قصة قطعة الأرض في مدينة فيلباخ بالقرب من شتوتغارت تظهر تعقيدات وخطورة ملف التمويل الخارجي للجمعيات الدينية الإسلامية في ألمانيا: وتبدأ القصة عندما حولت شركة العقارات أي. أم. سي مبلغا ماليا ضخما ثمنا لقطعة أرض في بلدة فيلباخ بمساحة نصف ملعب كرة قدم. وكشف المكتب الإقليمي لمكافحة الجريمة في شتوتغارت النقاب عن الجهة التي كانت تختفي وراء شركة العقار الألمانية التي حولت ثمن الأرض: والجهة كانت “جمعية إحياء التراث الإسلامي” الكويتية. وكانت الجمعية المذكورة تنوي بناء مركز إسلامي “لخطة استراتيجية للدعوة للإسلام في جنوب ألمانيا” على قطعة الأرض المذكورة، حسب ما نقلت صحيفة “زود دويتشه تسايتونغ” في حزيران/ يونيو عام 2017 عن تقرير سري لهيئة حماية الدستور (الأمن الداخلي الألماني). وعلى الفور منعت بلدية بلدة فيلباخ تنفيذ خطط البناء وغيرت الخرائط.
قصة فيلباخ تظهر مدى نشاط وفاعلية وخلاقية الجمعيات العاملة في دول الخليج، عندما يتعلق الأمر بنشر الإسلام في ألمانيا وأوروبا. فهذه الجمعيات تحاول منذ سنوات نشر مفهومها المحافظ جدا والمتشدد عن الإسلام في العالم الغربي. وفي هذه الحالة، كما رأينا، كانت الجمعية كويتية الجنسية. كما يتم ذكر المملكة العربية السعودية دوما كمصدّر للإيديولوجية السلفية على الغرب وبقية دول العالم.
شبكة واسعة من المؤسسات والمساجد والدعاة
في هذا السياق يقول الخبير في شؤون السعودية في الجمعية الألمانية للسياسة الخارجية سيباستيان زونس إن العائلة المالكة في السعودية ترى نفسها قائدة للطائفة السنية في العالم. ولهذا يجب أن يتم نشر وترسيخ الإسلام الوهابي كمفهوم كوني في عموم العالم. ولهذا الغرض دعم الحكام السعوديون في العقود الأخيرة كل المؤسسات الدينية التي تنشر الفكر الوهابي في العالم. وأسفرت السياسية في تطور وظهور شبكة واسعة متشابكة من المؤسسات والمساجد والمدارس الدينية والدعاة التي تعمل بمفهوم الفكر الوهابي وتنشره في كل مكان في العالم. أما تمويل هذه الشبكة فكان مزيجا من أموال الدولة ومن القطاع الخاص، أو من أفراد واشخاص ومؤسسات دينية غير تابعة للدولة، حيث تم إغراق دول البلقان مثلا ودول في جنوب شرق آسيا ودول أوروبية بهذه الأموال لدعم الفكر السلفي الوهابي وتمويل مدارسه الدينية وتوزيع القرآن مجانا إلى جانب توزيع المواد التعليمية الدينية والكراسات مجانا أيضا
لكن الحكومة الألمانية تسعى إلى وقف هذا التطور ومنع استمراره ومكافحته. وإحدى الخطوات في هذا الاتجاه تتمثل في محاولة منع تمويل المساجد في المانيا بأموال قادمة من الخارج. وإذا نظرنا بدقة إلى جوهر الأمر، فإن هذه الأموال في أسوء الحالات تدعم إيديولوجية تتعارض تماما وبكل معنى الكلمة مع قيم الديمقراطية الليبرالية الراسخة في ألمانيا. في هذا السياق يقول الخبير الألماني سيباستيان زونس في كتاب له نشر دراسته عن السعودية المعاصرة فيه “الكثير من المساجد والمدارس الدينية التي تدعمها السعودية تنشر الكراهية تجاه اتباع المعتقدات الأخرى وتُنمّي التطرف وتغسل ادمغة الشباب ليتحولوا إلى مدافعين عنيدين عن الفكر الوهابي المتشدد وغير المتسامح.
