حينما تقرأ رواية سلام إبراهيم (دُونْت سبيك أسطب) لابد وأن تتوقف عند العنوان الملفت للنظر وستتساءل: ماذا يريد ان يقول الكاتب او الراوي.. في عمله الإبداعي.. إذا كان منذ البداية يضعك امام موقف يتطلب منك السكوت والخضوع.. ويصدمك بجملته الأمرية الاستبدادية..
ـ دُونْت سبيك أسطب
جملة تتكرر.. تشكل لازمة لشخصية الاب.. الذي عمل في حقبة العهد الملكي مع الإنكليز.. واخذ منهم هذه العبارة.. ليرددها بشكل ساخر في تعامله اليومي.. مع أقرب الناس له.. زوجته والمحيطين به وتصبح عادة يومية يلجأ لتكرارها.. كلما تتطلب منه ان يحسم نقاشاً او امراً ويقرر عدم الاستجابة للطلب كي يتخلص من موقف محرج..
بهذه الرؤية يستدرجك الروائي المبدع سلام إبراهيم.. في عمله الجديد.. لكي يسرح معك في “جولة تاريخية” عبر الزمن.. هو زمن يمتد من منتصف القرن الماضي حتى يومنا هذا.. والأماكن هي الحدود الجغرافية للعراق في العهد الملكي.. وما تلاها من تنقلات ومحطات مفروضة على الكاتب وبقية من يشتركون في رواية وصنع الاحداث.. تتوسع رقعتها الجغرافية.. ابتداء من أجواء بيت العصري وأحياء الديوانية.. لتمسح من خلالها أسماء ومدن يتواجد فيها بشر يكافحون من اجل لقمة العيش.. في أجواء معقدة.. صاخبة.. تنتهك فيها براءة وكرامة الأجيال.. الذين يدخلون دهاليز واقبية السجون والمعتقلات.. ليشهدوا احداث ومفاجآت لم تكن بالحسبان..
تشكل في محتواها وخيوطها اطاراً لحياة عائلة.. هي عائلة الكاتب. التي قرر في لحظة يقين ابداعي تدوين جزء من تاريخها الاجتماعي.. رابطاً بين العمل ومتطلبات العيش والهموم والارهاصات.. التي تدفع بأفراد العائلة للوعي.. واختيار الموقف.. وتبدأ مرحلة الصراع مع النفس والمحيط..
هو محيط العائلة.. العلاقة بين الأب ـ عبد إبراهيم عبود وزوجته الأم علية عبود يعقوب وشقيقه خليل إبراهيم عبود.. واخواتهم.. ومن ثم الأبناء حينما يكبرون ويدخلون المدارس.. وما يرافقها من ملابسات التعليم.. الذي لا يخلو من قسوة تعامل.. يشهدها سلام ومن معه في الصف.. بحكم وجود أستاذ مؤمن يعتقد إن القسوة هي الطريقة الملائمة والناجحة في التعامل مع من لا يستجيبون لحفظ النصوص الدينية.. وجعل من الضرب المبرح الركن الأساسي في التعليم.. متناسياً متطلبات البراءة.. وحاجة الأطفال للحنان والرعاية الإنسانية.. ناهيك عن التشويق المطلوب لجذبهم لأماكن التدريس ودفعهم للتشبث بالدراسة وحب المعرفة..
من هذه البدايات.. مه تداعيات شخوصها.. تنقلك الرواية عبر محطاتها “لتؤرخ” لزمن عراقي يبدأ مع منتصف القرن العشرين.. ليسجل سلام إبراهيم عبر فصول روايته شيئا ً من “تاريخ العائلة”..
هذا التاريخ الذي ينبغي ان لا نتعامل معه كوثيقة تقترب من السيرة الذاتية والمذكرات.. طالما كنا في حدود وإطار العمل الروائي.. الذي يتطلب من الكاتب مزج الكثير من خياله وتصوراته الذهنية مع النص ” التاريخي” ووقائع الزمن والاحداث.. التي طالت العائلة.. ومن خلالها امتدت لتروي.. ما حدث في احياء الديوانية.. ومن ثم في بقية ارجاء العراق.. ماراً في محطاتها على ملابسات الحصول على فرص العمل.. ومن ثم بدايات النشاط السياسي المرافق للصراعات المحتدمة التي لا تخلو من العنف وقسوة السلطة.. وقصص وحكايات السجون.. ومن بعدها سلسلة الانقلابات العسكرية والحروب المتتالية.. ومراحل الاختفاء في المدن المستباحة.. والتوجه للعمل الثوري في حركة الأنصار.. وما رافقها من حب وعشق.. وما سبقها من تجارب عمل وملابسات معرفة.. لعلاقات سرية لا تخلو من ممارسات شاذة.. وحالات استدراج للتعامل مع متطلبات الجسد.. في استجابة لغريزة تفرز انعطاف سلوكي.. في لحظة تماهي.. غالباً ما تكون في فضاءات بعيدة عن العيون.. او في أماكن يصعب رصدها.. لكنها مكشوفة ومعروفة للبعض.. ممن قرر تتبعها.. وكان سلام واحداً ممن دخلوا في متاهاتها..
