ألقت أجهزة الأمن الألمانية القبض على مواطن عراقي بدعوى انتمائه إلى تنظيم داعش الإرهابي، والتورط في جرائمه منذ عام 2014.
ومنذ عام 2002، تبنّت برلين ما عُرف بـ”مدونة الجرائم ضد القانون الدولي” التي جرى تعديلها في ديسمبر 2016، ومنحت للقضاء الألماني في ملاحقة مرتكبي “الجرائم الأساسية” التي تضمّنت القتل العمد والتهجير القسري والإبادة الجماعية وغيرها من الفظائع التي اعتبرها المشرّع الألماني “جريمة عالمية”.
ويسمح مبدأ “الولاية القضائية العالمية” لألمانيا بملاحقة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية وبجرائم الحرب والقبض عليهم حتى لو لم يرتكبوا تلك الانتهاكات على أراضٍ ألمانية أو بحقِّ مواطنين ألمان، وهو ما جرى تطبيقه على المتّهم العراقي.
أحدث تطبيقات هذا المبدأ في ألمانيا كان عبر محكمة كوبلينز، التي قضت بمعاقبة الضابط السوري إياد الغريب بالسجن 44 سنة بسبب قتله عشرات المتظاهرين قرب العاصمة السورية دمشق، وهو ما تكرّر لاحقاً مع الضابط أنور رسلان.
عالمية الحق في العقاب
وفقاً لدراسة “الولاية الجنائية العالمية” لأستاذ القانون الجنائي أحمد لطفي، فإن امتداد ولاية القضاء الوطني خارج حدود الدولة وملاحقة جرائم جنائية تقع في دولة أخرى خضع لمبدأ “الحماية الذاتية للدولة”، الذي يختصُّ بجرائم بعينها تكون الدولة فيها مجنياً عليها، مثل تزييف العملة وتقليد الختم الحكومي وأيضاً التخطيط لتنفيذ هجمات تمسُّ بأمن الدولة.
أيضاً أقرَّ القانون الجنائي الدولي للحكومات أن تتجاوز هذه التصنيفات، بعدما منحها صلاحيات أكثر لقمع ما عُرف بـ”الجرائم الدولية” التي تتضمّن ارتكاب أحد مواطنيها لفظائع بحق الإنسانية، وحرصاً على عدم إفلات مرتكبيها من العقاب، أصبح من حق محاكم الدول ملاحقتهم جنائياً حتى لو لم يرتكبوا أي جرائم داخل حدودها الإقليمية.
وفي ظِل ظهور المصالح الدولية المشتركة التي تربط بين عددٍ كبيرٍ من الحكومات ما يجعل أي أزمة كبرى تمرُّ بها إحدى الدول عنصراً مؤثراً على باقي الدول المجاورة لها، تطور مفهوم “العقاب الجنائي الدولي” ليتجاوز حدود الدولة أو حتى انتماء أيٍّ من الجناة أو المجني عليهم إلى الجريمة، وإنما باتت تستهدف تحقيق قيم أساسية وهي حفظ السلم والأمن العالمي، الذي يُعتبر مصلحة جوهرية يجب أن تحرص عليها جميع الدول حول العالم.
يقول لطفي: “هكذا برزت إلى السطح فكرة منح المحاكم الجنائية داخل الدول صلاحية تتبُّع وملاحقة مرتكبي بعض الجرائم ذات الطابع الدولي شديد الجسامة، التي تعتبر عدواناً على المصالح المشتركة للجماعة الدولية”.
ومثّل هذا المبدأ خروجاً عن المعايير التقليدية والقديمة لاختصاص القضاء الجنائي الوطني من أجل التعاون القضائي في قمع جرائم شديدة الخطورة يمثّل التراخي عن معاقبة مرتكبيها ضرراً كبيراً على البشر جميعاً، وفق لطفي.
وأطلق الفقيه القانوني الفرنسي هنري فابريس، رئيس محكمة نورمبرج التي عُقدت لمحاكمة القادة النازيين بعد الحرب العالمية الثانية، على هذا النهج القانوني “عالمية الحق في العقاب”.
في 2005 وضع معهد القانون الدولي تعريفاً محدداً للولاية الجنائية العالمية، أكّد فيها اختصاصها في مباشرة هذه الجرائم أو ما يشابهها، وهي: “إبادة الجنس البشري، والجرائم ضد الإنسانية، وانتهاك اتفاقية جنيف بشأن حماية ضحايا الحرب، والانتهاكات الجسيمة التي تقع خلال النزاعات المسلحة”.
جذور “عالمية العقاب”
وجوب وضع آلية دولية لمعاقبة عتاة المجرمين ليس وليد السنوات الأخيرة، حيث ظهرت أمثلة عديدة في العصور القديمة، مثلما جرى خلال عهد الإمبراطور الروماني جوستنيان، الذي حدّد أحد قوانينه عدة إجراءات يتخذها حكام الولايات التابعة لإمبراطوريته ضد مرتكبي بعض الجرائم، مثل التشرد وسرقة منقولات في مدينة ونقلها لمدينة أخرى وأيضاً قطع الطرق وترويع المسافرين.
جميع هذه الجرائم مُنحت الولايات الرومانية الحقّ في ملاحقة مرتكبيها ولو لم يقوموا بها ضمن حدود مُدنهم.
وكذلك في العصور الوسطى -التي عاشتها أوروبا عقب انهيار دولة الرومان- امتلكت محاكم المُدن الإيطالية صلاحية قضائية واسعة ضد المجرمين الخطرين الذين نفّذوا جرائم في مُدن أخرى ثم هربوا منها.
