تقول هيلا ميفيس كثيرًا ما يسألونها عن سبب تعلُّقها الكبير ببغداد، وتضيف: “إجابتي دائمًا هي نفسها: بسبب الهندسة المعمارية والناس”. تهبُّ ريح دافئة على شرفة “بيت تركيب”، وهو مركز ثقافي أسَّسته هيلا ميفيس قبل عدة سنين في بغداد وما تزال تديره حتى اليوم؛ وينتشر الغبار الناعم فوق الطاولة والمقاعد وفناجين القهوة والسجائر.
وتُطِلُّ هذه الشرفة على الشارع وتتيح المجال للنظر إلى المبنى المقابل الذي قد يكون مثالًا جيِّدًا لأسلوب الهندسة المعمارية التي تتحدَّث عنها: بناء من طوب لونه فاتح، ومكوَّن من طابقين بسقف مسطَّح، نوافذ بمصاريع خشبية مُزيَّنة بزخارف ومغلقة منذ زمن بعيد وبعضها محطمة. ويظهر فيها جمال الماضي بوضوح خلف حاضرها المتداعي.
وثلث أو ربع المباني في هذا الشارع تبدو هكذا، وجميعها تروي قصصًا متشابهة حول طبقة متوسِّطة ميسورة تحطَّم أسلوب حياتها وغادرت العراق على مرّ السنين، وقد أنهكها عدمُ الاستقرار والتعسُّف والفوضى والعنف في كلّ ركن في الشوارع.
لا يمكن للمرء السير لمسافة كيلومتر واحد في بغداد من دون أن يتذكَّر أنَّ انتحاريًا فجَّر نفسه قبل بضع سنين في هذه الزاوية وقتل معه الكثير من الأشخاص؛ وأنَّ شاحنة تبريد محملة بالمتفجرات قد اقتحمت ذلك الشارع التجاري المزدحم وأنَّ سيارة مفخَّخة انفجرت على بعد بضعة شوارع وحفرت حفرة عمقها متر في مبنى حكومي. فبغداد معبَّدة بذكريات الرعب.
ظلت محتجزة لثلاثة أيَّام
وهذا الرعب يشمل أيضًا ما عاشته هيلا ميفيس بنفسها في صيف عام 2020 عندما تم اختطافها من حي الكرادة الذي كانت تعيش فيه. وتم احتجازها لثلاثة أيَّام من دون الكشف حتى الآن عن خاطفيها. ثم أُطلق سراحها وشكرت السلطات العراقية أمام الكاميرات وعادت إلى ألمانيا.
وبقيت هناك في ألمانيا لمدة عام تقريبًا. وحول ذلك تقول: “كان ذلك صعبًا بالنسبة لي”. فمَنْ عاش في بغداد كلَّ هذه المدة الطويلة تصبح برلين مدينة غريبة بالنسبة له. ولذلك فقد تجاهلت تحذيرات السلطات الألمانية من أنَّ الوقت ما يزال مبكِّرًا جدًا من أجل العودة وعادت على مسؤوليتها الخاصة إلى العراق. والآن؟
وفي هذا الصدد تقول وهي تضحك: “لم أعد أقود درَّاجتي الهوائية كثيرًا“، وذلك لأنَّها تعلم جيّدًا أنَّ الدراجة الهوائية التي كانت تحب ركوبها للتجوُّل في بغداد قد جلبت لها سمعة سيِّئة كارثية. وتقول متذكِّرة إنَّها ربَّما زارت أيضًا ساحة التحرير كثيرًا – تلك الساحة التي كان يجتمع فيها لعدة أشهر عشراتُ الآلاف من العراقيين خلال احتجاجات عام 2019 من أجل التظاهر ضدَّ الفساد والطائفية، والتي نُصبت فيها عشراتُ الخيام التي كانت تدور فيها نقاشات وجدالات. وتضيف: “على الرغم من أنَّني كنت دائمًا أرفع شعار: لا سياسة ولا دين ولا جنس!”.
