المقبرة، الرمز، والذاكرة
Birgül Açıkyıldız
كلية الآداب والعلوم (قسم الآثار) جامعة حران، شانلي أورفا، تركيا
bacikyildiz@harran.edu.tr
ممارسة مظهر من مظاهر الهوية الخاص بالدفن
الموت بالنسبة للإيزيدية يعني انفصال النفس عن الجسد، ونهاية الحياة إلى الأبد وولادة الروح في جسد آخر. في العقيدة الايزيدية، يتكون الإنسان من روح وجسد. الجسد يموت، لكن للروح جوهر مقدس، يبقى على قيد الحياة ويدخل في جسد آخر في هذا العالم(1) . يعتبر الروح جوهري وأساسي، أما الجسد فهو غير مهم ومجرد ثوب. انهم يؤمنون بتناسخ الأرواح ويستخدمون من باب الاستعارة مصطلح “تغيير الملبس” إلى جانب عملية “تغيير الثوب” (kiras gehorin) الذي سيلبسه الروح في حياته الجديدة، الذي يعتمد على نمط الحياة الذي كان يعيشه سابقاً. وهذا يعني أن الإيزيديين يؤمنون بالتقمص، وهو واحد من المعتقدات الهامة التي تشكل أساس الدين اليزيدي. علاوة على ذلك، فإن الآخرة لا تعني الحياة الأبدية كما في الديانات الأخرى، بل الآخرة هو العنصر التكميلي لمعتقد التناسخ. (Açıkyıldız 2010:102)
هكذا يقول كتاب الجلاء(2) “:(Kitêb-i Cilwê) لا يستطيع أحد البقاء في هذا العالم أطول من الوقت الذي حددته، إذا أردت، يمكنني إعادته إلى هذا العالم للمرة الثانية والثالثة بالتناسخ، بوضع روحه في جسد آخر إنه قانون عالمي ” بعد الموت، تقرر المحكمة الكبرى في أي جسد سيولد الروح من جديد. يجري ذلك وفقًا للأفعال التي قام بها الشخص في العالم الذي عاش فيه. يدخل الروح من جسد إلى آخر حسب الأعمال الصالحة والسيئة. إذا كان الروح قد فعل الخير، فهو يتجسد في جسد صالح، وإذا كان أفعاله سيئاً، فإنه يدخل في جسم سيء.
في مجتمعات، مثل المجتمع الإيزيديين، حيث تم إبعادهم عن أراضيهم التاريخية وتعرضوا للعنف والإبادة والهجرة على مرّ تاريخهم، يحتل المَيْت ومقابرهم مكانة حاسمة في المجتمع، وهم منذ ذلك الحين يشهدون على وجودهم من خلال أراضي أجدادهم. في الوقت نفسه، تعتبر القبور بمثابة التذكير بـ “الموت السيئ”(3) الذي عانى منه المجتمع اليزيدي، وبالتالي يُنسب إليه دلالات سياسية. علاوة على ذلك، فإن رغبة الايزيديين في دفن موتاهم في أراضي أجدادهم ليست مجرد اختيار فردي، وإنما فعل اجتماعي متعلق بالمجتمع اليزيدي بأكمله باعتبار ان الموت هو سمة تغطي الأبعاد الاجتماعية والثقافية والعاطفية للأفراد الأحياء(4)
كما يناقش (Baudrillard 1993: 127)، فإن الموت يتعلق بكل من المتوفى والمجتمع، حيث يندمج الموت والحياة في هذه النقطة. بالمثل، يسلط: 28-52) (Goody 1962 و (Laneri 2007: 5) الضوء على أن بنية الطقوس الجنائزية نفسها تقام على أساس خلق لغة رمزية مبنية على أشكال مختلفة من الاتصال من قبل المجموعة التي ينتمي إليها الفرد المتوفى. لذلك، فإن الأشياء المكونة للتجمع الجنائزي؛ الجثة، الحكايات الأسطورية، المعتقدات الدينية، الكلمات، مراثي الأحياء، تمثل الحاجة إلى نقل التجربة السلبية، مثل الموت، إلى حالة إيجابية. علاوة على ذلك، فإن الاحتفالات الجنائزية تربط مشاعر الأحياء من خلال تعاقب الأجيال مع السلف، وتعتبر المقابر والأضرحة من أغراض الطقوس المقدسة. لذلك، فإن الاحتفالات المجتمعية التي تقام في المقابر وعند الأضرحة تزيد من قوة أقارب المتوفى وتساعدهم في التعامل مع الموت، وتكريم وفاة أحبائهم بترتيبات نهائية، كما أنها تمكن المجتمع من رؤية الموت كجزء طبيعي من الحياة في دورة التجديد، كوسيط بين الأحياء والأجداد، وممر من الحياة إلى الممات. لذلك، عندما تتوقف المقابر عن دفن الموتى الجديد، فإنهم يفقدون صفتهم التمثيلية الجماعية القدسية التي تربط الموتى بالأحياء ويصبحون مجرد أشياء من الطقوس التاريخية (Warner 2011: 164).