محادثات ناجحة مع الكويت
وتكافح الحكومة الألمانية هذا التوجه بحدة، لكنها تواجه معضلة حقيقية، فهي من جانب تترك للطوائف الدينية حرية التمويل لنشاطاتها كتعبير عن حرية ممارسة المعتقد الديني وهو حق مضمون دستوريا. لكنها ومن جانب آخر عليها التصرف بجدية عندما يتعلق الأمر بخطر الإرهاب وبشكل ملموس، عندها لابد للسلطات الأمنية أن تقوم بواجبها. ولهذا تحاول الحكومة الألمانية منع حركة المال من مصدره في دول الخليج قبل وصوله إلى ألمانيا.
والمحادثات التي أجرتها الحكومة الألمانية بهذا الصدد في الكويت مثلا كانت ناجحة للغاية، كما يقول كرستوفر بورغير، أحد المتحدثين باسم وزارة الخارجية الألمانية في مؤتمر صحفي نهاية الأسبوع المنصرم، مضيفاً: “إن تعاونا وثيقا انبثق عن مبادرة كويتية. وتسعى الحكومة الكويتية وبكل دقة إلى فحص ودراسة كل عملية تمويل لمشاريع في ألمانيا بأموال كويتية. ونتبادل الآراء والمعلومات باستمرار عبر السفارة الكويتية في برلين وذلك بهدف توفير شفافية كافية لأي دعم كويتي لمؤسسات دينية في المانيا”.
لا يمكن السيطرة على نظام الحوالة
وفي الحقيقة يبدو الأمر أصعب مما هو متوقع، فالرقابة وتتبع مسار المال في دول المصدر ليس بالسهل كما يعتقد أحد أو يتمنى ذلك. فالأموال المحولة إلى المانيا مثلا لا يتم تحويلها عن طريق المصارف الرسمية. التحويلات المصرفية تشمل فقط جزءا يسيرا من المال المتوجه نحو ألمانيا أو أوروبا، أما بقية الأموال وهي الأجزاء الكبيرة منها فيتم تحويلها في إطار ما يسمى بنظام الحوالة: وهو نظام يستند في الأساس على اساس الثقة، لكنه يعتمد أيضا نظام الشفرة. فمقابل شفرة ـ مثلا عدة ارقام متتالية أو آية قرآنية متفق عليها مسبقا، يمكن استلام المال المحول نقدا من قبل المرسل إليه. فالمال يجب أن يستلمه فقط المرسل إليه ولا يجوز أن يستلم بدلا عنه أي شخص آخر. وبهذه الطريقة يتم تجنب رقابة الدولة على حركة المال من دول الخليج إلى أوروبا وألمانيا. علاوة على ذلك توجد طريقة التحويلات عبر الهاتف للمبالغ الأصغر والتي تستمر لفترات غير محدودة، وتسجل بمجموعها أرقاما هائلة. وإذا أرادت الدولة فرض رقابة على نظام الحوالة، عليها أن تضع قواعد قانونية لنظام الحوالة، وهو أمر غير ممكن، لأن نظام الحوالة يعتمد في استمراره على الطابع غير الرسمي وعلى الثقة الشخصية غالبا في التعامل مع الأموال المتحركة من دول الخليج إلى أي رقعة في العالم.
وعلى هذا الأساس لا بد من القول إنّ مكافحة التطرف تجري بطرق مختلفة، بينها خوض الصراع الإيديولوجي وهو أمر ضروري ومهم للغاية. فعدد الأشخاص الذين يعتنقون الفكر السلفي في تزايد مستمر. في عام 2018 وثقت هيئة حماية الدستور(جهاز الأمن الداخلي) عدد السلفيين في عموم المانيا بـ 11.200 شخص، في حين كان هذا العدد في عام 2014 لا يتجاوز 7000 شخص. ويشير جهاز الأمن الداخلي (حماية الدستور) في ورقة عمل له إلى أن “زيادة عدد السلفيين يعود إلى نشاطات متنوعة للسلفيين في ألمانيا والتي تجري تحت واجهة الدعوة إلى الإسلام دون إثارة مخاوف فعلية. ولكن في الحقيقة تشكل تلك النشاطات عملية غسل أدمغة وأدلجة الشباب على طريق طويل ينتهي بالتطرف”. وتشير الوثيقة الأمنية إلى “أن الحركة السلفية تشكل أكبر تيار إسلامي وهو في نمو متزايد في ألمانيا”.