الحلقة الثانية
بعد الانتهاء من الحديث عن معنى المنصب السياديِّ والأمني المشمول بالحظر الدستوريِّ لازدواج الجنسيَّـة، ومَنْ هم المشمولون به، الذي قَّدمناه في الحلقة الأولى؛ نتواصل لإكمال الحديث عن المسألتين الأخريين المتعلقتين بما يأتي :
المسألة الثانية: كيف يتمُّ التخلِّي عن الجنسيَّـة الأجنبيَّـة الأخرى، وما هي الآليَّات المعتمدة في ذلك، ومتى يكون ذلك التخلِّي؟
المسألة الثالثة: ما هي الحكمة من وراء هذا القيد، أعني بذلك قيد حظر ازدواج الجنسيَّـة لذوي المناصب السياديَّة والأمنيَّـة الرفيعة ؟
وهو ما سنوضحه تباعاً.
المسألة الثانية: الآليَّات القانونيَّة للتخلِّي عن الجنسيَّة الأجنبيَّـة وزمانه :
من المعلوم أنَّ كلاً من الدستور والقانون لم يُوضحا آلية التخلِّي عن الجنسيَّـة الأجنبيَّـة الأخرى، ولا زمان أو وقت ذلك التخلِّي، كما تبيَّن لنا ذلك سلفاً بصدد المنصب السياديِّ والأمنيِّ الذي لم يُحدِّدا معناه، ولا المشمولين بمقتضاه. ولا غضاضة على الدستور في هذا؛ تأسيساً على أنه أوكل الأمر إلى القانون، لكن الخلل والنقص، كلَّ النقص، قد وقع على القانون، الذي كرَّر النصَّ الدستوريَّ بصياغته، دون أنْ يأتي بشيءٍ جديدٍ، ودون أن يتطرَّق لتفصيلات الموضوع، مُتناسياً في ذلك دور القانون الرئيس، الذي يتمثَّـل بتفصيل ما تمَّ إجماله في الدستور. ولا أدري ما الذي كان في مخيّلة المشرِّع آنذاك، ألاَ يعلمُ أنه قد خالف الدستور الذي ذيَّـل البند الرابع من المادَّة (18) منه المتعلقة بازدواج الجنسيَّـة بعبارة “ويُنظَّمُ ذلك بقانون”. إذ الملاحظ أنَّ القانون جاء ليُكرِّرَ نصَّ الدستور بعينه، ولم يُزد ، وجلُّ ما فعله – في هذا المقام – أنه حذف عبارة “ويُنظَّمُ ذلك بقانون”. ثمَّ يأتي من بعد ذلك قومٌ يلومون الدستور ويؤنِّبونه، بدعوى أنه لم يُحدِّدْ المناصب السياديَّـة، ويجعلون القانون بمنأى عن ذلك، وكأنَّ الصورة معكوسةٌ. وللتذكير سنعرض نصَّ البند الرابع من المادَّة (18) من الدستور، الذي جاء فيه :
((يجوز تعدُّد الجنسيَّـة للعراقيِّ، وعلى من يتولَّـى منصباً سيادياً أو أمنياً رفيعاً، التخلِّي عن أية جنسيةٍ أخرى مكتسبة، ويُنظَّمُ ذلك بقانون)). ولقد كُرِّرَ النصُّ ذاته في قانون الجنسيَّة رقم 26 لسنة 2006 النافذ ، إذ قضى البند الرابع من المادَّة (9) منه بالآتي :
((لا يجوز للعراقيِّ الذي يحمل جنسيَّـةً أخرى مكتسبةً أن يتولى منصباً سيادياً أو أمنياً رفيعاً إلا إذا تخلَّى عن تلك الجنسيَّة)).
