منذ الانقلاب العسكري في 30 حزيران/يونيو 1989 تولى عمر البشر السلطة في السودان، وهو لا يزال يحكم البلاد منذ ثلاثين عاما بالحديد والنار. وهو واحدٌ من بين أشد المستبدين والساديين الذين عرفتهم منطقة الشرق الأوسط مثل صدام حسين ومعمر القذافي وزين العابدين بن علي وحسني مبارك وحافظ الأسد الذين انتهوا إلى مزبلة التاريخ، وبعضهم لا زال يحكم البلاد مثل عبد الفتاح السيسي وبشار الأسد والأمير محمد بن سلمان وبعض حكام دول الخلج العربي، أو خامنئي، أو بشكل غير مباشر كنوري المالكي وقاسم سليماني ولن تكون عاقبة هؤلاء بأفضل ممن سبقوه من الحكام. لقد مارس البشير، العسكري الجاهل والفاسد، سياسة دينية متطرفة ومستبدة قادت بالنهاية إلى قيام دولة جديدة في جنوب السودان، التي لم يكن سكانها بالضرورة يدعون إلى الانفصال، لولا السياسة العدوانية والدينية المتطرفة الخرقاء التي مارستها حكومة البشير على نحو خاص. وقد عبر لي عن ذلك صراحة وبوضوح القائد الجنوبي الدكتور جون قرنق حين التقيته في هافانا/كوبا أثناء انعقاد مؤتمر الحزب الشيوعي الكوبي في العام 1987، بأنهم لا ينوون الانفصال وإقامة الدولة الوطنية ولكنهم يريدون الديمقراطية والحقوق القومية وحق المواطنة لشعب جنوب السودان والشعب السوداني عموماً. كان هذا قبل تولي حزب المؤتمر الوطني “الإسلامي” السياسي الفاسد الحكم في البلاد في انقلاب على حكومة الصادق المهدي المنتخبة والتي عجزت عن تحقيق الوحدة الوطنية بالاستجابة لمطالب شعب جنوب السودان والشعب السوداني عموما/ مما سهل على الانقلابيينمهمتهمً.
وخلال السنوات المنصرمة عبر الشعب السوداني عن رفضه للنظام السياسي الإسلامي المتطرف ودعوته لتغيير النظام والخلاص من الدكتاتورية والفساد الذي أصبح يشكل كابوساً خانقاً للشعب وبؤساً وفاقة لا تطاقان. فسرقة كبار المسؤولين لم تعد وحدها الظاهرة البارزة، بل فضائح فساد أخرى أصبحت جزءاً من النظام السياسي القائم فقد جاء في مقال للكاتب د. عبد الوهاب الأفندي بهذا الصدد ما يلي:
” بلغت الوقاحة بالمتورطين في إحدى هذه الفضائح، وهو مدير شركة حكومية أسس شركات خاصة باسم أقربائه ومنحها عقود بأكثر من ثلاثمئة مليون دولار، أن تلك الشركات قاضت الشركة الحكومية وألزمتها بدفع عشرات الملايين من الدولارات زعمت أنها مستحقة لها. ولم تكتف بذلك، بل وجندت لذلك مؤسسات عدلية، بل وأحد قضاة المحكمة الدستورية ووزير عدل سابق، من أجل مهزلة تحكيم حصلت بموجبها على الملايين. وقد أثار ذلك حفيظة أكثر أنصار النظام ولاءً، مما دعا إلى تدخل البرلمان وتسريب الفضيحة.” ثم يؤكد الكاتب بعد ذكره لعدد آخر من الفضائح بقوله: ” في هذه المشاهد السريالية يتجسد سقوط هذا النظام، ليس فقط أخلاقياً ودينياً وسياسياً، بل ومن جهة فقدان العقل.” (راجع: الفساد في السودان والمصيبة الأعظم ..، بقلم: د. عبد الوهاب الأفندي، موقع السودان اليوم، 6 فبراير 2018).
وفي الوقت الذي ادعى حاكم السودان المستبد بأمره بأنه يعمل على مكافحة القطط السمان، نشرت منظمة الشفافية العالمية عن السودان اعتماداً عل منظمة الشفافية السودانية ما يلي:
“قالت منظمة «الشفافية السودانية»، في تقرير لها مطلع العام 2017، إن دراساتها للبيانات الحكومية والإحصاءات الرسمية وواقع الفساد في السودان تؤكد أن الخسائر من جراء الفساد في البلاد فاقت 18 مليار دولار سنويًا. وفي تقرير صدر عام 2015، عن المراجع العام – وهو الشخص المسئول عن مراجعة حسابات الدولة – فإن نسبة الفساد في دواوين الدولةارتفعت إلى 300%. ” (راجع: كريم اسعد، حرب القطط السمان: هل ينجح السودان في القضاء على الفساد؟ موقع إضاءات، في 30/06/2018).
