بعد هجوم حماس على إسرائيل، الذي إستهدف مدنيين. ورد الفعل الإسرائيلي بالهجوم على غزة، وما أحدثه من خسائر
بأرواح المدنيين. إنطلقت عدة حَملات على مواقع التواصل الأجتماعي، تدعو لمُقاطعة شركات عالمية يقال بأنها داعمة
لإسرائيل، بعناوين تروج إلى أن دعَمها، بمعنى شراء منتجاتها، هو دعم لقتل الفلسطينيين، مثل "حتى لا نكون في الجرم
شركاء، لنقاطع منتجات الأعداء"، مُرفقة بصور مؤلمة لضحايا القصف الإسرائيلي، تمت المُتاجرة بها من قبل تُجّار هذه
الحملات، بدليل أنه بالتزامن معها تداول مطلقوها صوراً لمنتجات محلية الصنع كبدائل عن المنتجات التابعة للشَركات
الأجنبية التي طالبوا بمقاطعتها! فالحملة أطلقها سماسرة يتاجرون بدماء ومعاناة أهالي غزة، كما تاجروا سابقاً بالدين،
لتحقيق مكاسب سياسية ومادية، مُستغلين شعوبهم التي جَمّدت عقولها، وباتت تتحرك خلف مشاعرها المنفلتة وغرائزها
البدائية، والتي باتت تمثل أرض خصِبة للترويج لمشاريعهم الخبيثة.
هذه الحَمَلات هي أولاً فرصة إستغلتها شركات محلية للترويج لمنتجاتها التي لا يمكن لها أن تنافس المنتجات الغربية في
جودتها، ولتحقيق ربح مادي برؤوس السُذّج الذي إستغفلتهم هذه الحَمَلات. وثانياً للإستهلاك المحلي في دول مُطلقي هذه
الحملات، التي لن يكتب لها النجاح في مَسعاها الأبعَد لإفلاس هذه الشركات، بل العكس، الإفلاس سَيَطال عشرات ألاف
العمال والموظفين الذين يعملون بفروعها في دول المقاطعة. بالتالي لن يكون لها تأثير على مسار الحرب التي ستُقررها
وتحسِمها الأسلحة والمفاوضات، بعيداً عن هَيجان القطيع الذي غالباً ما يَبحث عن إثارة عبر التطرف لفكرة معينة. وهذه
المَرّة وجدها في المقاطعة، التي باتت مزاداً يتسابق العوام للفوز به عبر المزايدة على الآخر، بدليل مواقع التواصل التي
تعُج بأشخاص يتسابقون لعَرض الصور التي تُظهِر مُقاطعتهم للمَنتوج الأجنبي س، أو شرائهم للمنتوج الوطني ص!
المخيف في الموضوع، هو أن خُبث الكبار بدأ يُفسِد براءة الصغار بهذه الهراء، فقد نشرت صحيفة تقريراً، جاء فيه أنه
بأحد متاجر البحرين، كانت طفلة عمرها 14عاماً تحمل تابلت أثناء تسوّقها مع ذَويها، لتُراجع قائمة منتجات غربية لتمتنع
عن شرائها. فالفتاة وشقيقها إعتادا على تناول وجبات سريعة من ماكدونالدز، لكنهما إنضَمّا الآن للكثيرين في المجتمعات
الإسلامية ضمن حملة لمقاطعة شركات عالمية يعتبرون أنها تدعم إسرائيل. وتقول الفتاة: "بدأنا بمقاطعة هذه الشركات،
تضامناً مع فلسطين"، مشيرةً إلى أنها تبحث عن منتجات محلية بدلاً من المستوردة المُرتبطة بحلفاء إسرائيل! طبعاً هذا
الهراء لا يمكن له الصمود بوجه حقيقة أن هذه الشعوب كسولة غير منتجة، وتستورد حتى حبيبات البلاستيك التي يُصنَع
منها النِعال وإبريق الحمام في مصانع مستوردة بِدَورها من الغرب! ومُراهنتهم على خسارتها أو تراجع مبيعاتها كنتيجة
للمقاطعة، بإعتبارهم مجتمعات استهلاكية تمثل سوق حيَوية لبضاعتها، سوف تفشل، لأن نسبة المقاطعين في كل شعب
ضئيلة مقارنة بعدد نفوسه، كما أن لهذه الشركات مستهلكين في كل العالم لا علاقة لهم بهُراء المقاطعة. أما مُراهنتهم على
أن شرِكاتهم المحلية ومُنتجاتهم الوطنية ستغطي الحاجة للمُنتجات الغربية، فهي أيضاً لن تصمُد، كون الشرِكات المحلية
صغيرة ومحدودة الطاقة الإنتاجية، ولن تتمكن من تغطية الطلب المُتزايد على هذه المنتجات، أو منافسة جودتها.
