موجودة، من حيث الديمغرافية، والمقومات القومية، والإيمان بها، والأبعاد الجغرافية والطبيعية وحركاتها السياسية، ومن حيث الاعتداءات الخارجية المتواصلة، والمؤامرات التي تحاك بين الدول الإقليمية لديمومة احتلالهم لها، إنها الحقيقة التي لا يمكن إنكارها رغم العقود الطويلة من التعتيم، ومحاولات التغيير الثقافي لذهنية شعبها، والعمل المتواصل لتشويه وتعتيم وتحريف تاريخهم. ماهيتها مترسخة في ذهنية الأعداء بقدر ما هي جزء من ذات الإنسان الكوردي.
الأنظمة المحتلة لكوردستان هي الأكثر قناعة بوجودها، يعملون المستحيل لإزالتها من حواراتهم السياسية والدبلوماسية، ينجحون في المسافات القصيرة، لكنهم يفشلون على المدى الطويل، لأن قوتها الخام الكامنة لا تنضب من على جغرافيتها، وحضورها لا يمكن إزالته، أو التناسي أن الطاقات الهائلة التي يبذلونها لطمسها والقضاء عليها تؤدي إلى خلق عداوة بين شعوب المنطقة، وترسيخ المفاهيم الموبوءة في ذهنية شعوبهم قبل الشعب الكوردي.
يتناسون إن الكورد أمة عجيبة لا يمكن القضاء عليهم مهما فاقموا من الدمار، وأن كل ما يجري هو هدر للطاقات السياسية، والدبلوماسية، والاقتصادية، والثقافية. لو كان لديهم وعي بقدر حقدهم، لاعترفوا بهم كدولة بدل الإنكار، أو طوروا أنظمة دولهم بإعطاء كوردستان نظام فيدرالي، والتي بها ستضاعف إمكانيات الدول المحتلة لكوردستان.
ربما لا خلاف على أن عدم وجودها على الخريطة السياسية الدولية، وحضورها دولة ضمن قاعات هيئة الأمم المتحدة، هي من عواقب القدر، المتحكم بمسيرة الأرض والشعوب، ومن بينها التغيرات الجيوسياسية، وهو نفس القدر الذي أوجدت المحتلين على الساحة الجغرافية الكوردستانية، وستزيلهم يوما ما. وقدر الكورد هو أنه استعمرتهم الدول الكبرى المفضلة مصالحها على كل القيم، والتي تعارضت والتيار الكوردستاني. لذا فغياب كوردستان السابق وظهورها القادم قدر كان وسيكون بيد الذين لا زالت مصالحهم مع الدول المحتلة لكوردستان في مرحلة سترجح كفة استقلالها على بقائها تحت الاحتلال. وظهور بيئة ملائمة لتوعية الشعب، فيفرض ذاته ومطالبه على الحراك الكوردستاني للتحالف والاتفاق، والتمييز بين مفاهيم الحراك التنويري والعابث بمفاهيمه.
قدر هذه الأمة أن تكون في صراع داخلي وخارجي مستمر، وتمر ضمن ظروف غريبة، يكون زمن مخاض ولادة دولتها أضعاف دول الشعوب الأخرى، وتكون نوعية إيمانهم هو المطلق بالعقائد والأيديولوجيات وبدون تأويلات، وهو ما يفاقم في انحياز مصالح الدول العظمى، وزيادة السلبيات التي تحكمت بمسيرة ثوراتهم العديدة، فغيبت مطالبهم مع الزمن، وأدت إلى ظهور دول لقيطة جزأت جغرافيتهم، تجاوزت أبعادها مجالات العمق القومي والديني والثقافي، ونعني بها دول الشرق الأوسط، الأكثر تغيرا على وجه الأرض، منذ بدء ظهور الوعي الإنساني في التقسيم بين حدود القبائل، إلى يومنا هذا.
ومن المؤكد وبناء على تطورات التاريخ، القدر لا يركن على المشهد الجيوسياسي الحالي، ولن يقف على الواقع الذي تم قبل مئة عام، بل ستظهر خرائط مختلفة، كما كتب عنها وفيها سياسيون وإعلاميون، في الجرائد ونشرت دراسات في المجلات العالمية الكبرى، وآخرها ما ظهرت في جريدة نيويورك تايمز قبل أسابيع.