واتساقاً مع ما قدَّمناه سلفاً في الحلقة الأولى من هذه المقالة، وسعياً لسدِّ النقص الدستوريِّ والتشريعيِّ، فإنَّـنا سنعرض لأمرين، الأول يتعلَّق بزمان التخلِّي عن الجنسيَّـة الأجنبيَّـة، والثاني بآليَّـات ذلك التخلِّي :
الأمر الأول : متى يتمُّ التخلِّي عن الجنسيَّة الأجنبيَّة الأخرى – زمان التخلِّي – :
انسجاماً مع حكمة النصِّ الدستوريِّ ونيَّة المشرِّع فإنَّنا نذهب إلى أنَّ الوقت اللازم لقيام صاحب المنصب السياديِّ أو الأمنيِّ الرفيع بالتخلِّي عن جنسيَّـته الأجنبيَّـة الأخرى ينبغي أنْ يكون قبل أداء اليمين الدستوريَّة، لا بعده؛ وذلك لأسبابٍ ثلاثةٍ:
1-أنَّ المكلَّف -المرشَّح للمنصب السياديِّ أو الأمنيِّ الرفيع- لا يستطيع مباشرة أعماله إلا بعد أداء اليمين ، على الرغم من أنه قد كُلِّف، فكان اليمين بمثابة الإيذان بالمباشرة؛ وبناءً على ذلك يكون هذا الوقت هو الأنسب للتخلِّي عن الجنسيَّـة الأجنبيَّـة، وإنَّ القول بخلاف ذلك يفضي بالضرورة إلى هدر حكمة النصِّ الدستوريِّ، والنأي عن نيَّة المشرِّع .
2-إذا سمحنا للمُكلَّف – المرشَّح- بالتخلِّي عن الجنسيَّـة الأجنبيَّـة بعد أدائه اليمين الدستوريَّـة فإنَّ ذلك سيُفضي بلا ريبٍ إلى التهاون والتماهل؛ وبالمحصِّلة إلى تمييع النص وإفراغ مضمونه. فمن ذا الذي سيطلب من رئيس الجمهوريَّـة أو رئيس مجلس الوزراء – مثلاً – بعد أدائهما اليمين الدستوريَّـة ومباشرتهما أن يتخلَّيا عن جنسيَّتهما الأجنبيَّة؟! ثمَّ ما هي الجهة المُخولَّة قانونياً بمتابعة ذلك؟ وهل لهذه الجهة -على فرض وجودها ، وهي غير موجودةٍ واقعاً- صلاحياتٌ مُلزِمةٌ تُلزم رئيس الجمهوريَّـة ورئيس مجلس الوزراء، وأمثالهما من ذوي المناصب السياديَّة؟!
ولئِنْ سأل سائلٌ عن هذه الفرضيَّاتٍ، فسنُذكِّره بما حدث في الدورات الماضية المتعاقبة، إذ شهدنا هدراً واضحاً للنصِّ الدستوريِّ القاضي بحظر ازدواج الجنسيَّـة لذوي المناصب السياديَّة والأمنيَّـة الرفيعة، ولقد كان البون شاسعاً بين النصِّ الدستوريِّ والواقع السياسيِّ، الذي أهدر ذلك النصَّ، وجرَّده من قيمتِهِ؛ فبات جسداً بلا روحٍ.
3-لو أنَّـنا سمحنا للمُكلَّف بالتخلِّي عن الجنسيَّة الأجنبيَّة بعد أداء اليمين الدستوريَّة، فسيتعارض ذلك لا محالة مع اليمين الدستوريَّـة ذاتها، المذكورة في المادَّة (50) من الدستور ؛ ذلك أنَّ هذه اليمين – القَسم- تُلزم بضرورة الامتثال إلى نصوص الدستور وأحكامه، والدستور بدوره يقضي بحظر ازدواج الجنسيَّـة لذوي المناصب السياديَّـة والأمنيَّـة الرفيعة، ويُلزمهم بضرورة التخلِّي عن أيَّــة جنسيَّـةٍ أجنبيَّـةٍ أخرى ؛ وهذا ما يعني بالضرورة أنَّ صاحب المنصب السياديِّ والأمنيِّ الرفيع سيقع تحت طائلة ما يُسمَّى ( الحنث في اليمين الدستوريَّـة)؛ والنتيجة الخطيرة الـمُترتِّبة على ذلك الحنث أنَّ الحانث لا يكون مُؤهَّلاً للمنصب، بل هو فاقدٌ لشروط توليِّه! وكفى بذلك رادعاً كبيراً !
