أوراق في المالية العامة
1. تمهيد
تعتبر الموازنة العامة الأداة الرئيسية لتنفيذ التوجهات العامة للدولة، والمعيار الأساسي لسياساتها في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لذا يجب اعدادها وتشريعها وفق الأسس القانونية الخاصة بالموازنة والمعايير العلمية المتعارف عليها في النظام المحاسبي من الجوانب الفنية والصياغة والديباجة، وكذلك فهم وشرح ومناقشة المواد التي تحتويها. كما يجب إعطاء الأهمية الفائقة لتقدير الأرقام الواردة في الميزانية، مبنية على اسس علمية معتمدة على الإحصائيات الدقيقة للحسابات الختامية المتحققة لفترات زمنية مختلفة، واستخدام معدلاتها لهذا الغرض، وتطبيق معايير علمية ومنطقية في قياس كفاءة الأداء والإنتاجية، على أساس الاهداف والبرامج الحقيقية لكل مؤسسة أو دائرة حكومية، وقياس نسبة التبذير والنفقات غير الضرورية والزائدة عن الحاجة، والمتابعة والرقابة الصارمتين على تنفيذها. ويجب ان يكون هناك رؤى وآيديولوجية واضحة في التحكم بالموارد المتاحة بشكل منطقي وعقلاني حتى تكون تقديرات الميزانية أقرب الى الواقع.
لقد تم بتاريخ 11حزيران/يونيو 2023، تشريع الموازنة العامة الاتحادية لمدة ثلاث سنوات، 2023 ــ 2025، إلا ان الميزانيتين للسنتين الأخيرتين ليستا ثابتتين، ويمكن إجراء بعض التعديلات عليهما في حينه من الجهات المختصة وعرضها على المجلس التشريعي للمصادقة عليها، لذا يمكن ان تطلق عليهما الميزانيات المرنة.
2. انعدام رؤية شفافة واستراتيجية و/أو آيديولوجية واضحة في عملية التنمية الاقتصادية/الاجتماعية المستدامة في الموازنات العامة منذ الاحتلال وحتى الموازنة الحالية
لقد تم هدر مبالغ كبيرة في هذه الموازنات، لم تستثمر منها الا مبالغ قليلة جدا في تطوير القطاعات الإنتاجية، وخاصة الصناعية والزراعية، أو في مجالات بناء واعادة بناء البنى التحتية، و/أو جلب التكنولوجيا المتطورة، أو في تحسين وتأمين الخدمات العامة الضرورية من الصحة والتعليم ومياه الشرب والكهرباء ومشتقات النفط، أو لتنفيذ خطط جادة للقضاء على البطالة الواسعة ومعالجة ظاهرة الفقر. لقد تم تبديد غالبية هذه المبالغ في مشاريع وسياسات لا علاقة لها بتحقيق التنمية الوطنية. كما جرى نهب عشرات المليارات منها من قبل المحتلين والفاسدين والمافيات والطفيليين وتهريب العملة للخارج، وعلى المستويات الادارية والحزبية.
3. بنية الموازنة العامة لعام 2023
تتكون بنية الموازنة العامة لعام 2023 كالآتي:
أولا: مجموع الإيرادات: 135 ترليون دينار
أــ الإيرادات النفطية بما فيها صادرات المنتجات النفطية: 117 ترليون دينار، وتمثل 87%، محسوبا على اساس سعر البرميل الواحد70 دولار
ب ــ الإيرادات غير النفطية: 17 ترليون دينار، وتمثل 13%.
ثانياً: أجمالي النفقات: 199 ترليون دينار
أــ النفقات الجارية (تشغيلية، برامج خاصة، مديونية): 150 ترليون دينار، وتمثل 75%.
ب ــ النفقات الرأسمالية (الموجودات، استثمارات محلية، استثمارات قروض): 49 ترليون دينار، وتمثل 25%.
ثالثاً: أجمالي العجز المخطط 199)ــ (135= 64 ترليون دينار، ويشكل أكثر من 12%، من الناتج المحلي الاجمالي.