لقد كانت هذه وما تزال عقيدة بيت تركب من أجل حماية البيت وفنَّانيه من أشخاص يُفضَّل ألَّا يجذب المرء انتباههم إليه في العراق. تقول هيلا ميفيس: “لكن توجد أحيانًا في الحياة أخطاء في التقدير”. وتضيف أنَّها لم تكن وحيدة في ذلك. فحتى خاطفوها لم يكونوا يتوقَّعون على الأرجح أن يُثير اختفاؤها هذا الاهتمام العام الكبير وموجة التضامن معها. فقد حاول فريق الأزمات الألماني لعدة أيَّام إطلاق سراحها. ونظَّم الأصدقاء مؤتمرًا صحفيًا كبيرًا وأطلقوا حملة على وسائل التواصل الاجتماعي. وهيلا ميفيس مقتنعة بأنَّ هذه الدعاية كانت حاسمة: “الشعب العراقي أنقذني”.
“يا إلهي، نحن نصنع فنًّا”
ولكنها ستهتم في المستقبل بعدم إثارة الكثير من الاهتمام مرة أخرى وإيجاد توازن بين ضبط النفس والاستمرار في عملها. وتقول إنَّ الاستمرار في عملها يزداد صعوبة بعدما توقَّف منذ اختطافها الدعم المالي لِـ “بيت تركيب”، وخاصةً من قِبَل المؤسَّسات الألمانية. لا يمكن للمرء دعم مركز ثقافي يرى أنَّ مديرته في خطر ويفضِّل بالتالي أن تكون خارج البلاد، بحسب تعبير هيلا ميفيس التي يبدو أنَّها تتفَّهم ذلك، بالرغم من أنَّها تتنهَّد قائلةً: “يا إلهي، نحن نصنع فنًّا”.
وهذا المركز الثقافي موجود منذ عام 2015 ويجمع مثل بيت متعدِّد الألوان والأطياف جميع أشكال التعبير الفنِّي الممكنة تحت سقف واحد. وتوجد فيه غرفة للرقص وغرفة للموسيقى وغرفة للتصميم البصري وغرفة للرسم. وفيه أيضًا ورشات عمل وكتب وقهوة وشاي.
وهيلا ميفيس تحبُّ الانسحاب إلى السطح، حيث شيَّدت غرفة وجهزتها بمكتبة صغيرة جدًا. وهي تجمع هنا انطباعاتها عن المدينة – صور المعالم الأثرية والمباني المهمة معماريًا واللوحات الجدارية والتركيبات والتداخلات في شوارع بغداد، والتي تنشرها فيما يشبه الأرشيف الرقمي. وحول ذلك تقول: “كثيرًا ما لا يعرف الناس سوى القليل جدًا عن مدينتهم. ولكنهم يريدون معرفتها”.
الفنَّانون مجبرون على العزلة
ومن الواضح أن فنَّاني بيت تركيب تجمعهم رغبتهم في المساهمة في التنوير. لم يعد يوجد أي جدار أو زاوية خالية داخل هذا البيت المكتظ بصور ولوحات وملصقات وتماثيل تعطي انطباعًا عن القضايا التي يهتم بها الفنَّانون وعن النبرة التي يتناولون بها هذه القضايا. وهذه النبرة ليست استفزازية، بل هي تساؤل حذر يخرج من هذه الأعمال – من صور الفنَّانة جمانة رضا التي تتناول تصوُّر المرأة في العراق، وأيضًا من أعمال الفنَّان لؤي الحضري وتركيباته التي تركِّز على الطبيعة المهدَّدة في الأهوار بجنوب العراق.
وهناك أعمال تُركِّز أيضًا على حماية البيئة والهجرة وتغيُّر المناخ وصدمات الطفولة. ويعمل حاليًا أربعة أو خمسة فنَّانين شباب كفنَّانين مقيمين في “بيت تركيب” مع هيلا ميفيس بصفتها مرشدةً وأُمًّا لهذا البيت. “التركيبيون غالبًا ما تكون وجهات نظرهم ناقدة اجتماعيًا”، مثلما تقول هيلا ميفيس. وتضيف أنَّ معظمهم يريدون البقاء في العراق: “إذا وصلوا إلى شخص واحد فقط فهذا عمل كبير بالنسبة لهم”. لقد انتهى قبل بضعة أسابيع مهرجان تركيب بغداد للفنون المعاصرة الذي عرض فيه بعضُ الفنَّانين للجمهور أفكارهم من خلال أعمالهم الفنِّية التركيبية والتصويرية والمتعدِّدة الوسائط.
