يولد الناس أحراراً، ولكنهم يرسفون بالأغلال في كل مكان. هذا ما قاله أحد فلاسفة الثورة الفرنسية. وإذا كان الكلام يعني الشعوب الاوربية في ذلك الحين، فإنه أيضا ينطبق في الوقت الحاضر على شعوب (الأرض الغبراء الممتدة الى ما لا نهاية من شواطئ المتوسط وحتى الصحراء البعيدة).
وحين كانت أوربا تعيش في عهد الظلمات، كان نور الحضارة يشع من هذه الأرض الطيبة، ويومها قال أحد رواد تلك الحضارة: (عجبت لمن يكون جائعاً ولا يشرع سيفه!). غير ان انسان شرق المتوسط الذي ساهم بجدارة في صنع الحضارة الإنسانية وجد نفسه ـ بعد حين ـ جائعاً ومكبلاً بالأغلال، فما الذي حدث حين فكر هذا الانسان باسترداد مكانته اللائقة في ركب الحضارة الإنسانية! وكيف جوبه حين خطر له أن يشهر سيفه ليكافح في سبيل حريته وخبزه!
هذا ما تجيبنا عليه رواية (شرق المتوسط). وهي رواية نضالية عالجت قضية اضطهاد الانسان بحس مرهف وبصراحة قد لا نجد لها نظيراً في أية رواية أخرى مماثلة عالجت هذه القضية بالذات. وجاءت الرواية كمحاولة لأن تكون (صرخة في جو الصمت، في الوقت الذي تبدو في الأفق غيوم سوداء كثيرة زاحفة).
انها دعوة مخلصة للوقوف بوجه الطغيان، لكيْ لا يصبح (الانسان أرخص الأشياء واقلها اعتباراً). وللتأكيد على أهمية القضية، سطر لنا المؤلف في صدر كتابه بعض الفقرات من الإعلان العالمي لحقوق الانسان، وكان يسقط في بعض التحديات، ولكنه كان دائماً يستمر) فهو لم يقهر كقضية برغم الازدراء والموت.
ثمة طقوس همجية يمارسها الجلادون في أعماق الزنزانات الرهيبة.. ولكن من الذي يخبر العالم؟ وما هو موقف العالم منها؟؟
هذا ما يمكن أن نستدل عليه من خلال أحداث الرواية، فبطلها (رجب إسماعيل) يحمل في اعماقه كل مرارة التجربة وقسوتها، ومن خلال تداعي الخواطر، وعلى لسان أكثر من شخص، نتعرف على عالم قد لا يبدو قريباً ولكنه رهيب، ففي هذا العالم تنعدم أبسط القيم الإنسانية.
إن الاغتيال والاعدام والقتل أمور هينة وتمثل الخلاص لمن يجد نفسه في زنزانات التعذيب الرهيبة، هناك تهدر كرامة الانسان هدراً بشعاً، والدماء تنزف وتنزف، الى ان يستحيل الإنسان الى كومة من اللحم المهروس، وهو في أتون هذا………………. قرر أن يسافر الى جنيف، ليخبر منظمة الصليب الأحمر الدولية بالحقيقة. وهناك عندما يعرفون: (سيضج العالم كله عندما يستمع الى قصص العذاب التي لا تتوقف، في الليل والنهار، على الشاطئ الأخر. كيف يمكن للإنسان أن ينام وأصوات الضحايا لا تكف لحظة واحدة عن النواح والانين؟). ولكنه حتى في الغربة يشعر بأنه ليس في منجى عن ملاحقتهم له، وتكفي كلمة منهم لقتله. لقد أخطأ مرة، سقط مرة، وها هي الفرصة تتاح له لأن ينهض مرة أخرى. (حامد) الآن معتقل كرهينة عنه. وصمد وتحداهم ورفض ان يكتب له طالباً منه العودة. العائلة تتعرض للمتاعب بسببه، فلم لا يعود ليتحداهم من جديد؟ أي شيء بقي لديه ليخاف عليه؟ ليس من العدل أن يظل (حامد) في السجن. في طريق العودة سيكتب الى الصليب الأحمر عن كل شيء. وهو يعرف بأنهم سيضربونه أكثر من قبل، غير انه سيتحداهم. الحقد. ما كان يعرف انه الحقد هو الشيء الوحيد الذي ظل ينمو في داخله: (أيها الجلادون. من حقدي وحقد الملايين سوف نهدم سجونكم. سنهدم سراديبكم. لن نبقي على سجناً واحداً يقف على تلك الأرض الممتدة من الشاطئ الشرقي للمتوسط حتى أعماق الصحراء).
وهكذا عاد (رجب إسماعيل) لينقذ بقايا الانسان الذي هدموه في داخله، عاد ليدفع ثمن حريته الزائفة التي منحوها إياه بعد السقوط، عاد وهو مصمم على مجابهتهم حتى النهاية.
وكطيار شجاع تنفذ ذخيرته في قلب المعركة، فينقض بحطام الطائرة على الأعداء، عاد رجب الى (شاطئ المتوسط) متحديا الطغيان من جديد، وفي صدره تجيش أمنية كبيرة، وهي أن يموت على أيديهم، ليغسل عن نفسه العار الذي الحقوه به!
ويموت رجب..
ويسلك حامد ذات الطريق ومع نمو ابنه (عادل) ينمو الثأر!
ــــــــــــــــــــ
جمعة كنجي
ـــــــــــــــــــــ
ـ بناء على طلب الأصدقاء.. انشر للراحل جمعة كنجي.. ما ورد في مقاله النقدي عن رواية (شرق المتوسط) لـ عبد الرحمن منيف.. نبه وحذر من خلاله.. رغم خطورة هذه الاسطر عليه ككاتب.. الشيوعيين في العراق من مسار الأوضاع وتحولاتها في تلك المرحلة مقترنة بما ورد في نص الرواية من تداعيات شخوص الرواية وعذاباتهم في الزنازين والمعتقلات التي شرعت أبوابها لاستقبال المزيد من الأبرياء والضحايا.. وللتاريخ أقول لم يكن هو الوحيد الذي نبه من خلال الادب والنقد المناهض للعنف والاستبداد.. على خطورة تلك المرحلة وقرأت للكاتب ابراهيم احمد قصة صفارة الإنذار التي كانت تنحو لذات الهدف وتسجل للمثقفين والأدباء موقفهم السابق للسياسيين.. المشخص لخطورة الموقف.. وما كان يجري بالقرب من بوابات الجحيم التي استنزفت الكثير من الأرواح لاحقاً بشراهة القتلة المتوحشين من زبانية البعث المتعطشين للدماء.. لتشكل مقدمة للدخول في دهاليز الحروب وما حل في العراق والمنطقة من خراب ما زالت تداعياته مستمرة ليومنا هذا رغم مرور ربع قرن على تلك الأيام التعيسة.. شكرا للعزيز كاردو الذي أرسل لي من ملفاته المصورة نسخة من المقال الذي اعدت تنضيده للقراء من جديد..
نشرت في العدد (278) من جريدة الفكر الجديد في 11شباط 1978..