ولربَّ مُعترضٍ على كلامنا الـمُتقدِّم ومُستشكلٍ عليه بالقول :
كيف يتسنَّـى لرئيس الجمهوريَّـة وذوي المناصب السياديَّـة والأمنيَّـة الأخرى التخلِّي عن الجنسيَّـة الأجنبيَّـة قبل أدائهم اليمين الدستوريَّـة، وإنَّنا لنعلمُ أنَّ التجربة في العراق أثبتت أنَّ المناصب كلَّها ليست مضمونةً حتى الرمق الأخير، فكيف يُطلَبُ منهم القيام بالتخلِّي عن الجنسيَّة الأجنبيَّة وهم ليسوا بضامنين للمنصب السياديِّ أو الأمنيِّ بالأساس ؟
ويبدو أنَّ الإجابة عن هذا الاعتراض في غاية السهولة؛ ذلك أنَّ المرشَّح للمنصب السياديِّ أو الأمنيِّ الرفيع لا يُطلَبُ منه التخلِّي عن الجنسيَّـة الأجنبيَّـة، بحسب مقترحنا، بمجرد الترشيح، بل بعد اختياره وتكليفه بالمنصب؛ وهو ما دفعنا إلى استعمال مصطلح (الـمُكلَّف) في مقترحنا للإشارة إلى تلك الحقيقة. كأنْ يتم مثلاً انتخاب رئيس الجمهوريَّـة من مجلس النُّـوَّاب، أو تَسلُّم مُرشَّح الكتلة الأكثر عدداً خطاب التكليف، أو تصويت المجلس على مُرشِّحي الوزارة الذين قدَّمهم رئيس مجلس الوزراء المكلَّف، ففي كلِّ هذه الحالات يُرجَئ أمر أدائهم اليمين الدستوريَّـة إلى ما بعد البدء بإجراءات التخلِّي عن الجنسيَّـة الأجنبيَّـة، التي سنذكرها بعد قليلٍ، دون أن يُعلَّق أداء اليمين على اكتمال الإجراءات، التي ربما تستغرق وقتاً. فالمهمُّ هنا أنْ يُعرِبَ المرشَّح للمنصب عن نيَّته في التخلِّي عن الجنسيَّـة الأجنبيَّـة، ويبدأ فعلاً بالإجراءات العمليَّـة؛ تفعيلاً للنصِّ الدستوريِّ، والتزاماً به. ولا يُهمُّ بعد ذلك طول المدَّة التي تستغرقها الإجراءات المتعلِّقة بالدولة الأجنبيَّة. إنَّ هذا الأمر هو بلا شكٍّ خيرٌ من ترك الموضوع برمَّته رهناً بمشيئة المرشَّح، إنْ شاء قام به، وإنْ شاء أعرض عنه.
ولقد أثبتت التجارب الماضية في العراق أنَّ النصَّ الدستوريَّ الذي يحظر ازدواج الجنسيَّـة بحقِّ ذوي المناصب السياديَّــة والأمنيَّـة لم يُفعَّل البتَّة، ولم نسمع أنَّ أحداً قام به، لا من قريبٍ، ولا من بعيد؛ الأمر الذي يُمثِّلُ خرقاً دستورياً لا محالة. فكيف والحال هذه، يتمُّ التوفيق بين أداء اليمين الدستوريَّـة التي تُحتِّم الالتزام بالدستور، وبين هذا الأمر الذي يُمثِّلُ خرقاً له، وانتهاكاً واضحاً لنصوصه.