إن الظواهر الثابتة والمميزة للواقع السوداني تشير إلى الوقائع التالية:
** أدت سوء السياسة الاقتصادية والاجتماعية للحكومة السودانية إلى تدهور شديد ومستمر في الاقتصادي السوداني يجد تعبيره أيضاً في ارتفاع كبير في نسب التضخم، حيث ارتفع التضخم السنوي إلى 68.93% في نوفمبر 2018، بعدما وصل إلى 68.44% في أكتوبر. من نفس العام.
** لقد أصبح الفساد في ظل النظام الإسلامي السياسي نظاماً سائداً في ارجاء الدولة حيث تمارسه السلط\ات الثلاث والمؤسسات والهيئات المحلية والإقليمية والدولية والمجتمع.
** أما نسبة البطالة فقد بلغت في العام 2017 إلى 19,6% من القوى العاملة، حسب الأرقام الرسمية في حين إنها أكثر من ذلك بكثير. ويقدر الخبراء إلى إنها تبلغ بحدود ثلاثة ارباع السكان. ويؤكد الواقع الراهن إلى إن البطالة بين الخريجين واسعة جداً ومؤذية لمزيد من العائلات.
** وكما أشرنا سابقاً فأن نسبة الذين تحت خط الفقر تزيد عن ثلي سكان السودان، أي ما يقرب من 27 مليون إنسان من مجموع 42،2 مليون مجموع سكان السودان في العام 2017. وإذ ينتشر الفقر في عموم السودان فأن مدن شرق البلاد هي الأكثر فقراً. فتقرير البنك الدولي يشير إلى أن مناطق شرق السودان تعد الأكثر فقرا وجفافا في البلاد وتأوي نحو 147 ألف نازح في مدن القضارف وكسلا وبورتسودان من جملة مليوني نازح في السودان. (راجع: شرق السودان أكثر المناطق فقرا وجفافا، قناة “امدرمان (ام درمان) الفضائية” تتوقف نهائيا، موقع دابنقا، في ديسمبر 19 – 2016، راديو دبنقا/وكالات). وكذلك ” الناس الذين يعيشون في المناطق التي كانت أو لا تزال تتأثر بالجفاف والصراع – وخاصة في جنوب دارفور – هي الأكثر عرضة للفقر.” (راجع: د. جمال سعد، الفقر في السودان، 10 كانون الثاني/يناير 2016).
** كشف البنك الدولي عن ديون السودان حتى نيسان/أبريل 2018 على النحو التالي: ” أن السودان ما يزال يعاني من ضغوط الديون الخارجية التي بلغت(54) مليار دولار منها (85%) متأخرات، وتضم قائمة دائني السودان مؤسسات متعددة الأطراف بنسبة (15%)، ونادي باريس (37%) بجانب (36%) لأطراف أخرى، بجانب (14%) للقطاع الخاص. (راجع: البنك الدولي يكشف عن حجم ديون السودان الخارجية، موقع السودان اليوم في 10 نيسان/ابريل 2018). وعلى المتتبع أن يدرك حجم العواقب التي تنتجها الديون الخارجية والفوائد السنوية المترتبة عليها على الاقتصاد السوداني وشعب السودان.
وفي الآونة الأخيرة وحيث أشارت الولايات المتحدة إلى رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب ورفع العقوبات عنه، بدأ صندوق النقد الدولي بفرض نموذجه وشروطه المعروفة على السودان أيضاً، باعتبارها “خارطة طريق لإنعاش السودان” والتي برهنت في كل التجارب السابقة لبلدان عن فشلها المريع وفي غير صالح شعوب تلك البلدان، ومنها:
إجراءات اقتصادية كلية وهيكلة داعمة ملائمة لتوحيد سعر الصرف وخصخصة القطاع العام.
إلغاء الدعم الحكومي للكهرباء والقمح بشكل خاص.
توسيع قاعدة البلاد الضريبة إذا أرادت الاستفادة من رفع العقوبات الامريكية.
أدى كل ذلك إلى تراجع شديد في سعر الجنية السوداني مقابل الدولار، حيث أصبح في نهاية عام 2018 إلى 58 جنيهاً مقابل الدولار الواحد، الذي انعكس ذلك على أسعار المواد الغذائية والسكن وغير ذلك مما زيد من إرهاق كاهل الكادحين والفقراء والمعوزين من السكان، وهم الغالبية العظمى.
من هنا يمكن استنتاج بأن دولة السودان أصبحت في عهد البشير واحدة من أكثر الدول فقراً وبؤساً، وأكثر اضطهاداً لشعبها وللمعارضة السياسية الديمقراطية وأكثر استغلالاً لسكان الريف وإملاقاً للفئات الكادحة، كما إنها واحدة من تلك الدول التي رعت وما تزال الإرهاب الإسلامي السياسي في منطقة الشرق الأوسط. وقد احتل اسمها مكاناً بارزاً في قائمة الدول الراعية للإرهاب.
