باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»
لم تكن معركة «سيف القدس» عام 2021 المعركة الوحيدة التي تجسدت فيها عملياً وعلى أرض الواقع مفهوم «وحدة الساحات»، عندما شارك الكل الفلسطيني كل في موقعه في انتفاضة شاملة دفاعاً عن القدس والشيخ جراح والمسجد الأقصى وكافة المقدسات الإسلامية والمسيحية في المدينة، انطلقت شرارة انتفاضة يوم الأرض عام 1976 من مناطق الـ48 وامتدت شعلتها إلى الضفة الفلسطينية وقطاع غزة، وواصلت توهجها في الشتات الفلسطيني، في أحداث دلت ولأول مرة على وحدة الشعب والقضية، وفي الانتفاضة الثانية عام 2000 شهد اندلاعها ارتقاء 4464 شهيداً، منهم 13 من أبناء شعبنا في الـ48، والباقي من الضفة والقطاع، وفي معركة «ثأر الأحرار» 9/5/2023 حاولت إسرائيل فصل حركة المقاومة في غزة عن حالة الاشتباك في الضفة والقدس، وكسر مفهوم «وحدة الساحات»»، الذي تطور مع تنامي قوة المقاومة الفلسطينية في كل أرجاء الضفة الغربية، وارتبطت أحداث الضفة الغربية بردود فعل غاضبة في القطاع، لا تستطيع أن تقف على الحياد من تلك الأحداث وخاصة في مدينة القدس والاعتداء على المقدسات فيها.
هذا التضافر في الجهود النضالية وانخراط تجمعات شعبنا في المعركة كل من مكانه، وكل بأساليبه الخاصة، بالإمكانات المتاحة، ولّد شعوراً بالانتصار على الاحتلال، على قاعدة أن الجميع كانت له إسهاماته في المعركة، حيث نجح الكل الفلسطيني في اختراق الحواجز والحدود وأعاد تقديم نفسه شعباً واحداً موحداً، يمتلك طاقات نضالية إذا ما توفرت لها الاستراتيجية الكفاحية الموحدة أصبحت قوة شديدة التأثير.
لقد أطل علينا زمن جديد ينبئ أن الشعب الفلسطيني جسم واحد لا يتجزأ، يخوض معركة واحدة ملتحماً على ساحات متعددة، وبات الواقع يؤكد ضرورة صون ما تحقق من تطور في الحركة الشعبية، ما يتطلب جهوداً قيادية لبناء أطر وآليات وتوجهات عمل تصون هذه الوحدة، وهذا واجب ملقى على عاتق القوى كافة.
من هنا أطلقت سرايا القدس اسم «وحدة الساحات» على المعركة التي جرت في 5/8/2023، تأكيداً منها على أهمية وحدة الساحات، كاستراتيجية وطنية فلسطينية عسكرية وسياسية في مواجهة التقسيم والاستفراد واللعب على المتناقضات الجغرافية من قبل دولة الاحتلال.
وقد سبق للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين أن طرحت مفهوم «وحدة الساحات»، في سياق وحدة الشعب الفلسطيني ووحدة أهدافه ومصيره التي صاغها البرنامج المرحلي مستمداً شعارات الحركة الشعبية الفلسطينية في مختلف مناطق تواجد الشعب الفلسطيني على اختلاف الخصوصيات التي يفرضها الواقع الجغرافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، رُفع في المناطق المحتلة عام 1967 شعار الاستقلال وطرد الاحتلال، ومنه استُنبط الهدف الأول: دولة مستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس على حدود الرابع من حزيران، واستُنبط الهدف الثاني: حق العودة إلى الديار والممتلكات بالنسبة للاجئين الفلسطينيين الذين هجّروا منها منذ العام 1948، أما في مناطق الـ48 فطرحت الجماهير العربية هناك: المساواة في الحقوق المدنية وما يترتب على ذلك من رفع للإجحاف والتمييز، والمساواة القومية على قاعدة إبراز الهوية الوطنية وصونها وضمان حقوقها.