ولا يغيبَنَّ عن البال أنَّ الدستور العراقيَّ قد جعل من انتهاك الدستور وخرقه جريمةً تُؤدِّي إلى إعفاء رئيس الجمهوريَّـة من منصبه. فمَنْ مِنْ العقلاء يقبل أنْ يباشر ذو المنصب السياديِّ مهمَّاته بخرق الدستور – وهو راعي الدستور – ، ويبتدأ عمله بالحنث في اليمين الدستوريَّـة ؟!
الأمر الثاني: آليات التخلِّي عن الجنسية الأجنبية الأخرى :
لابدَّ أنْ يكون هذا التخلِّي بصورةٍ تحريريَّـةٍ ، يُعبِّرُ فيها المُرشَّح للمنصب عن رغبته في التخلِّي عن الجنسيَّـة الأجنبيَّـة، وينبغي أن يُوجَّه هذا الخطاب إلى الدولة الأجنبيَّة، يُذكَرُ فيها حيثيَّـات القضيَّة، وأنَّ المُرشَّح لم يعدْ راغباً في الجنسيَّـة بالنظر لنيَّته في تبوُّء منصبٍ سياديٍّ أو أمنيٍّ في دولته الأم؛ وذلك حتَّى لا يُحمَلَ التصرُّف على أنَّـه نكرانٌ للجميل. ولكن ينبغي أنْ يتمَّ إيصال الطلب أو الخطاب عبر السلطات العراقيَّـة ذات العلاقة ، وليس من خلاله هو مباشرةً، وإنْ كان يمكن القبول بقيامه هو مباشرةً بتقديم الطلب إلى الدولة الأجنبيَّـة، ولكن مع تزويد السلطات أو الجهات العراقيَّـة المعنيَّة بنسخةٍ من الطلب؛ بغية قيامها بالتنسيق ومتابعة إجراءات التخلِّي، مع أنَّ الخيار الأول هو الأرجح .
وأعتقد أنَّ هذه الجهات -العراقيَّة المعنيَّة- تتمثَّلُ بجهتين رئيستين، الأولى: وزارة الداخليَّة، وتمثِّلها مديريَّة الجنسيَّة، والثانية هي وزارة الخارجيَّة، التي تأخذ على عاتقها إجراء المخاطبات الرسميَّـة، والتنسيق بين مديريَّـة الجنسيَّـة العراقيَّـة والدولة الأجنبيَّـة، ومتابعة القضيَّـة. وينبغي أنْ لا يُكتفى بمجرد إعلان المُكلَّف المُرشَّح للمنصب السياديِّ أو الأمنيِّ في وسائل الإعلام عن تخلِّيه عن الجنسيَّـة الأجنبيَّـة، كما حدث فيما مضى مع البعض الذين أعلنوا ذلك في وسائل الإعلام دون أنْ يسلكوا أيَّ إجراءٍ قانونيٍّ حقيقيٍّ ، فمات الموضوع في مهده؛ لأنَّ الإعلانَ المجرَّد عديمُ القيمة والأثر من الناحية القانونيَّـة.
وفي هذا السياق ، ولبيان الرأي الدستوريِّ والقانونيِّ في إعلان السيِّـد رئيس الجمهوريَّـة تخلِّيه عن جنسيَّـته البريطانيَّـة، لا بدَّ لي من التنويه ابتداءً بأنَّني لا أمتلك المعلومات التفصيليَّـة عن هذا الإعلان، سوى ما سمعته – مثلكم تماماً – من وسائل الإعلام، التي أشارت إلى مجرد إعلان الرئيس التخلِّي عن الجنسيَّـة لا أكثر، ودون أنْ نسمع موقفاً لوزارة الخارجيَّـة، وذكراً للخطوات التي سلكتها، والمخاطبات التي أجرتها؛ الأمر الذي لا يُـمكِّنُنا من الحكم على جدوى ذلك الإعلان وقيمته القانونيَّـة. بيد أنَّ ما ينبغي الإشارة إليه في هذا الصدد ضرورة أنْ يكون ذلك التخلِّي على وفق التصوُّر القانونيِّ المذكور آنفاً، أو بقريبٍ منه؛ وبخلافه لن تكون له أيَّة قيمةٍ قانونيَّـةٍ.