من يقاطع يجب أن يكون قادراً على المنافسة والإستمرار دون الحاجة الى المنافس. وهذه الشعوب ليس لديها القدرة على
المنافسة، خصوصاً مع الغرب، الذي باتت تعتبره عدواً لدوداً لأسباب كثيرة، أهمها شعور بالنقص تطَوّر الى حقد ومَيل
للعنف. حتى إذا نظرنا للأمر من منظور صراع الثقافات، الذي تُصِر هذه المجتمعات على خوضه مع الغرب، رغم أنها
تعيش عالة على ثقافته، سواء كشعوب في بلدانها، أو كجاليات في بلدانه، سنجده في صالح الغرب. فأدوات الصراع هي
التفوق التكنلوجي والثقافي وحُب الحياة والمعرفة والجمال من جهة الغرب. ومحاولة التفوق عدَدياً والرغبة في الموت
والتلذذ بالتخلف والتباهي بالجهل من جهة هذه الشعوب. والغرب يغزو العالم بالإنترنت ومواقع التواصل التي باتت تدخل
كل بيت وتسمح لأي كان أن يطلع على ما حَوله، ولن يكون بإمكانها إبقاء أجيالها المتعاقبة مقيدة بأغلال عاداتها وتقاليدها
ودينها، وبمرور الوقت سيتضاعف عدد أبنائها الذين سيَسعون للتحرر من عبوديتها، والذين وإن سار بعضهم على درب
ذويهم، فإن ما يحدث في العالم الذي بات قرية صغيرة سيفاجأه ويجذبه للغرب. وفي الوقت الذي يسعى فيه الغرب لكسب
العالم بالتكنلوجيا التي تواكب روح العصر، وتسعى لجعل العالم مكان أفضل للعيش، تسعى هذه المجتمعات لكسب العالم
بتشريعات دينها التي تعود لألف وأربعمة سنة مضت، ووصل بها الخرف أحيانا إلى القول أن إتهام الغرب لها بالإرهاب
دفع بشعوبه للبحث حول دينها وقراءة قرآنها ليصبحوا مسلمين، "من باب رب ضارة نافعة"! وهو كلام فارغ يقنعون به
أتباعهم ليزدادوا تطرفاً على تطرفهم. بدليل أن نِسبة من يدخلون الإسلام في الغرب ضئيلة مقارنة بمن يدخلون البوذية،
لأن ديناً لا يفرض على المرؤ ملبَسه ومأكله ومشرَبه وكيفية دخوله للحمام، صَلاته يوغا وتشريعاته حِكَم فلسفية، سيجذب
الغربيين الذي تساموا بقِيَمهم الإنسانية، أكثر بكثير من دين اغلب شيوخه وأتباعه يتباهون بأن دينهم يوصَم بالإرهاب!
كل ذلك تضاف إليه حقيقة أخرى، وهي أن هذه المجتمعات باتت تعيش عُزلة علمية وثقافية وحضارية عن العالم، بسبب
تطرفها الديني، الذي جعلها تنظر إلى بقية العالم ككافر أو مُشرك، رغم أن دينها أوصاها أن تنظر إليه كأخ في الدين أو
نظير في الخلق. حتى جالياتها التي في الغرب تتعامل مع مَن إستضافوها ببلدانهم ومنحوها الأمان بهذه العقلية! بل باتوا
يتعاملون بها مع شركائهم في الوطن، كالأقليات الدينية التي باتت تهاجر إلى الخارج، بسبب ما تتعرض له من تهديدات.