لقد شكّلت «معركة القدس» حداً فاصلاً بين مساقين، فثمة ما قبلها، وثمة ما بعدها، -و« معركة سيف القدس» تقع في إطارها النضالي المتواصل فصولاً- فما قبلها يؤكد أن هذه المعركة لم تكن مجرد حدث عابر فجرته واقعة طارئة، بل كان في واقع الحال اختماراً لأحداث سبقته أسهمت من مواقع مختلفة في توفير الشروط اللازمة لهبة جماهيرية، أشعلت نيران الغضب الثوري، ليس في القدس وحدها، رداً على تغولات مشاريع التهويد وطمس المعالم الوطنية لعاصمة فلسطين، وليس في الضفة الغربية وحدها، رداً على تصاعد الأعمال الإجرامية لقوات الاحتلال، وتصاعد أعمال العربدة والسطو على أيدي عصابات المستوطنين، وليس في الـ«48» وحدها، ورداً على سياسات التهميش والإقصاء ومصادرة الأراضي والتمييز العنصري، وليس في الشتات وحده، رداً على سياسات رفض الاعتراف بالحقوق المشروعة للاجئين، إن في العودة أو في الحق في حياة كريمة..
نتيجة لهذا كله جاءت «معركة القدس» بفصولها المتلاحقة، من مقاومة شعبية إلى مقاومة مسلحة، وتقدمت المعركة بالفعل الوطني الفلسطيني، خطوات كبرى إلى الأمام رصدتها تحليلات المراقبين وملاحظاتهم ودراساتهم المختلفة، وارتقت في أدواتها النضالية درجات، مستفيدة من الخبرات العميقة التي راكمتها الحركة الكفاحية الفلسطينية على طول مسيرتها النضالية.
هذا ما قبلها أما ما بعدها، فقد أحدثت «معركة القدس» موازين جديدة في إدارة العلاقات الوطنية، خاصة بين طرفي السلطة، ما عزز الفرقة والتباعد بينهما أي بين حركة فتح وحركة حماس، بدلاً من إحداث التقارب والتفاهم والتوافق على تثمير انتصارات المعركة واستيعاب دروسها الغنية، والتي أدت إلى طرح مشاريع السلام الاقتصادي والمشاريع الرامية إلى إدامة الاحتلال، بدلاً من التقدم نحو الحل السياسي المستجيب لتطلعات الشعب الفلسطيني في العودة والحرية والاستقلال الوطني الناجز.
أما المشهد الواجب تسليط الضوء عليه واعتباره هو الجوهر فيما يمكن اعتباره «ما بعد معركة القدس» فهو مشهد الحركة الجماهيرية حاضنة المقاومة بأساليبها وأشكالها المختلفة، ففي الوقت الذي توقف فيه هدير المدافع، واصلت الحركة الجماهيرية معركتها ضد الاحتلال، لم يقيدها مشاريع هنا أو مشاريع هناك، ولا تقوم حساباتها على أساس معادلات إقليمية أو دولية، بل هي منطلقة من واقع يقول إن المعركة ضد الاحتلال ليست مجرد فصل دون غيره بل هي فصول متتالية، فصل وراء آخر، في تراكم كمي من أجل الفعل النوعي.
وبالتالي ما تشهده الضفة الفلسطينية وفي القلب منها القدس من مجابهات يومية ضد الاحتلال، وما تشهده خطوط التماس مع مناطق الاحتلال في قطاع غزة كلها مؤشرات على أننا أمام معركة مديدة بأشكال مختلفة، تضعنا جميعاً أمام مشهد فلسطيني يؤكد أن هذا الغليان في المناطق المحتلة وكذلك في مناطق الـ48، وأن هذا التحفز في الشتات، ليس إلا مقدمة لحدث قادم، ليس بالضرورة أن يكرر سيناريو «معركة القدس» لكنه في كل الأحوال وبكل تأكيد فصل جديد من فصول الحرب الوطنية الفلسطينية من أجل الاستقلال.
وحدة الساحات هو تجسيد لوحدة الشعب الفلسطيني في ظروف خاصة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً في تشتيت شعب وإحلال مستوطنين على أرضه المغتصبة، وقد امتد وجود الشعب الفلسطيني الحضاري فوقها لآلاف السنين، بينما محور المقاومة يشير إلى تحالف سياسي عسكري بين شعوب لها مصالح وأهداف ووجهات نظر حول دورها في المنطقة والإقليم، يرتكز تحالفها على الأهداف الإقليمية المشتركة والتعاون المشترك، دون أن يكون هناك بنية هيكلية مؤسساتية تنظم العلاقات بين أطراف هذا المحور.
