سمة الرياء علامة شبه شاملة، تتسم بها جميع المؤسسات الإعلامية المحلية والعالمية، تظهر بأبشع صورها عند أول منحدر، تواكبه غياب المصداقية والنزاهة، والتي برزت مرة أخرى وبشكل فاضح في قضيتي إسرائيل-غزة، من حيث الانحياز، وتركيا-غرب كوردستان من حيث الصمت.
قدرة المؤسسات الإعلامية على خلق ثقافة الكراهية، وتنمية المنظمات الإرهابية، وخاصة التكفيرية هائلة خاصة عندما تكون البيئة الاجتماعية جاهلة وتعاني من ويلات المعيشة اليومية. كما وتنبيهها للسياسيين الخبثاء، والأنظمة الفاسدة، على ما تم نسيانه أو تناسيه تكاد تكون بلا حدود، وتعميقها للعنصرية بأقذر الأساليب بين الشعوب إن كانت على مبدأ صراع الأديان أو القوميات أو الخلافات السياسية مرعبة. تلعب دور هائل في إفساد القيم الإنسانية، وتسعير الحروب بين الأمم والدول، بنقلها الأخبار الموبوءة قبل الحقيقية، وتوسع مساحة المستنقعات الآسنة التي خلقها السياسيون، والأنظمة الدكتاتورية، والديمقراطية المزيفة، قبل تبيان جماليات طبيعة التآلف بين الشعوب.
كان الإعلام الأمريكي على سعير من النار بين بعضهم، قناة الـ (سي إن إن، وفوكس نيوز) والتابعين لهما، حتى قبل يومين، وكانت في شبه حروب دائمة، وعلى عدة جبهات وقضايا، من السياسية إلى الاقتصادية، والأخلاقية، وعلى دونالد ترامب ونهجه العنصري، ومحاكمه، على الرئيس جو بايدن وعزله، وغيرها، كان هناك سعار ما بين الجمهوريين والديمقراطيين، من على شاشاتهما.
لكنهم ومنذ العملية الغريبة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، والتي طاف الإجرام فيها بحق الأطفال والمدنيين، على منطق المطالبة بالتحرر وطلب العدالة، والتي أدت إلى تناسي الإعلام الأمريكي والمتحالفة مع إسرائيل، جميع القضايا الداخلية وما يجري في العالم إلا ما ندر، تناسوا حرب أوكرانيا، والصراع مع روسيا والصين، واختفى الحرب بينهما، وغابت خلافاتهم وحروبهم الكلامية، وأصبحوا في جبهة واحدة ضد عدو مشترك، الحركتين، والمنظمات الفلسطينية التابعة لهما، وحزب الله، والأنظمة الداعمة أو حتى المؤيدة لهم.
مذيعة الـ (سي إن إن) المشهورة والقوية (كيتي بولدوين) تبكي على الهواء، وتتوقف عن الحديث مع ضيفها لتمسح دموعها، وهي تتحدث عن الأطفال اليهود الرضع الذين قطع عناصر من حركتي حماس والجهاد الإسلامي رؤوسهم، في القرى اليهودية، (كفار عزة، ونتيفوت) وغيرهما، وصورة الفتاة العارية التي تم قتلها، وعرضت في خلفية السيارة مع صرخات (الله أكبر) كما تبثه القناة، وحيث الجثث المغطاة بأغطية خاصة، وتبيان أسرة الأطفال المكسورة، وهم يقارنوهم بجرائم منظمة داعش وقطعها لرؤوس المدنيين العزل، وسبي النساء.
وبالمقابل، بل وأكثر سعيرا، الأقنية (العربية ومعظم الدول الإسلامية) والتي كانت على صراع فيما بينها على المذاهب، الشيعة والسنة، التكفيريين والإسلام الليبرالي، العروبة والشعوب المطالبة بالحرية، الأقنية المدافعة عن الشعوب ضد الأنظمة، وعن الأنظمة ضد المعارضة، وغيرها، أصبحت تهاجم بصوت واحد، ومنهجية عنصرية، اليهود كدين وشعب، وإسرائيل كدولة، وأمريكا وأوروبا كحلفاء لها. لا وجود للقتلى اليهود وصورهم في نشراتهم، ولا للقرى والبيوت التي أحرقت ودمرت، إلا بالأرقام، باستثناء اليوم الأول، وحيث تبيانهم مشاهد لبطولات عناصر الحركتين، مقابل صور ضحايا الفلسطينيين، ونداءات الأمهات والآباء المشردة عائلاتهم جراء القصف الإسرائيلي.