النساء يتجرَّأن أكثر على الخروج من بيوتهن
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنَّ هذا الجمهور صغير؛ إذ إنَّ المشهد الفنِّي المعاصر في بغداد من الصعب مقارنته مع أي شيء آخر – سواء في بعض الدول العربية المجاورة أو في أجزاء أخرى من العالم. تذكر مؤرِّخة الفنّ الأمريكية من أصل عراقي ندى شبوط -التي تدرِّس في جامعة تكساس والمتخصِّصة في الفنّ العراقي الحديث- أسبابًا متنوِّعة لذلك: عدم توفُر بنية تحتية وصعوبة الحصول على فرص تعليمية وكذلك هجرة العقول التي أضعفت العراق في العقود الأخيرة.
“كلُّ هذا دفع الفنَّانين العراقيين في العراق إلى العزلة. وهؤلاء الفنَّانون يُنظر إليهم على أنَّهم غير قادرين على التحدُّث باللغة الفنِّية العالمية ويُعتبرون بالتالي بعيدين عن فنَّاني الشتات العراقي”، مثلما كتبت لنا الأستاذة ندى شبوط في رسالة إلكترونية.
وبالإضافة إلى ذلك فإنَّ المشهد الفنِّي في العرق لا يزال يهيمن عليه مثل ذي قبل خطابٌ ومؤسَّسات من السبعينيات، وجامعات وجمعيات الفنَّانين ونقاباتهم، مثلما تقول ندى شبوط: “فنَّانو بيت تركيب يتحدُّون هذا الوضع الراهن ويقدِّمون خيارات جديدة”. وهم يشجِّعون على أمور من بينها أيضًا جعل لغة الفنّ المعاصرة مرئية كوسيلة للتعبير.
وهذه بطبيعة الحال ليست مهمة سهلة، حتى وإن كانت الأوضاع قد تغيَّرت في السنين الأخيرة. فقد تم افتتاح بعض المعارض الجديدة. وهيلا ميفيس لاحظت أيضًا أن ما يعرف باسم ثورة تشرين الأوَّل/أكتوبر 2019 قد أحدثت بعض التغييرات. وتقول إنَّ الناس صاروا يمتلكون المزيد من الشجاعة للحديث.
وتضيف أنَّ النساء أصبحن يتجرَّأن أكثر على الخروج من بيوتهن: “كذلك يتم العمل على صورة المدينة – صحيح أنَّها أعمال تجميلية، ولكنها على الأقل موجودة”. والجديد في الواقع أيضًا أنَّ حديقة الأم الواقعة خلف ساحة التحرير، والتي كانت أيضًا مسرحًا للانتفاضة الشعبية، قد ظهرت ممتلئة بالألعاب المائية والنوافير والأضواء الخيالية والناس حتى وقت متأخِّر من المساء في بداية هذا الصيف (2023).
تمامًا مثل تجوُّل الكثير من العائلات في المساء عبر شارع المتنبي الشهير، الذي يمثِّل قلب صناعة النشر في العراق وقبلة يشتاق إليها محبو الكتب العرب. لقد كان هذا الشارع حتى في السنين التي سبقت الاحتجاجات مظلمًا ومهجورًا في الليل، ولكنه الآن مضاء بشكل ساطع. يمر الناس الناس هنا من أمام عازفي الناي وبائعي الكتب وصانعي الحلويات – وأمام المقهى القديم المعروض في مدخله صور أبناء صاحب المقهى الأربعة وحفيده الذين قتلوا في هجوم بسيارة مفخَّخة في عام 2006. وهذا موقع آخر من مواقع الرعب في بغداد.
وبعد عدة أمتار في الشارع نزولًا، يتزاحم الناس للركوب على متن سفينة ترفيهية تسافر ذهابًا وإيابًا في نهر دجلة حتى وقت متأخِّر من الليل. وكأنَّما لم يحدث هنا أي شيء على الإطلاق.
لينا بوب
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: فرانكفورتَر ألغماينه تسايتونغ / موقع قنطرة 2023