مصطلح المحور ليس جديداً على القاموس السياسي، فقبيل الحرب العالمية الثانية وفي منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، نشأ مصطلح «المحور»، حين أعلن موسوليني في 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 1936 أن جميع الدول الأوروبية الأخرى ستدور -منذ التقارب بين ألمانيا وإيطاليا- على محور « روما برلين»، والذي تطور بعد ذلك إلى تحالف عسكري، وفي العام 1940 أدى الاتفاق الثلاثي بين ألمانيا، وإيطاليا، واليابان إلى تكامل الأهداف العسكرية الاستعمارية.
وقبل حرب الخليج الثانية، واجتياح الكويت، في 17 تموز/يوليو سنة 1990، أطلقت الولايات المتحدة على إيران والعراق وكوريا الشمالية مصطلح «محور الشر»، وهو محور متخيل في الذهن السياسي الأمريكي، لا يجمع بين هذه الدول أي برنامج سياسي حقيقي مشترك ولا تعاون عسكري استراتيجي، على العكس تماماً كان ثمة خلاف عميق بين ايران والعراق في ذلك الوقت، بقيت إيران تستخدم مصطلح «محور المقاومة»، للإشارة للدول التي تلتقي سياساتها بمقاومة الهيمنة الأمريكية، واستخدمت إيران بعد سقوط بغداد 2003 هذا المصطلح للإشارة إلى مقاومة الاحتلال الأميركي في العراق من أجل دعوة العراقيين للاتحاد وتوطيد العلاقات في ظل محور المقاومة والنضال ضد المحتلين، وساهم التحالف الإيراني السوري منذ الثمانينات على تبلور هذا المحور، بعد أن أطاحت الثورة الإسلامية الإيرانية بنظام الشاه حليف الولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة، ورفعت شعار معاداة الكيان الصهيوني، ورفض الخضوع للهيمنة الأميركية، وتحرير فلسطين، ودعم خيار الشعب الفلسطيني في المقاومة، وهو ما ساهم في تلاقي الأهداف بين سوريا والجمهورية الإسلامية الإيرانية. باعتبار أولويّاتهما دعم صمود أبناء الشعب الفلسطيني ضد إسرائيل.
وبعد الاجتياح الاسرائيلي لبيروت في حزيران/يونيو 1982، وتأسيس حزب الله انضم إلى هذا التحالف وحصل على الدعم من سوريا وايران في حرب تحرير جنوب لبنان، وبعد العام 2003 تم دعم المقاومة العراقية لطرد المحتل الأميركي، وانقسمت دول المنطقة ما بين دول الاعتدال، ومحور المقاومة، يصور البعض من منطلق التشويه أن هذا التصنيف مبني على الرابط الطائفي، وليس على القضية الفلسطينية التي تعتبر القضيّة الأسمى لهذا المحور، وتطوّر هذا المحور من تعاون سياسي وعسكري واقتصادي إلى وحدة جبهات التي تعني وحدة الهدف والمصير، وذلك بعد عملية طوفان الأقصى إذ نشهد اليوم تنسيقاً عسكرياً بين مختلف أطراف المحور، بما فيها القيام بعمليات عسكرية دعماً وإسناداً للمقاومة الفلسطينية التي تواجه عدواناً واسعاً في الوقت الحالي بعد عملية طوفان الأقصى يستهدف تصفية القضية الوطنية عبر القضاء على المقاومة وإعادة احتلال غزة.
من هنا فإن مصطلح «وحدة الساحات» بالنسبة للحالة الفلسطينية، من حيث وحدة الشعب المشتت ووحدة أهدافه ومصيره الواحد، هو الأنسب لتوصيف الوضع الفلسطيني، أما الأنسب لتوصيف العمل السياسي العسكري المشترك لمحور المقاومة هو «وحدة الجبهات».
وإذا كانت وحدة ساحات العمل النضالي الفلسطيني حقيقة موضوعية كحقيقة وحدة الشعب الفلسطيني، فإن وحدة جبهات محور المقاومة ليست وهماً كما يصفها البعض، بل لقد تعمدت بالدم وامتزج الدم الفلسطيني والسوري واللبناني، ودخلت على خط المقاومة والعمل العسكري كل من فصائل المقاومة العراقية والقوات اليمنية.