بالتالي المقاطعة ستزيد مِن عُزلة هذه الشعوب، وسيَنظر العالم إليها شزراً، والى تصرفاتها بإشمئزاز، والتي باتت تُنفِر
الآخرين منهم، وتدفعهم للبحث عن شعوب أخرى تتعامل معها، إقتصادياً وسياحياً وثقافياً، أو كمهاجرين أو أيادي عاملة،
شعوب سَوِّية منفتحة على الآخر، أو أقرب إليها جغرافياً وثقافياً ودينياً.
المواقف الرسمية لحكومات الدول العربية والإسلامية من المقاطعة، تبايَنت. بين الحكيمة كأغلب الحكومات العربية، التي
لا تدعم هذه الحملات رسمياً، لأنها تعلم بأنها نوبة هستيريا ستأخذ وقتها وتنتهي. وبين البراغماتية ودخول الحكومة لمَزاد
المقاطعة ومطالبتها الشعب بذلك، كما في تركيا. فقد نشرت وسائل الإعلام الحكومية قوائم لمُنتجات شركات يفترض أنها
تؤيد إسرائيل، وطالبت بمقاطعتها، وأشارت على الأتراك بالتوقف عن الذهاب إلى ستاربكس وماكدونالدز، والإمتناع عن
شراء قمصان أرماني وأحذية jمبرلاند! كما قالت رئاسة البرلمان التركي مثلاً، إن مُنتجات لشركات تدعم إسرائيل لن يتم
تقديمها في مطعم البرلمان. دعوات المقاطعة خلال الأزمات تقليد في إيران وتركيا وغيرها من الدول التي يحكمها إسلام
سياسي يعتاش على شعارات شعبوية لإلهاء الشارع. قبل سنوات مثلاً دعا أردوغان شعبه لعَدَم شراء الهواتف الأمريكية،
لأن أميركا فرضت عقوبات على تركيا، وقد أخذ الأمر وقته وإنتهى، وعاد آيفون الجهاز الأكثر مبيعاً بتركيا! أردوغان
الباحث عَن طريق، بين البرغماتية والشعبوية، يدرك مشاعر مواطنيه المعادية لإسرائيل، لذا سَعى لأخذ زمام المبادرة،
عبر توجيه نقد للهجوم الإسرائيلي على غزة، يعلم أن إسرائيل لن تأخذه على مَحمل الجد، لأنه لا يريد وليس من مصلحته
معاداتها. هو مثال على الحكام الإسلاميين الذين يحاولون التوفيق بين غضب شعوبهم، وبين مصالح بلدانهم مع إسرائيل.
هنالك الكثير مِن الأمثلة التي تثبت عبثية هذه الحملات، وعبثية وأحياناً حُمق المشاركين فيها. الأول هو أنهم يدعون الى
حَمَلاتهم بإستخدام الموبايلات واللابتوب، ويروجون لها في الإنترنت وبرامج التواصل الإجتماعي كفيسبوك وتويتر وتيك
توك، وكلها مُنتجات غربية! والثاني هو قيام مئات الأتراك قبل أيام بشراء كميات كبيرة من عبوات مُنتج كوكا كولا من
المتاجر، ثم سَكبها في الشارع تضامناً مع فلسطين، وإحتجاجاً على دعم الشركة لإسرائيل، وطبعاً في خضم هذه التضامن
والإحتجاج العبثي الغوغائي، سَجّل سهم فرع الشركة التركي زيادة قدرها 13% في بورصة أسطنبول! وهنا نسأل: هل
سيتحلى المقاطعون بالشجاعة، بعيداً عن المراءاة والإزدواجية التي نشأوا وتعودوا عليها! ويمتنعون عن ركوب طائرات
بويينغ وإيرباص والسيارات الأمريكية والأوروبية، لأنها صناعة شركات غربية، كثير منها تبرّعت لإسرائيل في أزمتها
الأخيرة، وهل سيكونون صادقين مع أنفسهم ومع غيرهم، ويعودوا لإستخدام الدَواب للتنقل؟ ليثبتوا أن بعض ظننا بهم إثم،
وبأنهم مقاطعون حقيقيون، وليسوا مقاطعي مَزادات، كما هي حقيقتهم!
مصطفى القرة داغي
karadachi@gmail.com