ولقد يكون منطقياً ومُتوقَّعاً أن يسأل سائلٌ هنا، ما الحكم فيما لو امتنعت الدولة الأجنبيَّـة عن إجابة طلب العراقيِّ المُرشَّح بالتخلِّي عن جنيَّستها؟
هنا لابدَّ لي في معرض الإجابة من الإشارة إلى الأمور الآتية:
1- بدءاً ينبغي التنويه بأنَّ تشريعات الجنسيَّـة في العالم تختلف في بعض الأسس والمعايير والتفصيلات؛ وهذا ما يستدعي بطبيعة الحال التعرُّف بدايةً على قانون الجنسيَّة المقصود بكلامنا، فهل أنَّ هذا القانون – أعني قانون الدولة الأجنبيَّة – يحكم بفقد الجنسيَّة بمجرد إعلان الفرد عن نيَّته في التخلِّي عنها -كما هو الشائع في كثيرٍ من التشريعات العربيَّـة فيما يتعلَّق بالمتجنِّس فقط- ، أو أنها تُعلِّق ذلك الفقدان على موافقتها وضرورة تحقُّق بعض الشروط ؟
2- ينبغي معرفة ما إذا كانت الجنسيَّة الأجنبيَّة الأخرى جنسيَّـةً أصليةً حالها حال الجنسيَّـة العراقيَّـة، أو أنها جنسيَّـةٌ طارئةٌ مُكتسَبةٌ. ولا ريب في أنَّ الدول تتسامح في مسألة فقد الثانية – المكتسَبة -، وتتشدَّد بل قد تمنع التخلِّي عن الجنسيَّة الأولى -الأصلية- بمجرد الرغبة؛ ذلك أنَّ هذه الجنسيَّـة-الأصلية- هي مظهرٌ من مظاهر سيادة الدولة، ولا تُترَكُ للأفراد ورغباتهم.
3- أنَّ من اللازم معرفة ما إذا كان هذا العراقيُّ يمتلك جنسيَّـةً عراقيَّـةً أصليةً، أي وطنيٌّ، أو كان مُتجنِّساً تجنَّس بالجنسيَّـة العراقيَّـة بوصفها جنسيَّـةً مُكتسَبةً طارئةً. ويستتبع ذلك القول إنَّ هذا العراقيَّ إنْ كان في الأصل مُتجنِّساً بالجنسيَّـة العراقيَّـة فإنَّ ذلك لا يُؤهِّله لأنْ يتولَّى منصب رئيس الجمهوريَّة أو نائبه، استناداً إلى البند (ثالثاً) من المادَّة التاسعة من قانون الجنسيَّـة العراقيَّـة النافذ، وإنْ قام بالتخلِّي عن الجنسيَّـة الأجنبيَّـة الأخرى .كما أنَّه لا يُمكِنُ أنْ يكون وزيراً أو نائباً في مجلس النُّوَّاب قبل مضي عشر سنواتٍ على تأريخ اكتسابه الجنسيَّـة العراقيَّـة، استناداً للبند (ثانياً) من المادَّة المذكورة .
بيد أنَّ هذا النصُّ لم يتطرَّق لمنصب رئيس مجلس الوزراء ونُوَّابه ، وما إذا كان الـمُتجنِّس بالجنسيَّـة العراقيَّـة قادراً على تولِّي هذا المنصب، أو لا، على الرغم من أهميَّـته ؟ ومعنى ذلك حصول الخلاف بصدد منصب رئيس مجلس الوزراء ونائبه، وما إذا كان يدخل في المنع الوارد في البند (ثانياً) فتُشترَط مُدَّة السنوات العشر، أم أنَّـه سيدخل في البند (ثالثاً) وإذ ذاك سيكون المنع مطلقاً مُـؤبَّداً ؟.