4. استنتاج وفق بنية الموازنة العامة
وفق البيانات المدرجة في الفقرة الثالثة أعلاه، نستنتج، ما يلي:
ــ بالنسبة للإيرادات، لا تزال نسبة مساهمة القطاع النفطي في تمويل الموازنة العامة عالية جدا، مما يؤكد على استمرار الصفة الريعية للاقتصاد منذ عقدين، وضعف مصادر أخرى متنوعة: القطاعات الإنتاجية، لا سيما الصناعة والزراعة منها، وكذلك إيرادات الضرائب بأنواعها، والتي هي في تناقص مستمر، بسبب صعوبة الجباية وانتشار الفساد المالي والاداري في أجهزتها، كذلك الرسوم الجمركية التي تخضع لشروط المنظمات المالية والنقدية الدولية، منها منظمة التجارة الدولية التي تهدف الى إزالة الحواجز الجمركية بمرور الزمن.
ــ كذلك يشكل العجز المخطط في الموازنة أكثر من 12% من الناتج المحلي الإجمالي.
ــ كما ان نسبة رصيد الدين العام يشكل 35% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وهي لاتزال نسبة عالية. وهناك احتمال انخفاض في أسعار النفط الى ما دون 70 دولار للبرميل الواحد، بسبب الانكماش الاقتصادي العالمي، مما يؤثر على توسيع العجز المخطط في الموازنة العامة الحالية.
5. المبالغ المخصصة للتوظيف والتشغيل والرعاية الاجتماعية ضمن النفقات الجارية في الموازنة الحالية
ان المبالغ المخصصة للتوظيف والتشغيل والرعاية الاجتماعية ضمن النفقات الجارية في الموازنة الحالية، تبلغ قيمتها بحدود 90 ترليون دينار، وتمثل60% من اجمالي النفقات التشغيلية، وهي نسبة عالية جدا، وتحوّل العمال والموظفين الى أدوات عاطلة خارجة عن النشاط الاقتصادي، في وقت تتشتت فيه صنوف العمل وطغيان ظاهرة الاستخدام غير النظامي، الذي يستحوذ على نسبة22% من أفضل قوة العمل المنتجة، سواء من حيث القبول بأجور دون مستوى الانتاجية و/أو العمل بساعات تقل عن 39 ساعة في الأسبوع، وهو الحد المعترف به عالمياً. وبذلك، إذا ما أضفنا البطالة الفعلية لقوة العمل البالغة بحدود30% وفق احصائيات وزارة التخطيط لعام 2021، فيصبح الرقم 52%، وهو ما وصلت اليها حالة اليوم. وهو ما جعل من أرصفة الشوارع مجالاً للبحث عن فرص العمل، وهي حالة مخيفة لما يترتب عليها من أمراض ومختلف صنوف الانحراف الاجتماعي، وتصعيد حوادث الاجرام والقتل والنهب والسلب والسرقة ودعم الإرهاب. لقد بلغت نسبة الفقر في العراق لعام 2022 25%، بحسب وزارة التخطيط.
6. النفقات السياسية والامنية
ان النفقات السياسية والامنية هب الأخرى المهيمنة في الموازنة وتشمل الدفاع، والأمن الداخلي والخارجي، والعدل، والانفاق العسكري، والبرلمان، ورئاستي الوزراء، والدولة.
إن سياسة التمويل بالعجز لهذه النفقات العمومية، لا تؤدي الى خلق الزيادة في تراكم راس المال الثابت، كما يذهب اليه البعض، وكما هو الحال في الانفاق العام الاستثماري، بل تشكل وسيلة لتراكم الثروات في أيدي الأقلية، وبالتالي زيادة المديونية، وتفاقم عجز الميزانية العامة، وتتحول الى حالة مزمنة ترافقها ارتفاع معدلات التضخم، والكساد والبطالة وارتفاع العبء الضريبي. وكل هذه النتائج تنعكس على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للطبقات المسحوقة، بسبب سوء إعادة توزيع الدخل بين طبقات وفئات المجتمع.