قناة (الجزيرة، والعربية، والحدث) وأقنية الدول العربية الرسمية، وبدون استثناء، الذين كانوا في حروب كلامية أقذر من حروب السياسيين ومنافقي الأروقة الدبلوماسية، تآلفوا فجأة وبدون مقدمات، تناسوا حروبهم الداخلية، ومآسي شعوب المنطقة، وطغيان الأنظمة، والدمار الاقتصادي في سوريا والعراق واليمن، وليبيا وتونس، وعتموا على جرائم أردوغان بحق الشعب الكوردي، وما يفعله بسوريا، واحتلاله لجزء منها، وأصبحوا لا يعرفون من أخبار العالم إلا ما تفعله إسرائيل، وردود فعلها ضد حركتي حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله، وقصفها لمناطقهم في قطاع غزة، والمساعدات الأمريكية لها، والاحتمالات التي قد تقدم عليها لإعادة الاعتبار لسمعة الجيش الإسرائيلي وحكومته المنهارة معنويا بعد العملية.
الغرابة في ظهور قطبين من شريحة واسعة ومتنوعة ومتضاربة من شبكات الإعلام، وبسرعة غريبة، والتي بينت مدى هشاشة الإنسان بغض النظر عن مكانته العلمية والثقافية.
فغياب الوعي والإدراك والحس الحضاري، يجرف بالإنسان وبسهولة إلى أول مستنقع يظهر أمامه، بينتها اختلافات التغطية الإعلامية للطرفين المذكورين، بعدما كانوا أطراف، وجبهات، بمنهجيات متضاربة، وأساليب مختلفة.
والأغرب، السمات البشعة للمنهجية التي ترتكز عليها إعلام كل طرف، والمستمدة من أوبئة تناقض الثقافات، وتناسي جماليات تداخل ثقافة الشرق والغرب. الشبكات الأمريكية تركز على الجوانب الفردية، الإنسانية، وما فعلته عناصر الحركتين من القتل والتدمير، في القرى اليهودية، أو ما تسمى جدلا بالمستوطنات، كما فعلته السي إن إن، وتغطيتها طوال اليوم على جثث الأطفال الذين قطعت رؤوسهم، ليؤثر على ذهنية ومواقف المشاهد بأكبر قدر ممكن، والتي ولا شك جريمة بشعة تعيد إلى الأذهان جرائم داعش وبدايات الغزو الإسلامي لقبيلة خيبر. وبالمقابل تغطي الإعلام العربي، وفي مقدمتهم الجزيرة والعربية على القصف الإسرائيلي على القطاع بشكل عام، وعلى حالة الناس الملتجئين إلى مدارس أونروا، والبنايات المدمرة، وعمليات القصف الكارثي، للقطاع الذي يتداخل فيه السكن المدني مع المراكز العسكرية للحركتين، ولربما على خلفية الكثافة السكانية الهائلة والتي تعد أكثف منطقة سكانية في العالم، لتحريض أكبر قدر من ممكن من الناس على معاداة اليهود وإسرائيل.
بغض النظر عن الحقوق والمطالب، المتداخلة ما بين اليهود الذين عادوا إلى أرض الميعاد، والتي تثبتها الأديان السماوية الثلاث بنصوصها، وحق الشعب الفلسطيني بأن يكون له دولته المستقلة، وبسيادة وطنية تثبتها التاريخ كقومية فلسطينية قبل الدين والعروبة، تظل القضية معقدة، واحتمالات الاتفاق شبه مستحيلة، لأنها تتجاوز الصراع السياسي والسيادة المدنية، والقوة والضعف العسكري، بل تتحكم فيها، ليس مصالح الدول، بل الصراع الديني المرعب، الأكثر خطرا من جميع الصراعات الإنسانية، وهنا بين اليهودية والإسلام، المترسخ من مجريات الأحداث التاريخية الكارثية المتتالية، وحيث الإنكار الذي أدى إلى العديد من المجازر جلها تمت في بدايات الإسلام، والتي لم تكن بأقل من مجازر الهولوكوست، وثبتت لدى المدارس الإسلامية كمواقف شرعية فقهية ضد اليهود، فأدت إلى قتل الثقة بين الديانتين وما يتبعهما.