إنَّ إعمال قواعد التفسير القانونيَّـة المجرَّدة يُفضي بنا إلى القول بانطباق البند (ثانياً) لا (ثالثاً)، بمعنى أنْ ليس بإمكان المتجنِّس بالجنسيَّة العراقية أنْ يكون رئيساً لمجلس الوزراء أو نائباً لرئيس المجلس قبل مضي عشر سنواتٍ على تأريخ اكتسابه الجنسيَّة العراقيَّـة. لكنَّنا نعتقد أنَّ من الأولى والأنسب تعديل النصِّ بحيث يكون منصب رئيس مجلس الوزراء ونائبه، مثَلهُ كمثل رئيس الجمهوريَّة ونائبه، أي أنْ ينطبق على المتجنِّس بالجنسيَّة العراقيَّة المرشَّح لمنصب رئيس مجلس الوزراء أو نائبه البند (ثالثاً) – المتعلِّق برئيس الجمهوريَّـة – وليس البند (ثانياً)؛ وذلك لخطورة وأهميَّة منصب رئيس مجلس الوزراء، ولا سيما إذا علمنا أنَّ السلطة التنفيذيَّـة في العراق تتألَّف بمقتضى نصوص الدستور من رئيس الجمهوريَّـة، ومجلس الوزراء الذي يرأسه رئيس المجلس، وأنَّ هذا الأخير هو الذي يتحمَّلُ العبء الأكبر في السلطة التنفيذيَّـة، ومسؤوليَّاته أوسعُ وأخطرُ بكثيرٍ من رئيس الجمهوريَّـة؛ ما يعني أنَّ الوضع الحالي للنصِّ المذكور- قبل تعديلنا المقترح – فيه قصورٌ بلا شكٍّ.
4- إذا وصل العراقيُّ المرشَّح لتولِّي منصبٍ سياديٍّ أو أمنيٍّ رفيعٍ إلى طريقٍ مسدودٍ مع الدولة الأجنبيَّة التي يحوز جنسيَّـتها، ولم تقبل بإجابة طلبه بالتخلِّي عن جنسيَّـتها؛ تأسيساً على أنَّ هذه الجنسيَّـة تُعَدُّ من مظاهر سيادة تلك الدولة التي لا تُترَكُ للأفراد ورغباتهم، فليس أمامه من طريقٍ آخر سوى النزول عن المنصب-إنْ كان لم يباشر- ؛ وبخلاف ذلك يكون قد خرق الدستور، وانتهك القانون، وحنث في اليمين الدستوريَّـة، وكفى بذلك جريرةً . وعلى فرض مباشرته المنصب؛ فإنَّ واجبه الدستوريَّ يُحتِّمُ عليه تقديم استقالته فوراً؛ إذعاناً لحكم الدستور ووفاءً باليمين الدستوريَّـة التي أقسم بها أمام الشعب. ولعلَّ هذا التصوُّر يدعم رأينا المذكور آنفاً، المتمثِّـل بأنْ يكون التخلِّي عن الجنسيَّة الأجنبيَّة قبل أداء اليمين، لا بعده وبعد المباشرة .