ويُعدُّ الفقيه القانوني الهولندي، هوجو جروتيوس، مِن أوائل الذين طرحوا مبدأ “عالمية العقاب”، قائلاً إن “الملوك لهم الحق في العقاب، ليس فقط عمّا يقع عدواناً عليهم أو على رعاياهم وإنما عما يتضمن مخالفة جسيمة للقانون الطبيعي أو قانون الشعوب، أيّاً كان من وقع عليه هذا الانتهاك، ولا يقتصر الأمر على الانتهاكات التي تقع على رعاياهم”.
هذه الدعوى أيّدها فقيه قانون آخر هو إمير دي فاتيل، الذي أكد ضرورة ملاحقة “الأشرار الذين ينتهكون الأمن العام ويكشفون عن عداءٍ للبشرية”، واعتبر أن القرصنة واحدة من تلك الجرائم التي يُمكن تصنيفها أنها ضد الإنسانية جميعاً.
بعدها ظهر “الاختصاص العالمي” واضحاً في بعض التشريعات المحلية لعددٍ من الدول مثل الأرجنتين عام 1884 ثم إيطاليا 1889 ومن بعدها بلجيكا 1937 وفرنسا 1994.
هل يتناقض مع صلاحيات “المحكمة الجنائية الدولية”؟
لا يُعدُّ “الاختصاص العالمي” لمحاكم الدول متناقضاً مع نشاط المحكمة الجنائية الدولية بل يُنظر لهما على أنهما مكمّلين لبعضهما البعض.
وبينما يُمكن للمحكمة الدولية ممارسة اختصاصاتها في محاكمة مرتكبي الجرائم الإنسانية الكبرى حال تقاعس أو عجز الدولة عن ملاحقة المجرمين داخل حدودها أو خارجها، فإن المحكمة الجنائية مكبّلة بعدم قُدرتها على العمل إلا في الدول التي وقّعت على لائحتها الرئيسة المعروفة بِاسم “نظام روما الأساسي”.
في كلا الأمرين تستندُ الجهات القضائية إلى مرجعيتين مختلفتين؛ فالمحكمة الجنائية الدولية تعتمد على القوانين والاتفاقات الدولية الموقّعة بين الحكومات وبعضها، أما المحاكم المحلية التي تنظر قضايا دولية فإنها تنطلق بموجب قوانينها الوطنية التي كفلت لها نصوصها حق ملاحقة مرتكبي الفظاعات خارج حدود البلاد.
هذا التباين يلعب دوراً مؤثراً في طبيعة الأحكام التي سيتخذها قضاة كل محكمة بموجب استنادهم إلى قواعد قانونية مختلفة.
وعدم امتلاك المحكمة الجنائية الدولية صلاحيات تمارسها إلا في الدول الخاضعة لبروتوكول تأسيسها، جعلها خاضعة بشكلٍ ما لمبدأ الاختصاص الجنائي الإقليمي بعكس مبدأ الدولية الذي أقرّه مبدأ الاختصاص العالمي، ومنح المحاكم المعتمدة عليه الحق في الاستناد إلى قوانينها الجنائية الوطنية في ملاحقة المجرمين حول العالم.
ودعا عدد من الخبراء القانونيين لأن تتبنّى المحاكم الجنائية الدولية مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي لمنح المحكمة الفاعلية اللازمة وزيادة قُدرتها على منع المجرمين من الإفلات من العقاب معتبرين أنه “لا نجاح لمحكمة جنائية دولية إلا باختصاص عالمي”.
أبرز الملاحقين بالعدالة الدولية
تظهر الكثير من الدول تردداً كبيراً في تطبيق مبدأ “الولاية العالمية” بسبب المشاكل الدبلوماسية التي تخلقها مثل هذه النوعية من القضايا.
في بلجيكا استغل بعض الضحايا بنود القانون لملاحقة خصومهم، وهو ما جرى مع عبد الله ياروديا، وزير خارجية الكونغو، وآرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبقز
هذه القضايا أوقعت الحكومة البلجيكية في حرج، بعدما نظرت محاكمها قضايا تدين مسؤولي دول أخرى لا يزالون في مناصبهم، كما اعتُبر مساساً بمبدأ الحصانة الدولية لقادة الحكومات، لذا أُجريت تعديلات في 2002 عدّلت بعض بنود القانون وأغلقت باب ملاحقة المسؤولين.
رغم هذا التعديل، فوجئت بلجيكيا برفع دعاوى أخرى ضد الرئيس الأميركي جورج بوش الأب وعددٍ من العسكريين الأميركيين بدعوى مسؤوليتهم عن حرب الخليج الأولى، ما كاد أن يسبّب أزمة مع الولايات المتحدة انتهت بإقرار تعديلٍ آخر على القانون، يجعل من حقه فقط رفع الدعاوى على النائب العام البلجيكي.
أيضاً في إسبانيا، نظرت محاكمها قضية ضد الجنرال بينوشيه، رئيس تشيلي السابق، الذي لجأ إلى بريطانيا في توقيت محاكمته. حينها أمر القاضي الإسباني بالقبض على بينوشيه بدعوى أنه ارتكب جرائم تعذيب وإبادة في بلاده، واستجابت السُلطات البريطانية للأمر القضائي ووضعت الجنرال التشيلي تحت الإقامة الجبرية، ثم قررت ترحيله إلى تشيلي حيث عاش هناك لعامين حبيس داره ثم توفي خلال نظر إجراءات محاكمته.
أحمد متاريك