يُعدّ الأيزيديون في منطقة سنجار ونينوى من بين الطوائف الدينية الأكثر قدماً في بلاد الرافدين. تعرضت تلك الطائفة للعديد من المحن والمصائب. على الرغم من ذلك حافظ الأيزيديون على وجودهم جيلاً بعد جيل. من هم الأيزيديون؟ وما هي أشهر الحملات العسكرية التي تعرضوا لها؟ وكيف نفسر قدرتهم الفريدة على البقاء والصمود عبر السنين؟
من هم الأيزيديون؟
يعتقد الأيزيديون أن دينهم ظهر منذ فترة موغلة في القدم، وأن عمره يزيد عن أربعة آلاف سنة. ينتشر الأيزيديون الآن -بنسب متفاوتة- في كل من سوريا ولبنان وتركيا وإيران. يوجد اختلاف حول سبب تسمية الدين الأيزيدي بهذا الاسم. يزعم البعض، دون تقديم دليل، أن التسمية اُشتقت من اسم الخليفة الأموي الثاني يزيد بن معاوية بن أبي سفيان أو من شخص آخر اسمه يزيد. ويرى آخرون، دون دليل أيضاً، أنها جاءت من اسم مدينة يزد الإيرانية. يرفض الأيزيديون تلك الآراء ويقولون إن اسم دينهم مُشتق من الكلمة الفارسية “أيزيد” والتي تعني الملاك أو الإله.
يقع معبد الأيزيديين الأهم (معبد لالش) بالقرب من مدينة الموصل، في محافظة نينوى بالعراق. ويؤمن الأيزيديون بإله واحد، ويعتقدون بوجود سبعة ملائكة، أهمهم الملك طاووس. وينقسم المجتمع الأيزيدي إلى ثلاث طبقات متمايزة، وهي الشيوخ، والدعاة، والمريدون. ومن المعروف أن الدين الأيزيدي دين منغلق، وغير تبشيري.
من جهة أخرى، يربط كثيرون بين الديانة الأيزيدية وبعض الديانات الفارسية القديمة مثل الزرادشتية والمانوية. ويرى العديد من الباحثين أن الأيزيدية تأثرت بالديانات الأخرى المعروفة في سوريا والعراق، ومنها الإسلام والمسيحية والمندائية.
الفرمانات وحملات الإبادة الجماعية
يذكر الكاتب أمين فرحان جيجو في كتابه “القومية الإيزيدية” أن الشعب الأيزيدي تعرض للعديد من حملات الإبادة عبر التاريخ. بدأت تلك الحملات بسقوط الإمبراطورية البابلية في سنة 539ق.م وتوالت تباعاً حتى تم تأسيس الدولة العراقية الحديثة في سنة 1921م. عُرفت تلك الحملات في الثقافة الأيزيدية باسم الفرمانات. والفرمان كلمة تركية تعني القرار. ومن المُرجح أن تلك الكلمة ارتبطت بحملات الإبادة الأيزيدية بسبب أن معظم تلك الحملات وقعت في عصر الدولة العثمانية على وجه التحديد. بشكل عام يرى الأيزيديون أنهم تعرضوا لـ 72 إبادة جماعية عبر التاريخ.
وقعت أولى حملات الإبادة التي تعرض لها الأيزيديون في العصر الإسلامي في القرن الثالث عشر الميلادي. في سنة 1254م، فرض بدر الدين لؤلؤ حاكم الموصل الكثير من الضرائب على الأيزيديين في منطقة سنجار. وأضطرهم للقتال في بعض المعارك. فهزمهم وأسر الكثير منهم ونقلهم إلى الموصل. ثم قام جيشه بمداهمة القرى الإيزيدية وسبي الكثير من النساء والأطفال. وهدم المعبد الأيزيدي المقدس في لالش، كما قام بنبش قبر الشيخ عدي بن مسافر، وهو واحد من أهم الشخصيات المقدسة في التقاليد الأيزيدية.
في العصر العثماني
حظي الأيزيديون ببعض الحرية في بدايات الحكم العثماني للعراق في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي. تحالف الأمير الأيزيدي حسين بك مع العثمانيين ضد الصفويين الذين اجتاحوا العراق في بعض الفترات. ولكن سرعان ما تغيرت الأوضاع في بدايات القرن السادس عشر الميلادي عندما تم استدعاء الأمير الأيزيدي إلى إسطنبول وحُكم عليه بالموت ليصبح هذا الحدث فاتحة لعصر طويل من الاستهداف العثماني للأيزيديين.
يذكر المفكر العراقي علي الوردي في كتابه “مهزلة العقل البشري” أن العثمانيين عملوا على استصدار بعض الفتاوى الدينية التي تمكنهم من استهداف المكون الأيزيدي في العراق. في هذا السياق نجح السلطان العثماني سليمان القانوني في الحصول على فتوى من شيخ الإسلام أبي السعود أفندي. جاء في تلك الفتوى أن الأيزيديين “…أشد كفراً من الكفار الأصليين، وقتلهم حلال في المذاهب الأربعة، وجهادهم أصوب وأثوب من العبادات الدينية، والمباشرة في قتلهم وقتل رؤسائهم من الواجبات الدينية، وحكام الوقت والولاة الذين يرخصون في قتلهم، ويحرصون على قتالهم ويرغبون في سبيهم شكر الله سعيهم وأعانهم وساعدهم على مقاصدهم وأيدهم عليهم بنصره العزيز. فلهم أن يقتلوا رجالهم ويستأسروا ذريتهم ونساءهم ويبيعونهم في أسواق المسلمين كأسارى سائر الكفار، ويحل لهم أيضاً التصرف في أبكارهم وزوجاتهم…”.
بموجب تلك الفتوى قام العثمانيون بالعديد من الحملات العسكرية على الأراضي الأيزيدية في شمالي العراق. من أشهر تلك الحملات حملة أحمد باشا والي ديار بكر في سنة 1630م والتي قُتل فيها ما يزيد عن عشر آلاف أيزيدي. وحملة حسن باشا والي بغداد في سنة 1714م والتي راح الآلاف من الأطفال والنساء الأيزيديين ضحية لها في جبال سنجار. وحملة والي بغداد سليمان باشا أبي ليلى في سنة 1752م والتي قُتل فيها المئات من الأيزيديين بعد أن حصلوا على وعد بالأمان.
كذلك قام حكام إيران الإفشاريون بقيادة بعض الحملات على الأراضي الأيزيدية في القرن الثامن عشر في الأوقات التي وصل فيها نفوذهم إلى شمالي العراق. على سبيل المثال شن نادر شاه في سنة 1743م هجوماً كاسحاً على معاقل ومستوطنات الأيزيديين في منطقة الزاب الكبير وبعشيقة.
أما أبشع حملات الإبادة الجماعية التي استهدفت الأيزيديين في العصر العثماني فكانت حملة محمد باشا المعروف بميركوه في سنة 1831م. في تلك الحملة قُتل عدد كبير جداً من الأيزيديين في أرض المعركة. فأضطر الناجون إلى الهروب إلى قمم الجبال للاعتصام بها والالتجاء لكهوفها. ولكن الجند العثماني تتبع الفارين ولحق بهم في الكهوف وقتل أغلبهم بالرصاص وبقنابل الدخان التي أصابتهم بالاختناق داخل الكهوف. يذكر أمين فرحان جيجو في كتابه أن ثلاثة أرباع الشعب الإيزيدي فقدوا حياتهم في هذه الحملة. في الفترة الأخيرة من عمر الدولة العثمانية، حاول العثمانيون إخضاع الأيزيديين للتجنيد الإلزامي لينضموا إلى قوات الجيش العثماني. رُفض هذا القرار من جانب الأغلبية الساحقة من الإيزيديين. وتسبب ذلك في شن الحملات المتتابعة على سنجار في أعوام 1910م، 1913م، 1917م.
في عهد صدام حسين
تواصلت معاناة الأيزيديين في عهد نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين. في سنة 1988م، تم استهداف الإيزيديين كما اُستهدفت بقية عناصر المكون الكردي في العراق في العملية العسكرية التي شنتها الحكومة العراقية، والتي عُرفت وقتها باسم “حملة الأنفال”. بحسب منظمة “هيومن رايتس ووتش” فإن ما يصل إلى 100 ألف كردي، معظمهم من المدنيين، لقوا حتفهم في عمليات تطهير عرقي ممنهجة، والتي تضمنت استخدام أسلحة كيميائية. في سنة 1995م، لجأ النظام إلى “القوة الناعمة” لفرض سطوته على المجتمع الأيزيدي. حاول صدام حسين أن يفرض نفوذه من خلال التدخل لتعيين بابا شيخ -وهو الزعيم الروحي الأكبر للإيزيديين- مقرب من السلطة. فشلت محاولة حسين ورُفض تدخله من قِبل شيوخ وعشائر الإيزيديين، فاضطر نظام صدام للخضوع لرغبة الجماهير الإيزيدية.
بعد سقوط حزب البعث
حظي الأيزيديون العراقيون باعتراف رسمي بوجودهم عقب سقوط النظام البعثي في سنة 2003م. ضمنت المادة الثانية من الدستور العراقي سنة 2005م حقوق الأيزيديين فنصت على أن الدستور “يضمن الحفاظ على الهوية الاسلامية لغالبية الشعب العراقي، كما يضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الافراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية كالمسيحيين والأيزيديين والصابئة المندائيين”.
رغم ذلك، وقعت الكثير من التوترات بين المسلمين والأيزيديين في شمالي العراق. في سنة 2007م توترت العلاقات بين الطرفين على خلفية ما اُشيع عن إسلام فتاة إيزيدية تدعى دعاء خليل أسود. في السابع من إبريل من تلك السنة، أقدمت مجموعة من الإيزيديين من بلدة بعشيقة في محافظة نينوى على رجم الفتاة بعدما اتهموها بالزنا. تسببت تلك الحادثة في اندلاع بعض الأحداث الطائفية في المنطقة. كان أولها ما وقع في الثالث والعشرين من إبريل عندما قام مسلحون مسلمون ينتمون إلى إحدى التنظيمات السنية باختطاف حافلة تقل عمال مصنع للغزل والنسيج بالقرب من الموصل. واصطحبوا من فيها من العمال الأيزيديين -وعددهم ثلاث وعشرين- إلى منطقة مهجورة شرقي الموصل حيث تم إعدامهم رمياً بالرصاص.
في 14 أغسطس من العام نفسه. تعرض الأيزيديون في جنوب سنجار لواحدة من أكبر العمليات الإرهابية في العالم من حيث عدد الضحايا. اقتحم صهريج وقود وثلاث شاحنات محملة بمواد تفجيرية وقنابل مجمع القحطانية السكني. أسفرت تلك الانفجارات عن سقوط ما يزيد عن 800 قتيل بالإضافة إلى 2000 جريح. أُعلن فيما بعد عن مسؤولية تنظيم القاعدة في العراق عن تنفيذ تلك العملية. على إثر تلك العمليات الإرهابية تشكلت بعض الفصائل الأيزيدية المسلحة التي تولت مهمة الدفاع عن الشعب الإيزيدي. كانت القوات المعروفة باسم “وحدات مقاومة سنجار” هي أهم الفصائل التي ظهرت في هذا السياق.
مذابح داعش
في سنة 2014م تعرض الأيزيديون لعدد من المذابح المروعة على يد عناصر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). في يوليو من تلك السنة، انسحبت قوات البيشمركة التابعة للحزب الكردستاني الديموقراطي، بقيادة مسعود برزاني من جبال سنجار، وتركت الإيزيديين ليواجهوا مصيرهم الدامي. في الثالث من أغسطس فرضت عناصر داعش سيطرتها على الموصل ومنطقة سنجار وسهول نينوى. وقامت باستهداف المواطنين الأيزيديين في تلك النواحي باعتبارهم “كفاراً يستحقون القتل”. بحسب المصادر، قُتل ما يزيد عن 1200 إيزيدي، واُختطف أكثر من 6 آلاف آخرين. فيما سُبيت المئات من الفتيات الإيزيديات وأخذهن كجواري وتم بيعهن في أسواق الموصل والرقة. بقي نفوذ داعش قائماً في تلك المنطقة حتى استعاد الجيش العراقي والحشد الشعبي السيطرة عليها في سنة 2017م.
أسفرت عمليات الإبادة التي ارتكبتها عناصر داعش عن حدوث العديد من التغيرات الديموغرافية في المنطقة. ولا سيما بعدما هاجر ما يقارب من مئة ألف إيزيدي من العراق إلى أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا وكندا. في السياق نفسه، صرحت منظمة “هيومن رايتس ووتش” إنّ السلطات العراقية تقاعست عن دفع التعويضات المالية المستحقة بموجب القانون العراقي لآلاف الأيزيديين في منطقة سنجار. كما أن ما لا يقلّ عن 200 ألف سنجاري مازالوا يعانون في مخيّمات النازحين في شمال العراق. من الجدير بالذكر أن حكومات كل من بريطانيا وألمانيا وأستراليا وبلجيكا وهولندا أقرت رسمياً بأن ممارسات تنظيم الدولة الإسلامية في حق الإيزيديين في سنة 2014م في العراق تشكل “إبادة جماعية”.
كيف حافظ الأيزيديون على وجودهم عبر القرون؟
يبدو السؤال عن الكيفية التي حافظ بها المكون الأيزيدي على وجوده عبر القرون سؤالاً ملحاً، ولا سيما مع كثرة وتعدد الحملات العسكرية والعمليات الإرهابية التي تعرض لها الأيزيديون عبر القرون.
في الحقيقة لا توجد إجابة بسيطة على هذا السؤال. ولكن يمكن أن نلخص الإجابة عليه في نقطتين رئيستين، أولهما العامل الجغرافي، وثانيهما طبيعة الدين الأيزيدي نفسه.
فيما يخص النقطة الأولى، كانت جغرافية منطقة سنجار التي تعيش فيها غالبية الأيزيديين العراقيين سبباً في الحفاظ على بقاء هذا الشعب. تتميز تلك المنطقة بوعورتها وتضاريسها الجبلية الصعبة. استغل الأيزيديون ذلك في الاحتماء والفرار عقب الهزائم العسكرية التي تعرضوا لها في ميادين المعارك. وهكذا، اعتاد الأيزيديون على اللجوء إلى الكهوف البعيدة حتى تنسحب القوات المستهدفة لهم، ثم ينزلون بعدها إلى القرى المنبسطة لمواصلة حياتهم.
أما النقطة الثانية فتتعلق بطبيعة الدين الأيزيدي نفسه. يؤمن الأيزيديون بأن دينهم دين قديم سبق الإسلام وباقي الأديان التوحيدية الأخرى بقرون طويلة. رغم ذلك نلاحظ أن الأيزيديين تماهوا في الكثير من الأحيان مع بعض المذاهب الإسلامية الرائجة في العراق. على سبيل المثال يذكر عبد الكريم الشهرستاني في كتابه “الملل والنحل” أن الأيزيدية فرقة من فرق الإباضية وتُنسب إلى رجل يُعرف بيزيد بن أبي أنيسة. كما ربط البعض بين الأيزيديين والأمويين الذين هُزموا على يد العباسيين واستقروا بالقرب من جبل سنجار في القرن الثاني الهجري. كذلك ذهب ابن تيمية في رسالته المسمّاة بـ”الوصيّة الكبرى” إلى أن الأيزيديين من أتباع الشيخ عدي بن مسافر من “أهل السنة والجماعة”. تسبب ذلك الخلط في غموض معنى الأيزيدية. أُعتبرها البعض ديناً مستقلاً قائماً بذاته. فيما اُعتبرت في أحيان أخرى مذهباً منشقاً عن الإسلام. وسمح ذلك بحصول الأيزيديين على الاعتراف بوجودهم في مراحل متعددة.
محمد يسري