسدة المجرمة الحالية بإعادة تدويرها عبر الإنتخابات. وهي نفسها التي تتوعّدهم متباهية بالقتل كمَن سبقهمَ في حال سقوطهم. العراقيون لم يفهموا ويتعلموا الى الآن أن الحل هو دولة قانون يُحاسَب فيها الفاسد والمجرم بالقانون، لا بالقتل والسَحل الذي يُعيد إنتاج دورة أسبابه ونتائجة الدموية المأساوية، مُكَرِّساً ثقافة الغاب التي أعادَتهم قروناً الى الوراء. فيما راجعت بقية الشعوب تأريخها بتعَقّل وضمير، وتعلمت منه دروس وعِبر دفعتها لعدم تكرار الأخطاء، وبالتالي التطور والتقدم والتعايش مع نفسها ومع غيرها بسلام.

لذلك يكذب العراقيون على أنفسهم وعلى الآخرين، حين يَدّعون بأنهم”مع الحسين” ومن أتباعه وشيعة أهل بيته والساعين للإلتحاق بسفينته! فأحداث التأريخ تُبَيّن العكس، وتثبت أنهم كانوا”ضد الحسين” وأعداءَه على مَر الزمن وطول الخط. بل لطالما تقمّص بعضهم دور الفئران التي تهرُب مِن السفينة بعد أن تغرِقها كما فعلوا معه، ثم كرّروها مع حفيده زيد مروراً بعبد الإله وفيصل الثاني وصولاً للخوئي. ولا أحد يعلم مَن المسكين مِن أحفاده الذي سترميه الأقدار بين أيديهم مستقبلاً ليكرروها معه، لأنها باتت عادة أدمَنوها ويَنتشون بتكرارها. فالغدر بآل البيت وإغتيالهم في العراق لا يبدو حدثاً عابراً،بل مَنهج تفكير وفعل سياسي مُعتمَد ويتم تطبيقه! فحين يَعجزون عن قتل أحد سليلي هذه العائلة، الذي قاده حظه العاثر إليهم صدفة أو بدعوة منهم، ويفلت من إجرام أيديهم، فإنه لا يسلم مِن سَوءة لسانهم، وسيجحدون فضله في أحسن الأحوال. كما فعلوا مع الملك فيصل الأول الذي يصفونه بـالمستورد، كونه حجازياً. وكأنهم ليسوا أحفاد من جاؤوا من الحجاز واليمن والشام وتركيا والهند وإيران، وإنما أحفاد حمورابي وسرجون الأكدي وآشور بانيبال! بل وكأنهم ليسوا أولئك الذين حَفَت أرجلهم الى أبيه وتوسلوا به ليحكمهم، كونه هاشمي! المفارقة هي أننا نجد هذه الظاهرة لدى أكثر شعب يَستعرِض حُب آل بيت النبي! وبلاده تحتوي على مراقد تحتضن رفات الحسين وأبيه وأخوته وأحفاده! هذا التوصيف السفيه لا تسمَعه سوى من العراقيين، الذي هُم أساساً لملوم مستورد، فجاء فيصل لينتشلهم خلالها من التخلف والذل والمهانة التي كانوا يعيشونها تحت حكم العثمانيين لخمسة قرون، وتمكن خلال13 سنة فقط أن يَلم شَعثهم ويجعلهم شعب له قيمة، ويؤسس لهم دولة و وطن من العدك، بتجميع3 ولايات عثمانية خَرِبة! هذا الأمر لم يفعله أهل الشام مثلاً مع أحفاد آل البيت، رغم أن العراقيين يُعيّرونهم بأنهم كانوا جيش معاوية ويزيد، ويزايدون عليهم بحب آل البيت، إذ لا يزال فيصل رمزاً للسوريين، رغم أنه لم يحكمهم سوى بضعة أشهُر، ولم أسمع سورياً يَصِفه بالمستورد. كذلك المغاربة الذين لم نسمَع أحدهم يَصِف الملك محمد السادس وأبيه الحسن الثاني بالمستوردين، رغم أنهم أحفاد سلالة لآل البيت قدمت من الحجاز تحكمهم منذ4  قرون. كذلك الحال مع الأردنيين، الذين لا أظن أنه سيَخطر ببالهم يوماً وصف مؤسس بلادهم الملك عبد الله وولده طلال وولده الحسين وولده عبد الله بالمستوردين. بدليل أنهم تولوا حكم الأردن بنفس الوقت الذي تولى فيه فيصل الأول حكم العراق. لكن هاهُم يحكمون الأردن منذ أكثر من قرن، فيما أُبيدَت عائلته وتَعاقَب الحثالات على حكم العراق منذ14 تموز1958 والى اليوم.

إن كل ما يَدّعيه العراقيون ويُمارسونه من شعائر تحت يافطة حُب الحسين، هو تمثيل للتنفيس وقضاء الوقت. فمن يُحب الحسين حقاً، ويُواضب على أحياء ذكراه بصدق كل عام، لا يقتله ويُواظب على قتل أبناءه وأحفاده كالقاتل المتسلسل، بما يشبه التقليد! هذه اليافطة هي بالحقيقة غطاء لتِجارة رابحة تَدُر المليارات، يَعتاش عليها ومِنها مئات الآلاف من المُحتالين المُخادعين، عِبر خِداع وإستغفال مئات الملايين، منذ قرون. فبإسمه يُجبى الخُمس، وباتت ذكراه مناسبة لزيارات مليونية ولتوزيع الأطعمة وقراءة المراثي. ومِن هذه اليافطة يَستمد رجال دين طفيليون شرعيتهم، ويُبَرِّر ساسة إسلاميون فسادهم وأجرامهم، وكله بثواب إسم الحسين! وبَدل أن تكون واقعة الطف درساً لإستِلهام القيَم، باتت تقليداً يُكرِّره العراقيون كلما مَر عليهم حفيد للحسين وآل البيت. ويبدو أن الفرزدق قد فاته أن يقول له، حينما سأله عَن أهل العراق: قلوبهم معك، أما سيوفهم فعليك وعلى أبنائك وأحفادك!

 

مصطفى القرة داغي

karadachi@gmail.com

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular