ماضي أمتنا، وتاريخ حراكنا مليء بالتجارب والعبر، دراستها بمصداقية وروية تمدنا بالحكمة لقراءة حاضرنا والتخطيط الأنسب لقادمنا، وتساعد على تنويرنا، وتنقية مفاهيمنا، ومعرفة الدروب الصحيحة، وانتقاء الأساليب الناجحة، وتقليل الأخطاء والسلبيات.
الكشف عن بعض صفحاته، والتعتيم على بعضه الآخر، وتحريف بعض مراحله، وتحليل ما يظهر للعلن من الغث بمزاجية الأطراف التي لا تزال في مرحلة الطفولة، حيث المصالح الأنانية، والحقد؛ هي من السمات الطافية بين الأغلبية من الحزبيين والسياسيين الكورد أكثر مما هي لدى المثقفين.
البحث في هذه الجدلية، تفتح أفاق لا نهاية لها، لكننا نحصرها ضمن جغرافية غربي كوردستان مع شطحات للأجزاء الأخرى، ومعظم أطراف الحراك تملك الحق في إقامة العلاقات السياسية مع أية منظمة تجد في ذاتها ركيزة ديمقراطية، من المعارضة السورية أو غيرها، إلى الدول الإقليمية ومن بينها المحتلة لكوردستان، بشرط ألا تخسر ذاتها، ولا تكون على حساب مصداقيتها، وألا تسقط في هوة التبعية أو الارتزاق، أو تستخدم كأداة لتسيير مصالحهم، أي أن تظل صاحبة الموقف والرأي.
لكن وفي الواقع الفعلي، والتي هو الوجه المغاير للنظري، نرى ومن التاريخ المعتم، أن أغلب أطراف الحركة الحزبية تكونت بدعم من الأنظمة الإقليمية، بدءً من جمعية خويبون التي أسسها الفرنسيون بعدما عقدوا مؤتمرها الثاني، دعموها ونشروها ومن ثم وضعوا لها نهاية عندما بلغت مصلحتهم نهاياتها، إلى الحزب الأول في غربي كوردستان، وقد كان عبد الناصر عرابها، مثلما لحافظ الأسد دور في جزء من جنوب وشمال كوردستان، ولإيران دور في الجزء الأخر من جنوب كوردستان، ولنظام صدام حسين والبعث العراقي دور في تقوية وتحريك أطراف في شرق كوردستان، وللأنظمة التركية أدوار في تشويه كلية الحراك أو الطعن فيه إما محاربته بشكل مباشر، أو نشر دعاية على أنها تتعامل معها لجعلها مكروهة من الشارع الكوردي، ومعظم المربعات الأمنية للأنظمة المحتلة لكوردستان، استخدمت هذا الأسلوب الخبيث، مثلما كانت لروسيا وفرنسا وبريطانيا دور في خلق دويلات ومجموعات وتحطيمهم بعد زوال مصالحهم.
أستخدم النظام السوري ومربعاته الأمنية أغلبيتهم لمصالحه، مثلما أستغل نظام بغداد أطراف في جنوبه سابقا، لفترات معينة. والنظامين كان لهم دور في تقسيم الحراك وتوسيع الشرخ، ونشر وباء التآكل الداخلي الجاري حتى يومنا هذا، وأخرون احتضنتهم المنظمات الفلسطينية والتي كانت هي بذاتها أدوات بيد القوى المحتلة لكوردستان، أي حراكنا كان رضيع خادم الأنظمة، ولا شك كما نوهنا لا ناقصة فيما لو كانت هذه العلاقات على سوية العلاقات السياسية، ولم تخسر إرادتها، ولم ترضخ للإملاءات.
والأطراف التي ظلت خارج هذه المعادلة المؤلمة، أستمر مهمشا، هزيلا بدون قوة، معدم اقتصاديا وسياسيا، وتنظيميا. وللعلم الطرف الذي تمكن من خلق بعض المؤسسات الاجتماعية أو الثقافية كان يحصل على الدعم الخارجي، المرهون بشروط، وإملاءات، وتوجيهات.
كل من يدرس تاريخ حراكنا الحزبي-السياسي خارج هذا السياق يحرف الحقائق، ويلغي الصفحات السوداء، والتي هي في عمقها تجارب مهمة لا بد من إزالة الغطاء عنها، وأخذ العبر والدروس منها، بسلبياتها أكثر من إيجابياتها، لا ناقصة في الدراسة الواعية لحالات الفشل في الضعف، كواقع الناجح في حالة القوة.
هذه الحقائق، أدت إلى أن يظل حراكنا في مرحلتها الجنينية، أو الطور الطفولي، من دراسته لتاريخه إلى علاقاته مع القوى الأخرى، إلى ضعفه في إيجاد حل لخلافاته والتآكل الداخلي. وهي إلى يومنا هذا تعاني من الوباء الأكثر انتشارا في شرقنا، حيث غياب المصداقية، والجرأة والنزاهة في تبيان تاريخه والتعامل السياسي، وهذه من الصفات الغائبة لدى معظم الذين تناولوا تاريخ شعوب منطقة الشرق الأوسط، وخاصة أقلام الأنظمة المحتلة لكوردستان، الذين بحثوا في تاريخ الشعب الكوردي وحركاته النضالية.
الناجون من هذا الوباء هم الناجحون في الحقل السياسي، وفي الحياة العامة، وهم الذين يفضلون الوطن على الحزب والحزب على الذات الشخصية، هم الذين يملكون جرأة تفضيل الصدق على النفاق، والمنطق على الجهالة السياسية، والدهاء السياسي على الرضوخ للإملاءات، والقدرة على التخلص من الآفة المنتشرة في معظم العالم، وخاصة بين الدول النامية، وتحديدا دول الشرق الأوسط وشعوبها.
لا تؤثر، إشكالية التحايل على التاريخ، والتعتيم على صفحات منه، وإشهار بعضه، والتبجح ببعضه، على الدول ذات السيادة، والقوى التي تصارع بعضها على السلطة، لكنها تدمر الحركات التي لا تزال في طور النضال التحرري كالحراك الكوردستاني، خاصة عندما تعبث بها شخصيات دون المستوى، تبوأوا المناصب، وقدموا نفسهم ممثلين عن الأحزاب والشعب.
قلائل من الحزبين والسياسيين الكورد، كانت لهم الجرأة في القول، عند مواجهة الشعب، ونقد الذات والحزب، وفضلوا المصلحة القومية على الغايات الذاتية، لكن الأغلبية خلقوا التبريرات للماضي الملوث الذي يمس الذات الشخصية أو الجهة التي تعنيهم، وهو ما أدت ليس فقط بصحابه إلى السقوط في مستنقع المسائلة أمام المجتمع، ولوثت تاريخه النضالي بصفحات تم التعتيم عليه أو تحريفه، بل دفعت بكلية الحراك الكوردستاني إلى ديمومة الاستمرار في طور الطفولة، أي تكرار الأخطاء نفسها، وتراكم السلبيات، هذه الحالة، في الواقع العملي هي من أهم أسباب البقاء تحت هيمنة القوى المحتلة لكوردستان، واستمرارهم التلاعب بحراكنا.
تحت عباءة المعرفة السياسية، والخباثة الدبلوماسية، والحصول على دعم مادي والتي هي من ضرورات أي نجاح، عومت قيادات الأحزاب الكبرى، إشكالية التخوين بين الشعب الكوردي، والعمالة للقوى المحتلة لكوردستان، وبها قزمت بعضها بسوية لا تقل عما فعلته الأنظمة العنصرية، كما وسعوا شرخ الخلافات الحزبية مع الزمن، إلى أن أنتقل الوباء من التنظيم إلى المنهجية، وكل يغطي على تبعيته للقوى الإقليمية، وبالتالي ازداد إما التعتيم على الماضي، أو تحريفه، أو تحليله بمنطق مبني على المصلحة الذاتية.
ولأن أغلبية حراكنا لا تزال في المرحلة الجنينية، وفي أفضله طور الطفولة، ولم يتمكن من اجتيازه رغم المسيرة النضالية الطويلة، لذلك ظل يجتر الماضي بسلبياته، رغم المكتسبات القيمة، وإن قدم دراسات لمجريات الأحداث حاليا، حتى ولو كانت بأوجه مختلفة، لن تخدم الحاضر ولا حلا للمستقبل، ولربما ستكون النتائج مؤلمة، في إقليمي جنوب وغرب كوردستان، فلا تكفي النضال تحت الشعارات الوطنية، والمنهجية التي يقال أنها تلائم العصر والظروف.
معظم الأطراف، لم تأخذ العبر من تاريخ الحراك، لأنهم لا يزالون يعتمون على أغلب فصوله، ويعرضون مبرراتهم وتأويلاته التي تخدم الحزب لا الوطن، الذات لا الشعب وقادمه.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
21/9/2023