تربط الاحتفالات الجنائزية وممارسات الدفن في المجتمع الأيزيدي الماضي بالمستقبل، وتحيي التفاعل بين الذاكرة والمكان، وتعزز الحدود الاجتماعية للمجتمع الايزيدي المشتت. علاوة على ذلك، فإن المقابر في القرى الأيزيدية، مثل مقبرة حسين بك، التي تستقبل الموتى باستمرار يشهد على وجودهم في المنفى. حتى لو مات الايزيدي في المنفى، فإنهم يجلبون المتوفين إلى الأرض التي ولد فيها آباؤهم، حتى إن لم يكن ملكهم، فإنهم يدفنوهم في مقابر الأجداد. يشير هذا الفعل إلى الطابع المؤقت للمنفي/المهجر والرغبة في العودة إلى أراضيهم. كما ان هذه الأضرحة وشواهد القبور تعتبر بمثابة سندات ملكية للأراضي التي عاشوا فيها سابقاً وكطليعة الأراضي التي سيعودون إليها يومًا ما. وهذه أيضًا طريقة لتعليم تقاليدهم للجيل الجديد المولود في أوروبا وربطهم بماضيهم وبأجدادهم.
الايزيدية هي دين الاستقامة والمشاركة في الطقوس والعقائد الدينية، والالتزام بسلوكيات معينة التي هي أكثر أهمية من دور النص الديني والعقيدة (أليسون 2004). بالتالي، فإن ممارسة مختلف الأعياد الدينية والحج مهمة للهوية الايزيدية. لا يمكن أن تعيش الديانة الايزيدية بدون هذه الطقوس، ولا يمكن أن توجد الطقوس بدون المواقع التي يمارسون فيها.
اليوم، لا توجد مواقع للتراث الثقافي والديني الأيزيدي في شرق وجنوب شرق تركيا. جميع الأماكن المقدسة الايزيدية تم تدميرها بالكامل. بالتالي، لا توجد مواقع تراثية على أراضيهم حتى يتمكن الأيزيديون ان يتعبدوا أو يؤدوا الطقوس والممارسات الدينية، وإقامة الاحتفالات، مما يعني ذلك فقدانهم لثقافتهم وهويتهم وحتى انقراض المجتمع الايزيدي في هذه الأراضي. هكذا، فإن مواقع الذاكرة مثل مقبرة حسين بك، تحل محل أماكن العبادة في جنوب شرق تركيا. المقابر هي الرموز البارزة للمجموعات المنقسمة من المجتمع الايزيدي التي تعمل على إعادة بناء التراث والهوية، وإعادة بناء موطن اجتماعي للموتى.