المسألة الثالثة: الحكمة من وراء قيد رفض ازدواج الجنسيَّـة لذوي المناصب السياديَّـة والأمنيَّـة الرفيعة
لعلَّ تساؤلاً مشروعاً يمكن أن يُطرَحَ في هذا الشأن مُؤدَّاه، إذا كان الدستور والقانون العراقيَّان قد أجازا للعراقيِّ الاحتفاظ بجنسيَّـته الأجنبيَّـة الأخرى، وأباحا له أنْ يكون مُزدوِج الجنسيَّة أو مُتعدِّدها ، فلماذا اختلف الأمر عندما وصل إلى ذي المنصب السياديِّ والأمنيِّ الرفيع، وأضحى الحقُّ محظوراً ؟
وبصدد ذلك يمكن الإجابة عبر مستويين:
المستوى الأول :
إنَّ من المعروف أنَّ رابطة الجنسيَّة هي رابطةٌ قانونيَّـةٌ وسياسيَّـةٌ. فهي قانونيَّـةٌ؛ لأنَّ القانون هو الذي يُنظِّمُها ويُحدِّدُها، كسباً وفقداً واسترداداً. وهي سياسيَّـةٌ؛ لأنَّها تُعبِّرُ عن الشعور بالانتماء إلى الدولة، وهي مظهرٌ من مظاهر الولاء، أي ولاء الأفراد لدولتهم. فهي تستند بالأساس إلى شعور الانتماء والولاء نحو الجماعة الوطنيَّـة التي ينتمي إليها الفرد، وهذا الشعور بطبيعته لا يقبل الانقسام، ولا يُتصوَّرُ حصوله إزاء أكثر من دولةٍ، بل لعلَّ البعض لا يبالغ عندما يقول بالحرف الواحد:
(( كما لا يمكن أنْ يكون للشخص أكثر من أمٍّ ، فإنَّـه من المتعذَّر أنْ يكون له أكثر من وطنٍ)).
ثمَّ إنَّ الجنسيَّـة أداةٌ لتوزيع السكان في العالم، فالعراق هو ملك العراقيِّين، أي ملك أولئك الأفراد الذين يحملون الجنسيَّة العراقيَّـة، والعراقيُّ مُطالَبٌ بالانتماء والولاء للعراق، لا لدولةٍ أخرى. وهكذا على مستوى الدول الأخرى. أمَّا إذا كان الفرد مُزدوج الجنسيَّـة فسيكون ضحيَّـة الصراع بين الولاءين، بين ولائه للدولة الأمِّ (العراق) ، وولائه للدولة التي آوته ومنحته جنسيَّـتها. فكيف سيُوفِّقُ بين هذين الولاءين ؟ ولا سيما في حالتي الحرب وقطع العلاقات الدبلوماسيَّـة بين البلدين، كما حدث لبعض العراقيِّـين إبَّان النظام البائد، عندما اضطرتهم الظروف للهجرة خارج العراق. هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ الدولة الأخرى التي ستمنحُهُ جنسيَّـتها ستُلزِمُهُ بأداء يمين الولاء لها. فكيف سيراعي دولته الأمَّ ومصالحها من جهةٍ، ومصالح الدولة الأخرى التي أقسم بالولاء لها من جهةٍ أخرى، عند التعارض بين المصلحتين، ولا سيما في الحالتين المذكورتين أعلاه -نشوب الحرب وقطع العلاقات الدبلوماسيَّـة- ؟
ولمزيدٍ من الإيضاح أعرض بين يدي حضراتكم واقعةً حقيقيَّـةً وقعت لأحد العراقيِّـين المتجنِّسين بالجنسيَّـة الأميركيَّـة – الذي اشترك في حرب 2003 مع القوات الأميركيَّـة بوصفه أميركياً – وقد سُأل عن شعوره إبَّان الحرب في عام 2003 ، فأجاب :
“إنني أشعر كأنَّما أمِّي وأبي يتصارعان ويتقاتلان .. ولا أستطيع فعل شيءٍ حيال ذلك “. صحيفة الصحافة ،العدد 5299 ، في 20\3\2008 .
فضلاً عن عشرات القضايا المهمَّة الأخرى ذات الصلة، التي انتهى بعضها بتوجيه تهمة الخيانة العظمى للمُتجنِّس، بل وتنفيذ عقوبة الإعدام بحقِّه، ممَّا لا يسع المقام لذكره، ولعلَّ الفرصة تسنح في مناسبةٍ أخرى لذكر شيءٍ من ذلك !!