7. خلل بنيوي في تركيب الموازنة
هناك خلل بنيوي في تركيب الموازنة، وذلك بسبب التفاوت الكبير في نسبة توزيع نفقات الموازنة بين الانفاق العام التشغيلي، التي تمثل 75% والإنفاق العام الاستثماري، والذي يشكل 25% من مجموع الموازنة. تسبب هذه الحالة عجز الموازنة في خلق ديناميكية على مستوى تحقيق النمو الاقتصادي، مثلاً 5%-7%، والذي يشترط وجود استثمارات ضخمة يحتاجها البلاد، وخاصة في اعادة تحقيق النمو الاقتصادي، وتأهيل القطاع النفطي إلى 5-6 مليون برميل يومياً وبأسعار معتدلة للنفط في المستقبل المنظور. كذلك النهوض بالقطاعات الإنتاجية، وبناء البنى التحتية وفي مقدمتها القطاع الصناعي والزراعي وغيرها، وتوزيع نفقات الميزانية بحيث تصبح حصة النفقات الاستثمارية بحدود 30% ــ 40% من مجموع نفقات الموازنة العامة في الأمد المنظور.
8.من باب الختام
إن تشريع الميزانية العامة بشكلها الحالي، لا يمكن ان يؤدي مهامه في عملية الانتعاش الاقتصادي في العراق، ضمن أوضاع أمنية منفلتة، وفشل السياسات الاقتصادية للحكومات المتتابعة منذ الاحتلال حتى اليوم. فهناك خلل بنيوي في تركيبة الميزانية العامة، بين الإيرادات والانفاق لصالح الأخير، مما يؤدي الى تراكم المديونية الداخلية والخارجية من جهة، وبين الانفاق التشغيلي والاستثماري لصالح الاول، وهو ما يجعل من الموازنة العامة موازنة استهلاكية بدلا من موازنة إنتاجية تساهم في خلق القيمة المضافة والعملية التنموية من جهة اخرى.
لذلك فإن هذه الموازنة لا تساهم في استقرار الاقتصاد الكلي، ومن ثم في استدامة السياسة المالية والنقدية لأن الاقتصاد العراقي مرتبط بالنفط، يتأثر بتبعيات التقلبات في اسعار سوق النفط، وفي معدلات إنتاجه السنوي، كذلك الاختلالات الهيكلية الاقتصادية فيما يتعلق بالإدارة المالية العامة واتساعها، نتيجة السياسات الحكومية في توسيع الانفاق العام، خاصة ما يتعلق بالإنفاق التشغيلي وزيادة التشغيل والتوظيف في القطاع العام، بالإضافة الى سوء الادارة المالية والنقدية، وعدم الاسترشاد باركان الادارة الرشيدة المعروفة: (الديمقراطية، الشفافية، النزاهة، المسؤولية والواجبات…وغيرها). كذلك تفاقم واتساع ظاهرة الفساد المالي والاداري والاقتصادي على كافة المستويات الادارية، وغياب الضمانات الكفيلة بحماية الثروة الوطنية والمال العام، واستمرار الخلافات السياسية بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان العراق، وذلك فيما يتعلق بالحصة المخصصة للإقليم من الموازنة العامة ومداخيل نفط الاقليم.
والبديل لهذه السياسة، هو الاعتماد علي سياسة مالية تستند الى استراتيجية تنموية، من خلال وجود رؤية واضحة ومعللة فيما يتعلق بأولويات وأهداف التنمية، ضمن استراتيجية التنمية الوطنية، وتوسيع إطار هذه الاستراتيجية بما يكفل صياغة برامج قطاعية محددة، وإعادة ترتيب الأوليات بحيث تضمن معدلات مقبولة للأداءوالنمو الاقتصادي، وتهدف الى اشباع الحاجات الأساسية والمتنامية للمواطنين في المستقبل المنظور، ومعالجة مشكلة البطالة والفقر، وبعث الحيوية في قدرة الدولة على أداء مهامها بأحسن وجه ممكن، وتوفير الامن والاستقرار وحياة كريمة للمواطنين، والتقدم والازدهار في البلاد.
(1) المقال منشور على شبكة الاقتصاديين العراقيين، بتاريخ 24/ 06/ 2023
* دكتوراه في فلسفة الاقتصاد الكمي/محاسبة التكاليف، باحث أكاديمي متقاعد في النظام المحاسبي.
22 حزيران/يونيو 2023