إلى جانب ذلك، يمكن أيضًا استخدام الموت ومواقع الذاكرة كوسيلة لإنتاج السلطة وخلق الهيمنة السياسية والمقاومة والوجود. لأن الأضرحة وشواهد القبور تشهد على وجودها على أراضي المجتمعات التي تعرضت لجميع أنواع العنف والذين أُجبروا على الهجرة، وان أولئك الذين في السلطة يحاولون تثبيت الغياب الجسدي عن طريق إزالة قبورهم. بالتالي، يستخدم الناس رمز المقبرة لتجنب الانقراض. في الحقيقة أن الأيزيديين يدفنون موتاهم في وطنهم على أمل إمكانية العودة يوما ما، من خلال بناء المقابر، وممارسة الشعائر الدينية هناك، وهي تعد أيضاً أعمال مقاومة وصمود ضد القوات التي اقتلعتهم من أراضيهم وأجبرتهم على أن يصبحوا مهاجرين في دول أجنبية. لذا، فإن إنشاء أماكن الذاكرة تساعد مجتمعهم على الاستمرار، وأن هذه الأماكن تمثل رمزًا للمقاومة في أوطانهم. مقبرة حسين بك، هي مجرد واحدة من هذه الأمثلة العديدة في موطن الايزيديين، وهي تؤدي وظيفتي مكان العبادة والوطن الأم للمجتمع اليزيدي، حيث يعتقد الايزيديون أنهم يتواصلون مع المقدس، ومع أرواح أسلافهم. يقومون بأداء الأدعية هناك، ويزورون أقاربهم وشواهد قبور أسلافهم، ويطلبون تحقيق الأماني، ويؤدون الاحتفالات الدينية، وينشدون الترانيم والمراثي، تقديم الأضاحي خاصة الحيوانات، وتناول وجبات الطعام التذكارية، والتعرف على بعضهم البعض. وهكذا تعتبر المقابر بمثابة ربط الماضي بالمستقبل حيث انتقال التقاليد والثقافة الايزيدية إلى الجيل الجديد، والمقابر/المزارات هي أماكن الذاكرة، التي تلعب دورًا مهمًا في إنتاج القوة، والسيطرة، والمقاومة، والوجود.
ان شواهد القبور المتشابهة، من حيث الشكل والحجم مع العلامات الدينية الواضحة، هي بأجملها تعكس تصور السمات العرقية والدينية التي تختلف عن شواهد القبور في مقابر المسلمين والمسيحيين في القرى المجاورة.
الايزيديون لا يبنون هويتهم فقط من خلال الممارسات الطقسية القديمة، وإنما قاموا بدمج أشياء جديدة مع القديم. واستخدموا العديد من العلامات والرموز في المقابر لتُعبّر عن الهوية الفردية والجماعية.
تنحصر هذه الرموز بين التاريخية والحديثة. وتعتبر الشمس والقمر هما من أكثر الرموز الشائعة والمستخدمة في المقابر. الايزيديون الذين يصلون نحو الشمس في الصباح والمساء، يعتقدون أن دعاءهم ستصل إلى الله من خلال الشمس والقمر اللذان يمثلان الحياة المتكررة على فترات معينة (Can Emmez2015:173-174.) ان تصوير/تمثال الطير طاووس، الذي يعتبر أهم رمز من رموز الهوية اليزيدية، على الأضرحة وشواهد القبور كنحت ثلاثي الأبعاد هو حديث الاستخدام جدًا. كما ان بناء المقابر الضخمة للناس العاديين، يشير الى الوضع الاجتماعي الجديد للإيزيديين في أوروبا. وان استخدام اللغة الكردية لـلقصائد والأناشيد والشعار الزرادشتي( الفارافاهار)، أشهر رموز الزرادشتية، تشير إلى الهوية الفردية والجماعية الجديدة.
تتبع الحلقة السادسة والأخيرة (6-6)
الهوامش والمصادر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذا ما يطلق عليه (عقيدة التناسخ)، وهي عقيدة قديمة تؤمن بها معظم أديان الشعوب الهندوآرية والهندوأوروبية، وبالأخص الديانة الهندوسية، الايزيدية، الزرادشتية، اليارسانية/الكاكائية، إضافة إلى أديان وعقائد أخرى قديمة. (خليل)
(2) الباحثة وصفتها بـ “كتاب الوحي” المقصود منه كتاب الجلوة لأهل الخلوة من تأليف الشيخ حسن بن الشيخ آدي الثاني. (خليل)
(3) تقصد الباحثة بـ “الموت السيء” الإبادات وحملات التنكيل التي تعرض لها الايزيديون. (خليل)
(4) تظهر الدراسات الحديثة أن الأكراد العلويين والمسلمين يدفنون أيضاً موتاهم في قرى أجدادهم في تركيا للأسباب ذاتها (Balkan/Masarwa 2022: 227-228)