كما وتعمقت الكراهية لدى الفلسطينيين على خلفية الصراع الديني الداعم للقومي، في الوقت الذي يجب أن يكون الدين منبع للمحبة والتسامح، فأصبحوا أدوات بيد الأنظمة التي تحاول السيادة على العالم الإسلامي من خلال التباهي بالدفاع عن الإسلام بمحاربة اليهودية، وهو ما دفع بهم إلى نشر مفهوم الصهيونية للتحايل على التاريخ الوارد في نصوص الأديان السماوية الثلاث والتي تؤكد حق اليهود في الأرض، إلى جانب ما تم قبل وبعد أعوام إقامة دولة فلسطين، ودور بريطانيا في مجريات الأحداث، وفيما بعد أمريكا وروسيا، والتي تعكسها حاليا مواقف الدول، خاصة العربية وبعض الإسلامية المتاجرة بالدين والوطنية كإيران الشيعية وتركيا السنية، وإعلامهم.
الإعلام في كل العالم المعني بالقضية، تساهم في تصعيد هذا السعار الديني قبل القومي، وتعمق الكراهية وتعدم التآلف، وتقضي على ما قد تجنيه مسيرة التطبيع مع إسرائيل، أو مع اليهود، والعمل المشترك، وما قد ينتج عنه من التطور في المنطقة، وحيث تداخل ومشاركة العقل مع المال.
قد يأتي البعض ويقول إننا نتحدث عن مفاهيم طوباوية، وفنتازيا سياسية، لكن النظر في ماهية الأديان تكمن فيها هذا الروح، قبل الإيديولوجيات السياسية، والنظريات الفلسفية، والمناهج الفكرية التي تكونت على أسسها الحضارات، وليست الإمبراطوريات، لكن هناك منافقون أسسوا مؤسسات إعلامية وصرفوا عليها المليارات لمصالحها، وهي ذاتها ما كانت عليه الخلافات والممالك والأنظمة التي شوهت الأديان، بفقه وتأويلات منافقة.
الإعلام الدولي والمحلي، أثبت في هذه القضية، بل في القضية الكوردستانية قبلها، مثلما في معظم الصراعات الدينية والقومية والسياسية، عن نفاقها وانحرافها عن القيم الدينية والحضارية، فهي تغرف من المياه الأسنة لتبث المعلومات، وتساهم في القتل، وتدعم المجرم، والأنظمة الدكتاتورية، قبل الشعب، وهذا ما تؤكده مواقف إعلام الأنظمة العربية ومعظم الدول الإسلامية، تجاه القضية الكوردستانية والتي تنسى كل القيم الإنسانية والحضارية والديمقراطية وتتحالف مع تركيا وإيران ونظام بشار الأسد وأدواتهم ضد كل ما يمس الشعب الكوردي، إما بالنفي المطلق لحقوقهم، أو بالصمت أمام جرائمهم، وخير دليل صمتهم مع صمت الدول الكبرى إزاء ما تفعله تركيا وإيران حاليا بجزئي كوردستان الغربي والجنوبي، وما فعلته العراق وتركيا وإيران ونظام الأسد والبعث، بكلية الشعب الكوردي طوال العقود الماضية، وما يجري اليوم بين الفلسطينيين ويهود إسرائيل، بل وما جرى طوال العقود الماضية.
يكاد يكون من شبه المستحيل حل القضية اليهودية-الفلسطينية، وقضية كوردستان والدول الأربعة المحتلة لجغرافيتها، حتى مع القوة والسيادة، والتي تأتي من الدول الكبرى، ومع ذلك ولو فرض الحل والاستقرار بالقوة، سيظل هشا، راضخا للظروف ومراحل الرهبة، لتظهر الخلافات والصراع، كلما سنحت لاحد الأطراف الفرصة المناسبة، إلا إذا تم تنقية الثقافات الدينية والقومية الموبوءة، المترسخة في الأذهان، والتي سيكون للإعلام دور لا يستهان بتشذيبه وتنقيته، ولكن بما أن الإعلام هو لسان حال الأنظمة والمنظمات الدينية التي خرجت التكفيريين؛ قطاع رؤوس الأطفال والنساء، وبالتالي لا بد من القضاء على منهجيتهم أولا، بالتنوير، كما حدثت في أوروبا، والتي ورغم التطور الحضاري لا تزال تعاني من بعض ترسباتها، وكل هذه من واجبات الحركات الثقافية في المنطقة، ونقصد بها الحركات التنويرية، والتي قد تكون نبي الرحمة والسلام لشعوب الشرق الأوسط.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
11/10/2023م