بهذا العرض الغني والمتشعب.. يضعك سلام ابراهيم من خلال محتوى نصه الإبداعي.. امام رواية اجتماعية.. سعى عنوانها.. كما هو موضح في الجملة الإنكليزية (دُونْت سبيك أسطب) ليكتم الافواه.. ويمنع المناقشة.. او ابداء الرأي.. وهي جملة مقترنة بالوجود المستحكم بسلطة العهد الملكي في العراق.. وانعكست من خلال لغته الإنكليزية.. على واقع الحياة في العائلة.. وأصبحت جزء من تعامل الأب مع الأم.. في منحى درامي ساخر.. وظفه سلام بإتقان سلس فيه الكثير من السخرية..
ليغوص عبر بقية فصول الرواية وتداعياتها.. في لجة قسوة تتواصل.. تتشعب.. لتزهق المزيد من الأرواح.. قرر تعريتها وفضحها.. متمرداً على العنوان.. ومتجاوزاً حدود منعه واستبداده.. متشبثاً بحرية الكلمة.. وفضح وهتك كل الممارسات البشرية.. التي يجري تغليفها والسكوت عنها.. في مسعى لقول وتسجيل ما يمكن قوله او التطرق اليه.. ولو من خلال محتوى هذه الرواية “التسجيلية ـ التوثيقية ـ التاريخية ” كأنه في غمار بعد نفسي مشاكس.. قرر عدم الاعتراف بالهزيمة.. واختار التحدي.. ليثبت لنا نحن القراء.. انه لم يستسلم لانكسارات الاحداث.. وتحولات الزمن القاسية.. وانه ما زال قادراً على الوقوف على قدميه.. والنطق بما لا يسمح به العنوان.. مغرداً عبر روايته بالموقف المطلوب.. لتشخيص علة الحدث.. ورفض النتائج المريرة المفروضة على الناس.. بنداء يمزق سكون الفاجعة.. ويضع حداً للصمت..
هو صمت الموت.. الذي تجاوزه سلام.. ونجا منه.. ليبقيه حياً وشاهداً يروي من خلال نصه الروائي تفاصيل تلك الاحداث.. وما رافقها من قسوة وخذلان.. وتخاذل وخيانات.. كما رافقها من بطولات ومآثر وحكم ينبغي عدم الخلط بينها..
وان كانت الاحلام قد اجهضت.. ولم تتحقق.. فثمة وعي يدرك ان الضوء قادم.. ويحتاج تحديد الموقف.. الصراحة والنقد والجرأة في مواجهة.. (دُونْت سبيك أسطب).. لخلق البديل.. هي:
ـ هي رواية علاقات اجتماعية متوترة.. فيها الكثير من الكدح والعمل والمهن.
ـ هي رواية كفاح ونضال وصراعات اجتماعية ومتغيراتها.. في سياق حالات زواج ومصاهرة وحب وعداوات..
ـ هي رواية تجسد في المنحى العالم لها الكثير مما له علاقة بالمفاهيم الدينية وتناقضاتها.. بين الممنوعات بما فيها منع شرب الخمر.. وما يرافقها من زنا وطقوس ومراسيم دينية يجري العبث بها وتجاوزها..
ـ هي رواية المرأة العراقية وتطلعاتها.. معاناتها كأم وزوجة وحبيبة.. بكل ما تعنيه هذه الكلمات من معنى..
ـ هي رواية الولادة والنشأة والمدرسة والتعليم..
ـ هي رواية لا تخلو من جوانب نفسية تغوص في العمق.. لتفصح عن مكنون الذات الإنسانية ومتطلباتها الروحية والجسدية..
ـ هي رواية صراعات سياسية وسلطات جائرة..
ـ وهي رواية ساخرة في الكثير من جوانبها بامتياز..
ـ هي رواية حالمة بعالم أفضل.. فيها الكثير من الابداع.. ابداع عراقي.. رواية سيكتب عنها الكثير الكثير.. تشكل معلماً من معالم الرواية العراقية في زمن أجدب مرفوض..
رواية قالت في محتواها ومضمونها الكثير.. الكثير مما خالف العنوان وعاكسه..
ــــــــــــــــــ
صباح كنجي
14 تموز 2023
ـ دونت سبيك أسطب.. رواية من 444 صفحة.. مؤسسة ابجد للترجمة والنشر والتوزيع 2023