المستوى الثاني :
إنَّ من يتولى منصباً سيادياً أو أمنياً رفيعاً يكون مُمثِّلاً للدولة ورمزاً من رموز سيادتها، ولا سيما رئيس الجمهوريَّـة، وعلى هذه الصفة تتعامل معه دول العالم جميعها، وتستقبله استقبالاً رسمياً، ويتمتَّع بالحصانة الدبلوماسيَّة الدوليَّة. فكيف يُوفِّقُ مَنْ حالُهُ هكذا، بين هذا الوصف، ووصفه مواطناً في دولةٍ أخرى عليه التزاماتٌ وواجباتٌ بمقتضى دستورها وقوانينها؟! ومَنْ ذا الذي يقبلُ -مثلاً- أنْ يكون رئيس جمهوريَّـة العراق وهو رمز سيادة البلد قد أدَّى الخدمة العسكريَّـة في بريطانيا أو أميركا أو أيَّـة دولةٍ أخرى يحمل جنسيَّـتها، أو أنْ يقوم بدفع الضرائب إليها، والتصويت في انتخاباتها – مادام أحد مواطنيها – وهُلّم جراً ؟!
ثمَّ ما هو موقف تلك الدولة الأجنبيَّـة التي تستقبله -بوصفه أجنبياً- كرئيسٍ لجمهوريَّـة دولةٍ ما، وهي في داخل البلد تتعامل معه -بوصفه وطنياً- كمواطنٍ من مواطنيها، الأمر الذي قد يجعله يمثلُ أمام قاضي تلك الدولة؛ بسبب دعوى دَينٍ يسيرةٍ مثلاً. فأيَّـة سيادةٍ بعد ذلك تبقى، وأيَّـة رمزيَّـةٍ تُمثّل ؟! ولا يعزبُ عن بالنا احتماليَّـة توجيه التهم الباطلة بحقِّه من تلك الدولة الأجنبيَّـة في محاولةٍ للضغط عليه سياسياً، كما نشهد ذلك أحياناً من – بعض- الاتهامات المفبركة بالاغتصاب أو السرقة، وما شابه ذلك !!
وإنَّ ما قيل عن رئيس الجمهوريَّـة يُمكِنُ أنْ يُقال عن سائر ذوي المناصب السياديَّـة والأمنيَّـة الأخرى، مثل رئيس مجلس الوزراء، والوزراء، ورئيس مجلس النُّوَّاب، ورئيس جهاز المخابرات. بل حتَّى عن أعضاء مجلس النُّوَّاب، فالحكمة واحدةٌ، ولا سيما إذا علمنا أنَّ بعض الدول التي يتمتَّعُ النائب بجنسيَّـتها قد تستغلُّ ذلك في محاولةٍ للضغط عليه؛ بغية التأثير في مواقفه إزاء مجلس النُّوَّاب، أو الحكومة؛ وهو الأمر الذي دعانا فيما سلف – الجزء الأول من هذه المقالة- إلى القول بضرورة دخول النائب في التوصيف السياديِّ والحظر الدستوريِّ بمقتضى الشرط أو القيد الأول -قيد المنصب السياديِّ-، على الرغم من أنَّه خرج عن التوصيف والحظر بمقتضى الشرط أو القيد الثاني – قيد المنصب الرفيع-. ولا يفوتنا في الختام التذكير والإشارة إلى المشكلات الدوليَّة الكثيرة الناجمة عن ازدواج الجنسيَّـة، تلك المشكلات التي أفضت إلى إبرام المعاهدات والاتِّـفاقيَّـات الدوليَّـة التي جنحت للقضاء على هذه الظاهرة أو التخفيف من غلوائها؛ لكونها ظاهرةً غير مرغوبٍ فيها على الساحة الدوليَّـة وفي نطاق العلاقات الدوليَّــة.