لذلك كله انطلقت الانتفاضة الشعبية الجديدة في مدن مثل دنقلا والقضارف وبربر وكريمة، ثم لحقتها الخرطوم العاصمة وبقية المدن السودانية التي تطالب بالاستجابة لمطالبها بمكافحة الفساد والفقر والبطالة في البلاد، كما تطالب بالتغيير والتخلص من النظام الاستبدادي الفاسد ومن المستبد بأمره عمر البشير، لاسيما وأن النظام قد وافق على جميع الشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، حيث رفع سعر الخبز ثلاثة أضعاف في وقت يعتبر الغذاء الرئيسي للغالبية العظمى من السكان، للفقراء والمعوزين. ولم يجد المستبد بأمره غير توجيه خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع والرصاص الحي إلى صدور وظهور المتظاهرين ليقتل 19 شخصاً ويصيب 397 شخصاً بجروح، حسب تصريح وزير إعلام النظام، (راجع: الإعلان عن عدد القتلى والمصابين في مظاهرات السودان، موقع الجرنال، بتاريخ 27/12/2018)، في حين تشير المعارضة إلى إن عدد القتلى والجرحى يفوق التصريح الحكومي، من جهة، واتهام المتظاهرين المحتجين من أبناء السودان الفقراء بالعمالة للأجنبي، وأنهم يتحركون بإرادة الأجنبي المعادية للسودان، في وقت يدرك الشعب السوداني من هو الذي يخون القضية الوطنية ومن هو الذي يُجوّع الشعب السوداني، ومن هو الذي يرعى الفساد والفسادين في البلاد. إنه الجهل والفساد والعداء للشعب الذي يتميز به عمر البشير، إنها الإساءة لكرامة الشعب ومصادرة حقوقه العادلة والمشروعة، بعد ان أصبح البشير شحاذاً عالمياً.
إن ما يجري في السودان لا يختلف كثيراً عما يجري في العراق والموقف الذي تتخذه الحكومة في مواجهة مظاهرات البصرة التي تطالب بالحصول على العمل للعاطلين والخدمات المحروم منها سكان البصرة وبقية أنحاء العراق. وإنها ذات المشكلة في بقية الدول العربية. إنها المحنة والمأساة التي يلتقي بها شعوب بلدان منطقة الشرق الأوسط عموماً المبتلات بنظم استبدادية وعنصرية وشوفينية ودينية وطائفية متطرفة.
إن النظام السوداني بقيادة البشير وحزب المؤتمر الوطني الإسلامي السياسي المتطرف والفاسد يسير بسرعة فائقة إلى طريق مسدود، إلى الصدام المباشر والأكثر شدة مع الشعب السوداني، إلى استخدام النظام المزيد من العنف والسلاح ضد الشعب المحتج، لينتهي كما انتهى إليه نظام زين العابدين بن علي في تونس، ومعمر القذافي ونظامه في ليبيا، حين رفض الجيش الدفاع عنهما، وهو ما يمكن أن يحصل في السودان أيضاً، إذ أن الجيش لم يحسم موقفه حتى الآن، ولا شك فهو من حيث المبدأ جزء من هذا الشعب المبتلى بالبشير ورهطه، ولا بد أن يحس يوماً بآلام الشعب ومأساته. لقد اعتقل البشير بهمجية عدداً متزايداً من قوى المعارضة بمن فيهم بعض ممثلي الأحزاب السودانية ويعرضهم للتعذيب والإساءة، ومن بينهم بعض قادة الحزب الشيوعي السوداني. إن المعركة الجارية في السودان تستوجب موقفاً وطنياً تضامنياً مع الحركة الشعبية العفوية التي انطلقت وعلى رأسها المنظمات المهنية، منظمات المجتمع المدني، ولا بد من عمل توحيدٍ منظمٍ وعاجل من جانب جميع القوى الديمقراطية المعارضة للحكم الثيوقراطي الاستبدادي في السودان، الحكم الذي رفضه الشعب ويسعى للخلاص منه بعد ثلاثين عاماً من الاستبداد والبؤس والفاقة والحرمان والاضطهاد.
إن الشعب السوداني بحاجة إلى تضامن الرأي العام العالمي، ولاسيما شعوب الدول العربية وقواها الديمقراطية، بحاجة إلى دعم المجتمع الدولي، بحاجة إلى إدانة سلوك وعنف النظام السوداني وهمجية تعامله مع الشعب المحتج، مهما اعتقد المستبدون إنهم قادرون على قهر الشعب، إذ أنهم مخطئون ومخطئون جداً وستبرهن الأيام على ذلك إذ لا بد لهذا الشعب أن ينتصر مهما طال ليل الظلم والظلام..