القدر يحكم بمصير الشعوب والدول والإمبراطوريات، يخلق بيئة للتدمير وأخرى للولادة، يفرض ظهور دول جديدة وانعدام أو تقسيم أخرى، رغم المحاكم الدولية ووجود هيئة الأمم التي قدرها أن تكون ضعيفة غير قادرة على إيقاف المسيرة، وليس من سمات القدر أن يحافظ على دول العالم بسماتها الحالية، ومن بينها دول الشرق الأوسط اللقيطة والتي ظهرت في بدايات القرن التاسع عشر. القدر جدلية تفوق قدرات الإنسان.
جمهورية كوردستان وقدرها لا يزالان وحتى اليوم على طرفي النقيض، قدرها دفع بالدول الكبرى لتغيير مواقفها من الريفراندوم، وتضع العراقيل أمام مصير الإقليم الفيدرالي الكوردستاني، وتلغي التوقعات الإيجابية ليحل مكانها كتلة من النتائج السلبية، وفتح الأبواب للقوى المتربصة، بالتآمر عليها وقد كانت عرابة ظهورها قبل عقدين من الزمن، تحت مبررات خبيثة، وتأويلات منافقة لأهداف الريفراندوم، وعلى خلفية هذا العداء المستفحل خرجت شريحة من لدن الكورد نفسهم بالوقوف ضدها أو مهاجمتها، ونحن هنا لا نتحدث عن الذين حللوا الأبعاد السياسية للعملية، والاحتمالات المتوقعة بعد النتائج، بل الذين دفع بهم القدر ليكونوا دعما للقوى المتربصة بكوردستان تحت منطق الحكمة والرؤية السياسية الصحيحة. قدر هذا الشعب كثيرا ما يجعل نتائج نضال حراكه مليئة بالأضرار.
في الواقع العملي، بينت النتائج على أن القدر تفرض على الشعب الكوردي حراك يتحكم فيه قيادات وطنية لكن جلهم متخلفون سياسيا، يفضلون العاطفة على الواقع، وهي من أحد أبرز سماته الغريبة. هو ما أدت إلى خسارة الإقليم لثلث مساحتها، وخسارة كركوك كانت من أحد نتائجها المتأخرة، وانتقال جيايي كورمينج والمناطق الأخرى من المحتل العربي السوري إلى المحتل التركي، وتراجع مكانة الفيدرالية القريبة من الواقع الكونفدرالي، إلى سوية فيدرالية على أطراف إدارة ذاتية، وهيمنة نظام غريب على غرب كوردستان.
رغم كل هذا، ففي المنظور البعيد، تزداد بنية كوردستان تماسكا ومتانة، ويترسخ ثقة الإنسان الكوردي بالذات، رغم تصاعد نزعة الهجرة، والتي رغم تفاقمها لم يتزعزع الإيمان بالوطن رغم تراجعها في ذهنية الأجيال المهاجرة الجديدة، كما وأصبحت مطالب وطموحات الأمة الكوردية أكثر وضوحا، وهو يرعب المحتلين، فتعرت العنصرية في منهجيتهم والخباثة السياسية للذين تربطهم المصالح، ومن بينهم القوى الكبرى. مع ذلك تظهر من خلال تطور مسيرة الصراع ضد الكورد إن القدر بدأ يفتح صفحة جديدة في تاريخ المنطقة، والتي على أسسها نشاهد بوادر منهجية جديدة في العلاقات الدولية والإقليمية مع كوردستان وشعبها. رغم الدمار والتدمير تحت حجج ومبررات يبدون نوع من الاعتراف بهم كشعب له حقوق، حتى ولو كان النفاق السياسي يتقدمه.
وبشكل عام، ورغم الإيمان بالقدر أو عدمه، أو ما بينهما، وهي من الجدليات المعقدة والتي حيرت الفلاسفة وفقهاء الأديان، وتصاعدت الخلافات الفكرية من البدء ولا زالت، لكن وفي مجال قدر الشعب الكوردي وجمهورية كوردستان الغائبة حاليا والقادمة حتما، ما خلقه القدر من السلبيات في المراحل السابقة وحتى اليوم، بدأ وكأنه يمهد لظهور نتائج إيجابية لقادم كوردستان كجمهورية. لا يستبعد أن القدر سيمد هذا الشعب الغريب والصعب القضاء عليه، بالمعرفة الكافية ليتمكن من تسخير الظروف والمكتسبات والقدرة على تغيير مواقف الدول الكبرى من القضية الكوردستانية؟ ربما النتائج لبلوغ الغاية النهائية ستتأخر إلى مراحل لكنها لن تزول مع الزمن كما يحلم بها محتليهم.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
5/10/2023